عمر قشاش الغائب الحاضر || ست سنوات على رحيله

فرج فرج 

قلما تجد عند المشتغلين بالحقل السياسي وخاصة عند أهل اليسار منهم ، احتراماً لشخصية عامة مثل احترامهم لشخصية الراحل عمر قشاش ” أبو عبدو ” وقد برز ذلك من خلال ما كُتب عنه لحظة رحيله على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل شخصيات سياسية وكتاب ومثقفين وتنظيمات حزبية ومن عامة الناس خاصة اولئك الذين تعرفوا عليه عن قرب .

يعود ذلك للمسيرة المكافحة والنضالية التي طبعت سنوات عمره الطويلة ، ولادته في البلاط الفوقاني أحد أحياء حلب القديمة ضمن أسرة كبيرة تعيش من عرق جبين

رجالها ، لم تتوفر للراحل سبل التعليم الرسمي فقد تعلّم الحرف والقراءة لدى شيخ الكتاب بالتوازي مع عمله وهو في سن الثالثة عشر في مطابع حلب يتخللها العمل مع والده

في مقالع الحجارة لفترة قصيرة حيث كان يحصل على ست ليرات سورية في اليوم متحملاً قسوة العمل بالنسبة لطفل في الخامسة عشر من عمره ، ليعود للعمل من جديد في مجال الطباعة حيث الاحتكاك مع الكلمة وصناعها وبداية تنامي وعيه الاجتماعي والسياسي والوطني ، وكان قد بلغ العشرين من عمره عند استقلال سوريا ليتنامى الصراع الاجتماعي فيها بعد ذلك ويجد نفسه في صفوف الحزب الشيوعي السوري حيث كان الحزب الرئيسي والأقدم في تبني قضايا الشغيلة في سوريا ،وقد قاوم اغراءات قيادات أحزاب البرجوزية في استمالته إلى صفوفهم لما وجدوا فيه من سمات قيادية ، ولم يعد عاملاً عادياً بل انتقل تدريجياً إلى مواقع الدفاع عن مصالح العمال ليصبح أبرز النقابيين ليس في مدينة حلب ،حيث لعب دوراً أساسياً في تأسيس الاتحاد المهني لعمال الطباعة فيها عام 1951 ،بل على صعيد عضويته في الإتحاد العام لنقابات العمال في سوريا فكان من أشد الرافضين لمحاولات السلطة بتحويل النقابات إلى واجهات سياسية لها وتخليها عن دورها في الدفاع عن مصالح الشغيلة .

اعتقاله في سنوات الوحدة وصلابته أتناء تعرضه للتعذيب ورفضه الانسحاب من الحزب وانكبابه على تعلم اللغة الفرنسية وأصول اللغة العربية ، اضافة إلى تفانيه في

خدمة رفاقه المعتقلين حيث تطوع طوال سنوات السجن

في حمل برميل النفايات إلى السيارة الخاصة بذلك ، كل ذلك أكسبه مكانة خاصة بين كادرات الحزب اللصيقة به

خلال فترة السجن ، وهذا ما دفع الحزب لارساله إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة العلوم السياسية والاجتماعية والفلسفية ، وسرعان ما يتم ضمه إلى اللجنة المركزية في العام 1965، ليتم انتخابه لعضويتها في المؤتمر الثالث 1969 وينال اجماع أصوات المندوبين ويصبح عضواً في مكتبها السياسي هو وستة آخرين: خالد بكداش،يوسف فيصل،دانيال نعمة،ابراهيم بكري،ظهير عبد الصمد ورياض

الترك .

ومنذ تاريخ عضويته في اللجنة المركزية ترأس وفود

الحزب أو شارك في عضويتها إلى مؤتمرات الاحزاب الشيوعية والعمالية وقابل شخصيات عالمية مثل هوشه منه .

يعاد انتخابه لعضوية اللجنة المركزية ومكتبها السياسي في المؤتمر الرابع أواخر 1973 وهو أول مؤتمر بعد الانشقاق الذي قاده خالد بكداش ، وبدأت تحولات الحزب التدريجية في ميادين الفكر والسياسة والتنظيم ، ومن أهم هذه التحولات تبنيه للمسألة الديمقراطية والاستقلالية وتكريسها في المؤتمر الخامس للحزب أواخر 1978 حيث يعاد انتخاب أبو عبدو إلى نفس المواقع القيادية وهو في

المعتقل منذ حزيران 1978 ويتم الافراج عنه في شباط 1980 ، ولم يستمر خارج السجن طويلاً حيث تم اعتقاله مع المئات من قيادات الحزب وكادراته في شهر تشرين الأول من نفس العام ليستمر في السجن خمسة عشر عاماً حتى شهر تشرين الأول 1995 ، ويعود من جديد وقد بلغ السبعين من العمر أكثر صلابة وقناعة في مواجهة الاستبداد متحملاً مختلف أنواع الضغوط وقسوة العيش، واصبح داعية نقابي متنقل، يكتب عن فساد أجهزة الدولة المختلفة وتسلطها وسرقة حقوق الشغيلة في القطاع العام ووقوفها إلى جانب أرباب العمل وتحويل النقابات ومؤسسة التأمينات والشؤون الاجتماعية إلى ملحقات بها وظل تحت

الرقابات الأمنية اللصيقة به على الدوام ليتم اعتقاله في الشهر الثاني من انطلاقة الثورة السورية وهو يوزع بيانه

المعهود بمناسبة الأول من آيار عيد العمال وكان قد بلغ الخامسة والثمانين من العمر .

عمر قشاش نموذج متميز في قدرته على النضال في سبيل القيم الوطنية والاجتماعية العليا ومؤمناً بقدرة الشعب بالخلاص من النظام الديكتاتوري الذي ثار عليه من أجل نيل حريته وكرامته، وأشد ما كان يقلقه هو مآل الثورة

السورية والحال الذي أصبح عليه السوريين من قتل وتشريد وسجن وتهديد وحدة الأرض والمجتمع وانحدار مستوى معيشة غالبية الناس .

عاش طوال حياته مترفعاً عن الصغائر ، محباً للمحيطين به من رفاق وحلفاء وأصدقاء وجيران وأهل ، يخلق الألفة والمودة بينهم ، وقد تميز داخل الحزب بالتواضع واحترام هيئات الحزب ومفسحاً المجال أمام الكادرات الجديدة ، وأكثر ما آلمه في السنوات الأخيرة هو حالة الوحدة التي عاشها في حلب فآثر الانتقال مع زوجته وأميرته إلى سلمية ، المدينة التي أحبته وأحسنت الاحتفاء به وبتاريخه كما أحب هو أهلها بكل جوارحه .

وأختم بما كتبه الدكتور عبدالله حنا بعيد رحيل أبو عبدو : ((في سلمية ، ذات الجذور التاريخية ، وفي هذه الأيام الحزينة ، يرقد جثمان إنسان ممن كانوا في عداد ” من لا تاريخ رسمي لهم ” .. من صانعي ” التاريخ من الأدنى ” .. من ” المستضعفين في الأرض ” والحالمين بمستقبل زاهر للبشرية )) .

 

المصدر: صفحة مازن عدي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى