سيرغي لافروف… نسخة أكثر تشدداً من “السيد لا”

بشير البكر

يعود وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للواجهة مرة أخرى. لا أحد يشغل الإعلام العالمي اليوم أكثر منه.

ورغم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو صاحب مشروع غزو أوكرانيا، فإن وزير خارجيته هو الذي يؤدي دور “المايسترو”، وفق ما سار عليه منهج تقسيم العمل بين الرئيس والوزير، منذ تسلّم لافروف مهامه على رأس أهم الوزارات في تاريخ هذا البلد، في 9 مارس/ آذار عام 2004، ولم يبرحه حتى اليوم.

وعايش بذلك عدة محطات مهمة، وواجه تحديات دخلت فيها روسيا في مواجهات دبلوماسية كبيرة، ومن بينها أحداث جورجيا في صيف عام 2008، وتدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا عام 2011 ضد حكم الرئيس الراحل معمر القذافي، والتدخل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/أيلول عام 2015.

كان أمام لافروف 3 أمثلة لوزراء سبقوه إلى منصب وزير الخارجية

ليس هناك دبلوماسي أميركي أو أوروبي مارس هذه المهنة طوال العقدين الماضيين، إلا ولديه قصة أو أكثر مع لافروف. وكان قد بدأ حياته الدبلوماسية في 1972 ملحقاً دبلوماسياً في السفارة السوفييتية في سريلانكا، بعد أن درس لغة أهل تلك البلاد “السنهالية” في معهد العلاقات الدولية في موسكو، وهو ثاني اختصاص له.

ودرس لافروف الفيزياء في البداية، وكان لامعاً في هذا المجال، حسب معارفه، لكنه تحول إلى اللغات الإنكليزية، الفرنسية، والسريلانكية، التي رفض على الدوام أن يقدم سبب دراسته لها.

لكنه كان يعرف جيداً أن اللغات الأخرى ستأخذه للعمل في السلك الدبلوماسي من عام 1976، بدءاً من وزارة الخارجية، ومن ثم مندوب روسيا في الأمم المتحدة في 1994، حيث برز هناك وذاع صيته، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر والحرب على أفغانستان في 2001، ومن ثم غزو العراق عام 2003.

3 أمثلة أمام لافروف

وبعدها استدعاه بوتين ليجلس جانبه، ويدير وزارة الخارجية التي تحتل مكانة مهمة في السياسة الروسية على الدوام. وحين تسلّم مهامه، كان أمامه ثلاثة أمثلة لوزراء سبقوه إلى هذا المنصب.

الأول هو القومي ألكسندر غورتشاكوف، الأمير الذي شغل منصب وزير خارجية روسيا بعد هزيمتها أمام الدولة العثمانية وفرنسا وبريطانيا في حرب القرم منتصف القرن التاسع عشر، وتوقيع معاهدة باريس في 1856.

والمثال الثاني هو أندريه غروميكو، وزير خارجية الاتحاد السوفييتي بين 1957 و1985، والملقب بـ”السيد نيت” (لا) لكثرة استخدامه حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي. والثالث هو يفغيني بريماكوف، الذي شغل المنصب بين 1996 و1998، وهو من أب أوكراني، ولد في جورجيا.

واستشهد لافروف بفخر، عدة مرات، بغورتشاكوف، الذي نجح في “استعادة النفوذ الروسي في أوروبا، بعد الهزيمة في حرب القرم، وقام بذلك دون تحريك بندقية، بل فعل ذلك حصراً من خلال الدبلوماسية”.

ونفض لافروف الغبار عن كتب التاريخ القيصرية، وأعاد إحياء غورتشاكوف كنموذج لدبلوماسية روسية جديدة. وكتب مقالاً طويلاً يشيد بمناورات غورتشاكوف الذكية في السياسة الواقعية. وحتى إنه نصب له تمثالاً نصفياً في وزارة الخارجية، التي توصف بأنها ناطحة سحاب ستالينية مليئة بالآلاف من البيروقراطيين العاطلين من العمل، الذين بالكاد كانوا يتقاضون رواتبهم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

وحين تسلّم لافروف الخارجية، علّق الوزير الأسبق، الذي كان أول من تولى المنصب بعد نهاية الحقبة السوفييتية، أندريه كوزيريف، قائلاً: “إنه خيار معقد على الأقل”. وأشار إلى الأحاديث التي صدرت في السنوات الأخيرة عن العديد من حلفاء بوتين، الذين أشادوا بوزير خارجية جوزيف ستالين، فياتشيسلاف مولوتوف، الذي تُنسب إليه كتابة المعاهدة السرية مع النازيين لتقسيم أوروبا الشرقية. وقال: “من الأفضل التظاهر بأنك تتبع غورتشاكوف، بدلاً من اتباع مولوتوف”.

نقطة التحول في السياسة الخارجية لروسيا

يمثل تعيين بريماكوف وزيراً للخارجية في 1996 نقطة تحول في السياسة الخارجية الروسية، التي كانت تسعى للتوافق مع الغرب. ووفقاً للافروف، فقد نفذ بريماكوف خروجاً جذرياً عن هذا المسار. وقال: “لقد تركت روسيا طريق شركائنا الغربيين… وشرعت في مسار خاص بها“.

ظلت روسيا على مسارها منذ ذلك الحين، وظهر ذلك بوضوح في قرار بريماكوف إلغاء زيارته لواشنطن في الجو، وأمر طياره بالعودة إلى موسكو، احتجاجاً على قصف حلف شمال الأطلسي لصربيا في مارس 1999.

ومنذ ذلك الحين صار يجري الحديث عن “عقيدة بريماكوف”، التي تقوم على أولوية روسيا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي، والسعي لتحقيق تكامل أوثق بين جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة مع روسيا في الصدارة، ومعارضة توسيع “الناتو”، وبذل الجهود لإضعاف المؤسسات عبر الأطلسي والنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، والشراكة مع الصين. وهذا ما يشكل ركائز السياسة الخارجية الروسية اليوم.

وبالنسبة إلى الدبلوماسيين الأميركيين، الذين دخلوا بمواجهات معه، فإن لافروف نوع من التجديد السوفييتي المتطور ببزة إيطالية، وهو الدكتور “نيت” المحدّث. ووصفه ديفيد كرامر، المساعد السابق لوزيرة الخارجية في إدارة جورج بوش الابن، كونداليزا رايس بأنه “نسخة حديثة من السيد “لا”. غروميكو في العصر الحديث. مثل الروس بشكل عام، يريد الاحترام، لذلك يبحثون عن طرق لممارسة حق النقض”.

تعيين بريماكوف وزيراً للخارجية في 1996 شكّل نقطة تحول بالسياسة الخارجية الروسية (Getty)

وحين سأل صحافيون لافروف ما الذي تغير في سياسة موسكو الخارجية منذ تسلم بوتين السلطة في عام 2000، لم يتطرق إلى هذا الأمر، بل ألقى محاضرة حادة حول كيف تمكن رئيس الكرملين من جعل روسيا عظيمة مرة أخرى، بعد الإهانات التي تلقتها في تسعينيات القرن الماضي. والأهم من ذلك، كيف يمكن روسيا عظيمة مرة أخرى، أن تتمتع بسياسة خارجية “حازمة”.

وتشعر روسيا بأنها أكثر حزماً. ليست عدوانية، لكنها حازمة. وقال لافروف: “لقد خرجنا من الموقف، حيث وجدنا أنفسنا في أوائل التسعينيات عندما اختفى الاتحاد السوفييتي، وأصبح الاتحاد الروسي على ما هو عليه كما تعلمون”. وهو يعني أنه أصبح بلا حدود، ودون ميزانية ولا أموال ومشاكل ضخمة، بدءاً بنقص الغذاء وما إلى ذلك.

واعتبر لافروف أن روسيا “دولة مختلفة للغاية الآن. وبالطبع، يمكننا الآن أن نولي المزيد من الاهتمام لرعاية مصالحنا المشروعة في المناطق التي كنا غائبين عنها لبعض الوقت، بعد زوال الاتحاد السوفييتي”. والمناطق التي ذكرها، هي أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا. بمعنى آخر، وإلى حد كبير، بقية العالم. كانت الرسالة واضحة لأولئك الذين يتذكرون كيف كانت تبدو السياسة الخارجية الحازمة للعصر السوفييتي.

وُلد سيرغي فيكتوروفيتش لافروف في 21 مارس 1950، على مشارف نهاية الحقبة الستالينية في 1953، وقبل سنوات قليلة من بدء غروميكو مسيرته الطويلة في مهمة قول “لا”. وهو وُلد في موسكو لأب أرمني وأم روسية من جورجيا.

شخصية لافروف تهيمن على مجلس الأمن

وخلال مهمته في الأمم المتحدة، هيمنت شخصية لافروف في كثير من الأحيان على مجلس الأمن بملاحظاته الحادة، وروح الدعابة اللاذعة، وبنيته المهيبة جسدياً. وكان معروفاً بحماسته للتدخين.

ويتذكر أحد السفراء الغربيين، الذين خدموا في مجلس الأمن، عندما حظرت الأمم المتحدة التدخين في عام 2003، احتجاج لافروف على هذا الأمر، رافضاً التوقف عن التدخين، بينما اشتكى بشدة من أن الأمين العام آنذاك كوفي عنان “لا يمتلك هذا المبنى”. ويروي مسؤول أميركي كبير سابق، قضى عدة ساعات على الطاولة أمامه، أنه “كان يدخن مثل المدخنة… إنه يذكرك بالشكل الذي كان يبدو عليه الدبلوماسيون في القرن التاسع عشر”.

كان لافروف موهوباً في إثارة حنق كونداليزا رايس، التي عملت مساعدة خاصة للرئيس جورج بوش الأب للشؤون السوفييتية، قبل أن تعمل مع نجله الرئيس جورج بوش الابن مسؤولة مكتب الأمن القومي ووزيرة خارجية.

وكتبت رايس، في مذكراتها التي عنونتها “أسمى مراتب الشرف”، أنها طورت، في البداية، مع لافروف “علاقة جيدة، رسمية إلى حد ما وأحياناً مثيرة للجدل. لقد كان، مثلي، مناظراً طبيعياً لا يمانع في القتال اللفظي”.

كانت رايس تنظر إلى لافروف على أنه متنمر (سكوت هاليران/Getty)

ومع ذلك، في وقت لاحق من ولايتها، أصبحت تنظر إليه بشكل متزايد على أنه متنمر، ليس فقط بسبب إصرار روسيا على البروز مجدداً على المسرح العالمي. وجاءت الضربة الأقوى في أثناء الغزو الروسي لجورجيا في صيف 2008.

تقول رايس، في مذكراتها، إنها اتصلت به هاتفياً بينما كان يقضي إجازة، فقابلها بتهكم أغضبها. وفي المكالمة الثانية، كان لديه ثلاثة مطالب. الأول والثاني حول وقف الأعمال العدائية، فيما نقلت عن لافروف قوله إن “المطلب الآخر بيننا فقط. (رئيس جورجيا) ميخائيل ساكاشفيلي يجب أن يرحل”.

وتقول إنها ردت عليه بأنه ليس في وسع وزيرة الخارجية الأميركية الاتفاق مع وزير الخارجية الروسي على إطاحة رئيس دولة منتخب ديمقراطياً، و”الشرط الثالث أصبح علنياً، لأنني سأتصل، وأنشر الخبر بأن روسيا تطالب بإطاحة الرئيس الجورجي”. ولم ينجح لافروف في ثنيها، وإصراره على أن “الأمر كان بيننا”.

ساركوزي وصف لافروف بالكاذب

ولم تكن رايس الوحيدة التي أغضبها لافروف خلال الأزمة. بل كذلك الرئيس الفرنسي في ذلك الحين نيكولا ساركوزي، الذي قام بجولة مكوكية لمحاولة تأمين وقف إطلاق النار في أوسيتيا الجنوبية.

ووفقاً لبرقية داخلية لوزارة الخارجية الفرنسية، نُشرت في وقت لاحق على موقع “ويكيليكس”، فإن “ساركوزي أمسك لافروف من طيّة صدر السترة، ووصفه بالكاذب”، وأن ساركوزي حذّر روسيا من أن موقعها “كقوة كبرى قد تضرر بشكل خطير بسبب رفضها احترام التزاماتها”. ولكن ما كان يهم روسيا في حينه، منع انضمام جورجيا إلى “الناتو”، ورحيل سكاشفيلي، وهذا ما حصل.

بحلول ربيع 2011، عندما اندلعت ثورات “الربيع العربي”، وكان معمر القذافي يهدد بسحق مدينة بنغازي، ذهبت روسيا إلى حد الامتناع عن التصويت، بدلاً من “الفيتو”، على قرار توسطت فيه الولايات المتحدة في مجلس الأمن، يأذن بفرض منطقة حظر طيران لحماية المدنيين الليبيين. ومنذ ذلك الحين، كان لافروف يصرّ على أن روسيا لم تمنح الإذن بالتدخل العسكري الغربي لإطاحة القذافي، الذي أعقب ذلك.

بعد بضعة أشهر، جعل لافروف من سورية قضيته. وخاض مواجهات مع وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، ولم يهدأ باله حتى حلّ مكانها جون كيري، الذي أشادت به وسائل الإعلام الروسية وأنه “رجل يمكن روسيا التعامل معه”. وقال رئيس لجنة العلاقات الدولية في مجلس الدوما، أليكسي بوشكوف، إن كيري ولافروف كانا في الواقع صديقين “براغماتيين محترفين” ويتعاونان بشكل رائع.

وفشل الأميركيون مرة أخرى في تغيير موقفه من سورية. وكان على الدوام يشهر في وجه وسائل الإعلام رأي غورتشاكوف، أن “التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية غير مقبول… من غير المقبول استخدام القوة في العلاقات الدولية، وخاصة من قبل الدول التي تعتبر نفسها قادة الحضارة”. وهذا ما لم يطبقه لافروف في ليبيا وسورية وجورجيا، وترك للقوة أن تقرر، وتصبح اللغة الوحيدة، وهذا ما يحصل اليوم في أوكرانيا.

لافروف يجسد موقف الكرملين المتحدي

وفي سن الـ71، أصبح لافروف أكثر بكثير من مجرد لسان حال بوتين. وباتت مسيرته الدبلوماسية تمتد على 50 سنة. عاصر الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي. ومنذ عقدين يدير علاقة موسكو بالغرب. وفي خضمّ الغزو الروسي لأوكرانيا، يجسد لافروف موقف الكرملين المتحدي، باعتباره أكبر دبلوماسي في البلاد.

أما الوصف الذي أطلقته عليه صحيفة “ديلي ميل” البريطانية، منذ أيام، بأنه “كلب هجوم بوتين المخلص”، فيأتي لأنه نذير الرئيس الروسي، ولا سيما حين هدد بأن الحرب العالمية الثالثة ستكون “نووية ومدمرة”، وفي ذلك رسالة صريحة من بوتين لحلف شمال الأطلسي والغرب.

ولكن على الرغم من أن لافروف مكلف إيصال رسائل رئيسه إلى العالم بأسلوب وحشي، إلا أنه أكثر بكثير من مجرد لسان حال بوتين. وهو يراقب علاقات بلاده مع الغرب، وقد انتقلت من شبه ودية إلى شفا حرب نووية. ولكن بالنسبة إلى الكثيرين، فإن قدرة لافروف اللامتناهية على تحدي الأميركيين هي بالضبط النقطة المهمة.

قد يكون لروسيا عدد قليل من الأصدقاء الحقيقيين ما بعد الاتحاد السوفييتي. فقد ولّت منذ فترة طويلة الإعانات السخية التي يقدمها النظام الروسي، ومبيعات الأسلحة المحسّنة، لكن هناك العديد من القوى الناشئة التي ابتهجت لاستعداد لافروف لتحدي القوة العظمى. مهمته الأساسية ليست تقريع أميركا، بل الترويج لروسيا. إنه “السيد نيت” في نظر الأميركيين. لكنه في الحقيقة ليس غروميكو ولا بريماكوف. صلابة لافروف تأتي من موقف “قومي” للغاية. إنه يعتقد أن تسعينيات القرن كانت إذلالاً لروسيا، وطموحه استعادة صورة روسيا وسياستها الخارجية، وهذه هي نقطة اللقاء مع بوتين.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى