لم يشكل هجوم روسيا غير المبرر على أوكرانيا أي مفاجأة، إذ علمت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في الخريف الماضي ما تخطط للقيام به، لا بل قاموا حتى بنشر خطط الكرملين للعالم. وعلى الرغم من ذلك، فشلوا في منع الهجوم الروسي على جارتها الأضعف بكثير. وبعد استبعاد تقديم مساعدة عسكرية مباشرة إلى أوكرانيا، سيبقى من الصعب بكل الأحوال ردع روسيا المصممة على السيطرة على جيرانها وقلب نظام أوروبا الأمني بعد عام 1990 رأساً على عقب.
والأرجح أن التهديدات نفسها التي فشلت في ثني روسيا عن الغزو من قبل، على غرار العقوبات الشديدة والمساعدة العسكرية لأوكرانيا وتعزيز “الناتو”، لن تجبرها على تغيير مسارها الآن. عوضاً عن ذلك، تحتاج واشنطن وحلفاؤها الديمقراطيون إلى الشروع في استراتيجية احتواء تزيد التكاليف التي تتكبدها روسيا وتفرض في نهاية المطاف تغييراً سياسياً داخلياً ينهي نظام فلاديمير بوتين الوحشي.
إن الخطوط العريضة في قائمة الخطط تلك تعد مألوفة، وقد وضعها لأول مرة في أواخر أربعينيات القرن الماضي جورج ف. كينان، وهو دبلوماسي كبير في سفارة موسكو، وتم شرحها بالتفصيل في صفحات هذه المجلة. وجادل كينان بأن جنون العظمة وانعدام الأمن في نظام ستالين كانا يمثلان خطراً واضحاً على الغرب، ودعا إلى ضغط مضاد ثابت وقوي. بيد أن كينان اعتقد أيضاً أن الاتحاد السوفياتي كان ضعيفاً وعانى من تناقضات داخلية دمرت النظام في النهاية.
استغرق الاحتواء 40 عاماً لينجح، وشمل أخطاء كثيرة لا داعي لها ارتكبتها الولايات المتحدة، بما في ذلك شن حرب فيتنام ودعم الإطاحة العنيفة بعدد من الحكومات. ولكن في نهاية المطاف، أطلقت تلك السياسة العنان لقوى داخل الاتحاد السوفياتي أدت إلى نهاية النظام.
والآن تُعد العودة إلى سياسة الاحتواء القوية أفضل خيار متاح أمام الغرب. وسيظل الهدف الأساسي هو نفسه كما كان في السياسة القديمة، علماً أنه يتلخص بمواجهة التوسع الروسي، وجعل النظام الروسي يتكبد تكاليف حقيقية، والتشجيع على تغيير داخلي يؤدي إلى الانهيار النهائي لبوتين والبوتينية. وبالطبع، يجب تكييفه مع الحقائق الموجودة اليوم بدلاً من تلك التي سادت في نهاية الحرب العالمية الثانية. وعلى وجه الخصوص، ينبغي التعامل بشكل استباقي مع علاقات روسيا الوثيقة بالصين الحازمة والقوية حديثاً.
مع ذلك، روسيا ليست الاتحاد السوفياتي الذي مثل قوة عسكرية وأيديولوجية عملاقة كادت تكون مساوية للولايات المتحدة. على الرغم من أنها لا تزال قوة نووية، إلا أن جيشها هو مجرد ظل لما كان عليه سابقاً في الاتحاد السوفياتي، واقتصادها أصغر من اقتصاد كندا التي يبلغ عدد سكانها ربع سكان روسيا. في غضون ذلك، ازدادت قوة الغرب. في الحقيقة، تمتلك الولايات المتحدة قوة عسكرية منقطعة النظير ويفوق اقتصادها 13 مرة حجم اقتصاد روسيا. في مقلب مغاير، برزت أوروبا، القارة المهزومة بسبب الحرب والفقر بعد الحرب العالمية الثانية، كعملاق اقتصادي متماسك ذي جيش يتمتع بقدرات حديثة ومهمة للدفاع ضد الجيش الروسي الممتد، على الرغم من نقص التمويل. ونتيجة لذلك، على الرغم من أن سياسة الاحتواء لن تحقق نجاحاً أو انتصاراً سريعاً، فتطبيقها المطرد في الأشهر والسنوات المقبلة يجب أن يؤدي إلى التغيير الضروري في روسيا خلال السنوات الخمس إلى العشر المقبلة.
ثلاث ركائز
يتألف تحديث الاحتواء بشكل فعال في القرن الحادي والعشرين من ثلاث ركائز رئيسة: الحفاظ على قوة الولايات المتحدة العسكرية، وفصل الاقتصادات الغربية عن روسيا، وعزل موسكو. تلك العناصر الثلاثة معاً ستزيد بشكل مطرد التكلفة التي تتكبدها روسيا لمواصلة سياساتها التوسعية، وستثير النقاش والمعارضة في الداخل، وفي النهاية يمكن أن تفرض تغييراً في الحكم. لكي نكون واضحين، يجب تشجيع هذا التغيير داخلياً، إذ على الرغم من أن الولايات المتحدة تسعى إلى وضع حد للبوتينية، فذلك لن يحدث إلا عندما يقرر الشعب الروسي أن الوقت قد حان. كما أن العودة إلى الاحتواء لن تؤدي إلى إنهاء فوري للحرب في أوكرانيا. في الواقع، سيتطلب ذلك إجراءات إضافية، بما في ذلك تزويد أوكرانيا بالوسائل العسكرية التي تحتاج إليها للدفاع عن نفسها ومقاومة الاحتلال إذا نجحت روسيا في الاستيلاء على كل البلاد أو على جزء منها. كذلك، سيتطلب الأمر معونات اقتصادية وإنسانية ضخمة لمساعدة السكان المحاصرين في أوكرانيا وأولئك الذين أجبروا على الفرار من البلاد.
على الرغم من أن الولايات المتحدة ودول “الناتو” الأخرى تحافظ على جيوش كبيرة، إلا أن عقدين من نقص الاستثمار الأوروبي والاشتباكات الأميركية العسكرية في الشرق الأوسط وأفغانستان قد تركت حلف “الناتو” غير مستعد على الإطلاق للعودة إلى موقف رادع قوي. وفي ذلك الإطار، يدل خضوع الجيش البيلاروسي للقيادة الروسية وغزو أوكرانيا على رسم خط جبهة جديد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، تقوم فيه الحدود الشرقية لإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا بتحديد الجناح الشرقي الجديد لحلف “الناتو” بشكل فعال. نتيجة لذلك، يحتاج “الناتو” إلى التحرك بسرعة للدفاع عن الجبهة الجديدة.
لقد اتخذ التحالف خطوات لتعزيز الردع في الشرق، لكن تلك التحركات أقل من المستوى المطلوب من أجل حل الوضع. في سياق متصل، ضاعفت الولايات المتحدة وجودها البري في بولندا، إلى 9000 جندي، وأرسلت تعزيزات جوية وبحرية إلى دول أخرى. وعلى نحو مماثل، زادت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة من وجودها العسكري في رومانيا وسلوفاكيا ودول البلطيق. كذلك، قام “الناتو” بتنشيط “قوات الرد” التي تضم 40 ألف جندي لأول مرة، على الرغم من أن الخطط الحالية لا تتضمن التعبئة الكاملة للقوة بأكملها. وفي حين أن تلك الخطوات الأولية قد عززت القوات التي نشرت شرقاً في أعقاب الغزو الروسي الأولي لأوكرانيا عام 2014، غير أن حجمها بالكاد يتخطى حجم لغم صغير، لن يكون قادراً على توفير دفاع قوي إذا هاجمت روسيا أراضي “الناتو”.
لهذا السبب أصبح من الضروري الآن إعادة التفكير بشكل أساس في تموضع وجهوزية القوات الأمامية التابعة لحلف “الناتو”. وفي ذلك المجال، يحتاج “الناتو” إلى نشر عشرات الآلاف من القوات، بدلاً من بضعة الآلاف التي استخدمها حتى الآن. والجدير بالذكر أن المطلب الأكثر إلحاحاً هو نشر لواءين أو ثلاثة ألوية قتالية في شرق بولندا وجنوب ليتوانيا للدفاع عن “فجوة سوالكي”، وهي عبارة عن 60 ميلاً تفصل بين كالينينغراد الروسية وبيلاروس. إذا ربطت القوات الروسية أو البيلاروسية هاتين الأرضين معاً، ستُعزل دول البلطيق فعلياً عن بقية “الناتو”.
سيتطلب الاستعداد لوجود طويل الأمد في الشرق أيضاً استثمارات كبيرة في الموانئ وخطوط السكك الحديدية والمطارات والطرق وإمدادات الوقود والبنى التحتية الحيوية الأخرى لتحسين قدرة “الناتو” على تعزيز قواته بسرعة. علاوة على ذلك، نظراً لتهديدات بوتين باستخدام الأسلحة النووية جنباً إلى جنب مع نشر صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية وعلى الأرجح مزودة فعلاً برؤوس نووية في كالينينغراد وأجزاء أخرى من غرب روسيا وربما في بيلاروس، سيحتاج “الناتو” إلى النظر في فعالية وضعه النووي.
لا يعني أي من هذا أن “الناتو” بحاجة إلى الاستعداد للحرب، بل إن الردع يتطلب الآن رؤية أكبر، ووجوداً في مواقع متقدمة أكثر مما كان مطلوباً قبل هجوم روسيا على أوكرانيا. وبغض النظر عما قد يفكر فيه بوتين في شأن إجراء تعديل قسري في النظام الأمني في أوروبا بعد عام 1990، يتعين على “الناتو” أن يوضح أن الرئيس الروسي لا يستطيع النجاح في ذلك. وهذا يتطلب وجوداً رادعاً قوياً في الشرق والتزاماً كبيراً بزيادة الإنفاق على المدى الطويل. وفي ذلك الإطار، يُعد قرار ألمانيا بإنفاق 100 مليار يورو الآن وما لا يقل عن 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح.
ما وراء الجبروت العسكري
على الرغم من أن القوة العسكرية هي شرط أساسي للردع، إلا أنها ليست كافية. في الواقع، في البداية سيؤدي الانتشار المتقدم [الانتشار على الخطوط الأمامية] للقوات العسكرية إلى تعزيز الانقسامات في أوروبا، وسيترك شعوب أوكرانيا والقوقاز، وبالطبع بيلاروس وروسيا، تحت سيطرة بوتين. ولا يمكن للغرب أن يسمح بعودة “الستار الحديدي” الذي يقسم أوروبا. لهذا السبب فالاحتواء الجديد يحتاج أيضاً إلى سياسة الفصل الاقتصادي والعزلة السياسية، وهي إجراءات مصممة من أجل التسبب بتكاليف متزايدة باستمرار على روسيا، وفرض تغيير من الداخل.
تشكل العقوبات التي أعلنت عنها الولايات المتحدة وحلفاؤها خطوة أولى مهمة. لقد قُطع الدعم المالي والائتماني عن روسيا فعلياً، وستؤدي ضوابط التصدير المفروضة على التكنولوجيا إلى تقليص الواردات إلى روسيا بشدة. في هذه الأثناء، ستقود العقوبات على بوتين ورفاقه وعائلاتهم إلى عزلهم في بيوتهم الريفية الروسية، غير قادرين على التسكع على متن يخوتهم الخاصة في سانت تروبيز أو شققهم الفخمة المؤلفة من طبقتين في لندن. على الرغم من أن كثيرين انتقدوا تلك العقوبات باعتبارها قليلة جداً ومتأخرة للغاية، إلا أن تلك الانتقادات تفترض أن الغرض من العقوبات هو وقف التقدم العسكري الروسي. بيد أن ذلك لم يكن ليحدث على الإطلاق. بدلاً من ذلك، صُممت العقوبات بهدف التسبب بخسائر وتكاليف على مدى أشهر وسنوات من أجل فرض تغيير في السلوك.
إن فعالية العقوبات على روسيا ستعتمد على عاملين. أولاً، تكمن الحيلة في تطبيقها من قبل أكبر عدد ممكن من البلدان. في الواقع، كانت إدارة بايدن على حق في مجاراة أوروبا، حتى عندما شاركت دبلوماسياً على مدى أشهر في الضغط من أجل فرض أقصى عقوبات ممكنة. والجدير بالذكر أن إعلان الولايات المتحدة سلسلة من العقوبات قد يجعل الناس في واشنطن يشعرون بالرضا، ولكن ما لم يوافق الآخرون على اتباع خطاها، فسيكون تأثير العقوبات محدوداً. وكما تبين من تجربة إيران، فالعقوبات المنسقة من عام 2010 وما بعده، أدت إلى اتفاق نووي حقيقي. في المقابل، لم يؤد الضغط الأحادي إلى أقصى حد من جانب الولايات المتحدة منذ عام 2018 إلا إلى تسريع إيران لبرنامجها النووي.
ثانياً، الطاقة هي المفتاح. وصف السيناتور السابق جون ماكين روسيا ذات مرة بجملة لا تنسى، معتبراً أنها “محطة وقود تتنكر في هيئة دولة”. لكنها محطة وقود كبيرة، بخاصة بالنسبة إلى أوروبا، التي لا تزال تحصل على 40 في المئة من غازها الطبيعي من روسيا. في الواقع، تعتمد بعض البلدان، بما في ذلك جمهورية التشيك والمجر ولاتفيا، اعتماداً كلياً تقريباً على الواردات الروسية من غاز التدفئة والكهرباء. وعلى الرغم من أن تقييد واردات النفط والغاز الروسي سيضر باقتصاد روسيا الذي يعتمد بشكل كبير على صادرات الوقود الأحفوري، فالضرر الذي ستلحقه مثل تلك القيود بالاقتصادات الأوروبية سيكون خطيراً أيضاً. بالتالي، سيستغرق الفصل الحقيقي سنوات، وليس أسابيع أو أشهراً، إلى أن تجد أوروبا مصادر بديلة للغاز وتقلل من اعتمادها على الوقود الأحفوري كجزء من التزاماتها المتعلقة بتغير المناخ.
فضلاً عن القوة العسكرية والفصل الاقتصادي، ستكون هناك حاجة إلى عزل روسيا سياسياً أيضاً. إذ إن هجومها غير المبرر يمثل انتهاكاً صارخاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، ويتعارض مع التزام روسيا عدم تغيير الحدود بالقوة، وهو التزام كررته موسكو مرات عدة في الإعلانات الأمنية الأوروبية، بما في ذلك “وثيقة هلسنكي الختامية” في عام 1975، و”ميثاق باريس” في عام 1990، و”إعلان أستانا” الموقع في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عام 2010. ومن الواضح أن روسيا انتهكت الضمانة الصريحة التي قدمتها في عام 1994 باحترام حدود أوكرانيا ووحدة أراضيها مقابل التزام كييف بالتخلي عن أسلحتها النووية. إذاً، لا يمكن العودة إلى العمل كالمعتاد مع نظام خارج عن القانون.
وبالتأكيد يجب أن تظل القنوات الدبلوماسية مفتوحة، كما كانت خلال الحرب الباردة. لكن انخراط روسيا الطبيعي مع بقية المجتمع الدولي يجب أن ينتهي. وفي ذلك الإطار، كان اقتراح اللجنة الأولمبية الدولية بأن تقوم المسابقات الرياضية بحظر مشاركة الرياضيين من روسيا وبيلاروس هو الخيار الصحيح، وكذلك قرار الفيفا والاتحاد الأوروبي لكرة القدم بمنع فرق كرة القدم الروسية من المشاركة في كأس العالم والبطولات الأوروبية. وعلى الرغم من ذلك، ينبغي أن تمتد العزلة إلى ما هو أبعد من الرياضة. لا مكان لروسيا في مجموعة العشرين، ويتعين وقف “الرقص الدبلوماسي” الذي اعتمده القادة الأوروبيون المتجهون إلى موسكو قبل هجوم روسيا على أوكرانيا. وباستثناء الانسحاب الروسي الكامل وغير المشروط من جميع أنحاء أوكرانيا، بما في ذلك الأراضي التي احتلتها وضمتها منذ عام 2014، لا يوجد شيء يمكن التحدث عنه. ويشمل ذلك تعليق محادثات الاستقرار الاستراتيجي التي كانت تهدف إلى إقامة علاقة مستقرة ومتوقعة مع روسيا. لا مجال لعلاقة مماثلة ما دام بوتين في السلطة. ووفق ما أعلنه الرئيس بايدن “سنتأكد من أن بوتين سيكون منبوذاً على المسرح الدولي”.
في الوقت نفسه، كما حدث أثناء الحرب الباردة، يجب أن يكون هناك جهد متضافر لإشراك المجتمع المدني الروسي. في الواقع، تنتشر المعارضة داخل روسيا بشكل مدهش، كما يتضح من المظاهرات التي اندلعت في الأيام الأخيرة في أكثر من 50 مدينة. ومع عودة الجنود الروس في أكياس الجثث وبدء الشعور بتأثير العقوبات المزعج، لا بد من أن تنمو تلك المعارضة. لذا، سيحتاج الروس إلى الوصول إلى المعلومات الدقيقة التي يمكن أن توفرها الحكومات الغربية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والإنترنت والبث الإذاعي والتلفزيوني. وبطريقة موازية، يجب أن تستمر التبادلات بين الشعوب. لقد فتحت الولايات المتحدة في السابق الأبواب أمام الرافضين المنشقين الممنوعين من الهجرة. ويمكنها أن تفعل ذلك مرة أخرى.
تحديث قائمة الخطط
لكي تنجح سياسة الاحتواء الجديدة يجب أن يتبناها الحلفاء الغربيون جميعهم في أوروبا وأميركا الشمالية وحتى في آسيا. والجدير بالذكر أن روسيا، مثل الاتحاد السوفياتي قبلها، حريصة على استغلال الانقسامات داخل الديمقراطيات وفي ما بينها. وبالاسترجاع، تدخلت لسنوات في الانتخابات ودعمت سياسات اليمين المتطرف في أوروبا وخارجها. كذلك، استخدمت الرشاوى والاعتماد الغربي على الطاقة لتقسيم أوروبا. وعلى نحو مشابه، اعتبر بوتين الانقسامات داخل “الناتو” التي زرعها الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال السنوات الأربع التي قضاها في منصبه، والخلافات حول أفغانستان ومبيعات الغواصات إلى أستراليا التي حدثت منذ ذلك الحين، بمثابة دليل على أن الغرب كان ضعيفاً ومنقسماً. والأرجح أنه فكر أن الآن هو الوقت المناسب لشن هجوم.
بيد أن بوتين كان مخطئاً، إذ إن الغرب أظهر رد فعل موحداً بشكل ملحوظ. حتى قبل هجوم روسيا، توطدت الوحدة الغربية داخل “الناتو” وخارجه. وفي ذلك المجال، حققت إدارة بايدن التي ربما تعلمت من الزلات التي ارتكبتها في أفغانستان، عملاً رائعاً في الجمع بين حلفائها من خلال تبادل المعلومات والتشاور بشكل متكرر وإظهار قيادة قوية وحازمة. وكانت النتيجة جليلة: عقوبات شديدة، وتعزيز الردع، وتضامن سياسي كامل مع أوكرانيا.
ومن أجل الحفاظ على تلك الوحدة، ستحتاج الولايات المتحدة التي عادت للظهور مرة أخرى كزعيم للغرب، إلى الاستماع بعناية إلى الحلفاء، وأن تكون على استعداد لتغيير المسار من أجل إبقاء الجميع مشاركين. وستحل أوقات تثير فيها الانقسامات الداخلية تساؤلات حول صلابة التحالف. ولكن تجدر الإشارة إلى أن “الناتو” خلال الحرب الباردة، بدا في أزمة دائمة إلا في اللحظات الحاسمة والمهمة.
لا مكان لروسيا في مجموعة العشرين
والفرق المهم بين حقبة الحرب الباردة واليوم هو مكانة الصين. لم تعد بكين لاعباً صغيراً على الساحة العالمية، بل برزت باعتبارها أكبر منافس لواشنطن وأكبر خصم جيوسياسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وما وراءهما. وقد ظهرت الأزمة الأوكرانية في وقت أصبحت فيه العلاقة بين روسيا والصين وثيقة بشكل خاص. واستطراداً، التقى قادتهما 38 مرة منذ أن أصبح شي جين بينغ رئيساً للصين في عام 2012، بما في ذلك آخر لقاء لهما في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية. هناك، أصدرا بياناً مشتركاً أشارا فيه إلى أن شراكتهما “لا حدود لها”. وبعيداً من إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، ألقت بكين باللوم على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لعدم مراعاة المصالح الأمنية الروسية بشكل كاف.
لكن، احتوت تصريحات بكين على اتجاه خفي من عدم الارتياح لتحركات بوتين. والتزم البيان المشترك الصمت بشكل ملحوظ في شأن أوكرانيا، وشددت التصريحات الرسمية باستمرار على التزام الصين المبدئي بالسيادة وسلامة الأراضي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. إضافة إلى ذلك، امتنعت الصين عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الذي يدين روسيا، بدلاً من الانضمام إلى موسكو في التصويت ضده. ولم تعترف بكين أبداً بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ما يشير إلى أنها قد تحافظ على ذهنية منفتحة بشأن مستقبل أوكرانيا. لذلك، هناك مجال بأن تنجح الدبلوماسية الهادئة في قياس إمكانية إقناع بكين بالمساعدة في الضغط على روسيا.
وحتى لو كانت بكين تساورها الشكوك، فليس من مصلحتها مساعدة الولايات المتحدة ضد روسيا. في الواقع، يرحب القادة الصينيون بلا شك بتجدد انشغال الولايات المتحدة بالأمن في أوروبا لأنه يمنح بكين مزيداً من حرية المناورة في منطقتها. من المرجح أيضاً أن تسهم الصين في تخفيف بعض العواقب الاقتصادية المترتبة على العقوبات المفروضة على روسيا، على الرغم من أن ما يمكن أن تفعله محدود، خصوصاً من الجانب المالي، إذ تظل التعاملات بمعظمها بالعملات الغربية التي تم حظر روسيا من التعامل فيها الآن.
لذلك، سيتطلب احتواء روسيا الانتباه جيداً للصين. وتتمثل إحدى طرق زيادة نفوذ الغرب على بكين في تقوية الروابط السياسية والاقتصادية والعسكرية بين الديمقراطيات المتقدمة في آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية. على سبيل المثال، يمكن أن تشمل مجموعة الدول السبع الموسعة أستراليا وكوريا الجنوبية، إضافة إلى مشاركة رؤساء الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. ستحتاج تلك الدول والمنظمات إلى وضع استراتيجيات وسياسات مشتركة ليس لاحتواء روسيا فحسب، بل أيضاً للتنافس بفعالية مع الصين.
شكل 24 فبراير (شباط) نقطة تحول في التاريخ. والجدير بالذكر أن القوى الديمقراطية في الغرب مدعوة مرة أخرى للدفاع عن نظام قائم على القواعد تم استئصاله بعنف. لحسن الحظ، تتمتع القوى الغربية بالقوة الفطرية اللازمة لاحتواء روسيا والتفوق على نفوذ الصين في جميع أنحاء العالم. بيد أن السؤال الحقيقي الوحيد المطروح هو ما إذا كانت تمتلك الإرادة والتصميم للقيام بذلك في انسجام تام.
إيفو ه. دالدر هو رئيس مجلس شيكاغو للشؤون العالمية وشغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى الناتو من 2009 إلى 2013
المصدر: اندبندنت عربية