ما الموقف من حضارة، كالحضارة الغربية، إذا كان قسم كبير من أقوالها وادعاءاتها القيمية والأخلاقية يتعارض دوماً مع أفعالها وسلوكياتها؟ ما الحل إذا كان قسم كبير من وسائلها الإعلامية ومن مراكز أبحاثها ودراساتها ومن بعض أشهر المعبرين عن ثقافتها يبررون تلك الظاهرة أو يتسترون عليها بالأكاذيب وبشتى أنواع التفسيرات الانتهازية؟
فمنذ أن ادعت الثورة الفرنسية، التي أصبحت ثورة أوروبا، بأنها ترفع ألوية الحرية والإخاء والمساواة الإنسانية والتمدن، بينما كانت تمارس أهم دولها غزو واستعمار الآخرين، ونهب خيراتهم، والبطش بكل حركات مقاوماتهم المشروعة، ومنذ أن ادعت الثورة الأمريكية بأنها حاملة لواء الحرية والديمقراطية والتسامح الديني، بينما كانت تستعبد الملايين من السود من خلال أنظمة إقطاع وعزل وبيع وشراء في أسواق النخاسة، وتشن الحروب تلو الحروب على أي بلد لا يأتمر بأمرها، وتمارس زرع الفتن والانقلابات العسكرية واغتيال أية شخصية سياسية لا تأتمر بأمرها، ومنذ إصرار تلك الحضارة على أن تسيطر على اقتصاد العالم وثقافته ونوع نظامه السياسي، وتدخله في حربين عالميتين مدمرتين، وتوصل بيئته الطبيعية إلى حالة التلوث الخطِر الذي وصلت إليه.. منذ كل ذلك وأكثر من ذلك من ألاعيب وعبث وأزمات وتراجع في القيم والأخلاق التي نادت بها اتضح لعقلاء الغرب نفسه ولشعوب العالم التي كانت منبهرة بتلك الحضارة وغافلة عن الكثير من نقاط ضعفها بأنه آن الأوان لإجراء مراجعة موضوعية جادة وعميقة لذلك التاريخ الأسود، وللكثير من جوانب فكر وممارسات تلك الحضارة، بقصد نقل البشرية إلى توازن جديد في العلاقات والتفاعل والتضامن فيما بين الحضارات، وبعيداً عن هيمنة الحضارة الغربية.
ما يدعو إلى طرح هذا الموضوع الإفرازات المحتملة المجنونة لما يجري الآن في أوكرانيا، والمخاطر على العالم كله التي يمكن أن يحملها ذلك الصراع في ذلك البلد الأوروبي، مخاطر قد تكون أسوأ بعشرات المرات من المخاطر التي جاءت بها الحروب والصراعات السابقة التي فجرتها أنظمة الحكم في الغرب الاستعماري.
نحن اليوم أمام إمكانية حرب عالمية ذرية ستفجرها دول ترفض تدمير كل ما تختزن من الأسلحة الذرية، بينما بنفاق واضح تمنع غيرها من امتلاكها، ونحن أمام إعلام يكذب ليل نهار ليحسن صورة أنظمة حكمه التي تتصرف في أوكرانيا بجنون من أجل مكاسب سياسية داخلية حقيرة، ونحن أمام ليّ لأيادي الآخرين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في الأمر كله، ونحن أمام إمكانية دخول العالم في مآزق مالية ومعيشية والتي سيدفع ثمنها فقراء هذا العالم، وأمام انكشاف مفضوح لمشاعر عرقية كريهة تتلفظ بها أكابر المحطات التلفزيونية والإذاعات العالمية بشكل يبرز تعامل حضارة الغرب بصورة دائمة بوجهين ومنطقين متناقضين ما داما يخدمان مطامع الغرب التي لا تتوقف عند حد.
حرب أوكرانيا أعادت العالم إلى ثقافة الكذب التي برع بتطويرها وتطوير أساليب نشرها الغرب الاستعماري، والتي صدرت بشأنها عشرات الكتب الناقدة في الغرب نفسه. فالأخبار لها مظهر خارجي وحقيقة داخلية لا يفصح عنها. والإعلام ينشر التصورات الخيالية بين الرأي العام العالمي، بينما يخفي المصالح الخاصة لهذه الجهة أو تلك.
وتظهر هذه الحرب مدى الترسبات العنصرية الموجودة في بعض المجتمعات الغربية، من خلال بعض ما نطق به مراسلو التلفزيونات والإذاعات من مقارنات فيما بين اللاجئين الفارين الأوكرانيين واللاجئين الفارين من دول كالعراق وسوريا وليبيا وفلسطين. فتعطى المجموعة الأولى بسخاء كل صفات التحضر وأهمية الاهتمام بها، وتعطى المجموعة الثانية كل الصفات والأهمية المعاكسة.
ما يهمنا هو أننا، نحن العرب الذين عانينا عبر قرن كامل من الاستعمار الغربي من تدخلات أنظمته في شؤوننا، ومن استغلال بشع لكل ثرواتنا، ومن زرع كيان عرقي اجتثاثي بشع في فلسطين العربية، ومن هيمنة ظالمة لشركاته الكبرى على اقتصادنا…
ما يهمنا هو أن نطرح الكثير من الأسئلة على أنفسنا بشأن حضارة الغرب وشعاراته ومنطلقاته الحياتية وعلاقاته بنا، بعد أن تبينت لنا الكثير من مساوئ وهلوسات حاملي تلك الحضارة، وحتى لا نحترق بالنيران التي تشعلها بعض أنظمة الحكم الغربية سنة بعد سنة وقرناً بعد قرن.
المصدر: القدس العربي