يجب أن ترحب الدول الغربية بالتحول الذي تشهده البلاد وتدعمه، وتكفّ عن النظر إلى الرئيس توكاييف كدمية في يد روسيا وتراه كقائد تقدمي، كما يكتب فلاديسلاف إل. إينوزيمتسيف فيما يلي:
حين وردت الأنباء عن الاحتجاجات المنتشرة على نطاق واسع في كازاخستان في أوائل يناير (كانون الثاني)، عمّ ضباب الحرب.
هكذا أخطأ بعض المعلقين حين اعتبر أن تلك الأحداث كانت تؤذن ببدء “ثورة ملونة” أخرى، تهدف إلى إطاحة نظام استبدادي راسخ. ووصف آخرون أولئك الذين أثاروا أعمال الشغب بـ “إرهابيين”. غير أن الصورة الإجمالية باتت أكثر وضوحاً بعد شهر من اندلاع الاحتجاجات.
كانت كازاخستان على امتداد ثلاثة عقود واحدة من أكثر دول مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي نجاحاً على الصعيد الاقتصادي، إذ إن صناعات البلاد الأساسية كانت تنتج من النفط والغاز واليورانيوم بوتيرة أسرع بكثير من جارتها روسيا.
واستقطبت كازاخستان استثمارات أجنبية مباشرة من أوروبا والولايات المتحدة بقيمة تزيد على 120 مليار دولار (88 مليار جنيه استرليني). أسّس نورسلطان نزارباييف، أول رئيس للبلاد، عاصمة جديدة؛ وأعاد الترسانات النووية السوفياتية إلى روسيا، كما مارس سياسة خارجية متطورة [أطلق عليها اسم] “متعددة النواقل” للإبقاء على روسيا والصين والغرب على مسافة متساوية من كازاخستان.
لكن في عام 2019، قام نزارباييف بشيء لم يكن متخيلاً، إذ استقال من منصبه الرئاسي، وتم انتخاب قاسم جومرات توكاييف رئيس وزرائه ووزير خارجيته المحنك، خلفاً له. كان انتقال السلطة قد انتهى تقريباً بحلول ديسمبر (كانون الأول) 2021، حين أُعلن أن توكاييف سيحل محل نزارباييف كرئيس لحزب “نور-أوتان” الحاكم.
إلا أن كازاخستان، على الرغم من الإنجازات التي حققتها، بقيت بلاداً تعاني من الانقسام إذ لم تعد الفجوة الاقتصادية بين الغني والفقير تضيق. كانت هناك صعوبات اقتصادية حفزت الناس العاديين، بينما أثارت تحديات الرئاسة المزدوجة حماسة النخب في البلاد.
واتسع نطاق الاضطرابات، التي اندلعت بادئ الأمر في 2 يناير من هذا العام، لتشمل البلاد كلها، في غضون أيام عدة. وفيما ظلت الاحتجاجات في معظم المناطق سلمية، فإن المتطرفين والمجرمين قاموا بترويع ألماتي، العاصمة القديمة ومركز الاعمال [في كازاخستان]، وتخريبها على امتداد أيام عدة، مستخدمين الحشود في معظم الأحيان كـ “درع بشري”.
ويبدو أنهم كانوا مدعومين، هذا إن لم يكونوا منظمين، من قبل مسؤولين في لجنة الأمن القومي التي يبقى رئيسها السابق كريم ماسيموف حالياً قيد الاحتجاج. وعمد الرئيس توكاييف في مواجهة محاولة الانقلاب، إلى حلّ الحكومة المسؤولة عن السياسة الاقتصادية، وأعلن نفسه رئيساً لمجلس الأمن، وهو المنصب الذي كان نزارباييف يحتله، واستطاع أن يمنع احتمال نشوب حرب أهلية، كانت تلوح في الأفق وذلك بسبب ما فعلته النخبة القديمة.
وتتصدى كازاخستان اليوم [لمهمة إجراء] إصلاحات اقتصادية واجتماعية حاسمة تأتي على الدوام بعد الاضطرابات الاجتماعية الكبيرة. وكباحث أمضى سنوات عدة في إتقان موضوع الاقتصادات التنموية، أودّ أن أقول إن مسار كازاخستان يذكرني بتجربة شرق آسيا “الكلاسيكية”، وخصوصاً عمليات التحديث في كوريا الجنوبية، وتايوان، وإندونيسيا وأيضاً، بالطبع، في الصين.
في تلك الحالات كلها، بدأت عمليات التحديث في ظل أنظمة مركزية قوية واتسمت خطواتها الأولى بالتركيز المفرط للثروة وبالفجوة الواضحة في معايير المعيشة.
ونحن نرى في كازاخستان حالياً الخطوات الأولى على طريق القيام بعمليات تطوير مماثلة. ويستعد الرئيس توكاييف لبدء محاولة الاعتماد على بيروقراطية جديدة، مؤلفة في معظمها من احترافيين شباب تلقوا علومهم في الخارج بموجب برامج التبادل الطلابية الممولة من قبل الدولة، والاتكاء أيضاً على الشركات التي لم تكن لها صلة بأعضاء بعائلة نزارباييف. إن التخلص من الأصدقاء المقربين [لمسؤول أو نظام] قد صار مهمة أساسية في كل اقتصاد آسيوي بعد تغيير النظام السياسي.
وإن المساهمين الأوائل اليوم في الصندوق الذي أنشأه الرئيس توكاييف لمعالجة أكثر القضايا الاجتماعية حدة، والمسمى “من أجل شعب كازاخستان”، يشتملون على مؤسسة سابي الخيرية التابعة لكينز راكيشيف، وبنك كاسبي الذي تم تقدير قيمته بـ 6.5 مليار دولار (4.8 مليار جنيه استرليني) في سوق لندن للأوراق المالية أثناء الاكتتاب العام الأولي في أواخر عام 2020.
وهاتان الشركتان، كالعديد من المساهمين الآخرين، لم يملكهما أو يقم بإدارتهما أعضاء عائلة الرئيس السابق. وبالطبع، فإن الإصلاحات الأكثر جدية الملائمة لاقتصاد السوق يجب أن تمضي على طريق التحديث نفسه. وتكاد بعض ملامح التطورات الجديدة تكون بادية للعيان. ولذا، فإنني أود أن أجادل بأن عمليات التنمية الأخيرة في كازاخستان يمكن أن يُنظر إليها كنقطة تحول حاسمة تفصل بين العقود الأولى من حقبة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمرحلة الجديدة للتقدم الاجتماعي والاقتصادي.
ولكي يتحقق هذا التقدم، فإن الدول الغربية يجب أن ترحب بالتحول الذي تشهده كازاخستان في الوقت الراهن وتدعمه. ومن الضروري أن يُنظر إلى الرئيس توكاييف ليس على أنه دمية في يد روسيا بل بوصفه قائداً تقدمياً، لن يعزز الإصلاحات التي أطلقت في ظل الرئيس نازارباييف فحسب، بل سيقود بلاده إلى المستقبل، ممهداً الطريق إلى مجتمع ليبرالي ديمقراطي.
يحتاج الغرب حاجة حاسمة إلى حليف في المنطقة له حدود مشتركة مع كل من روسيا والصين. ويجب ألا ينسى المرء أن كازاخستان كانت قد خضعت على الدوام إلى التأثير من جانب تركيا، وهي تواجه تحديات الإسلام المتشدد، الذي يمثل تهديداً كبيراً لأمن كل من أوروبا وأميركا.
يملك الغرب قوة تحويلية هائلة في المنطقة، ليس فقط لأنه أكبر مستثمر أجنبي في اقتصاد كازاخستان، ولكن أيضاً لأنه يُنظر إليه كعامل ضروري لتحقيق التوازن مع كل من القوتين العظميين المجاورتين.
عندما زرت كازاخستان قبل شهرين من أجل حضور جلسة نادي أستانا، كان هناك أشخاص مطلعون جيداً ومتطورون يشعرون بالقلق إزاء مطالبات روسيا المحتملة حول سيادة البلاد وبسبب تواجد الصين الاقتصادي المتنامي في المنطقة.
ولدى أخذ هذا كله في الاعتبار، أود أن أجادل أن حضور الشركات الغربية وانخراط الحكومات الغربية في كازاخستان يمكن اعتبارهما شيئين نفيسين لا يقدر كل منهما بثمن يساهمان في صياغة معالم مستقبل هذه الدولة الناشئة. ولا ينبغي أن يضيع الغرب فرصة تاريخية من أجل تأسيس موطئ قدم في الجزء الأكثر ديناميكية والأشد أهمية من الناحية الجيوسياسية في عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
المصدر: اندبندنت عربية