إن دراسةَ ما يسمى “الشيشنة” وسيرةَ حياة رمضان قاديروف، تُعَدُّ من أهم الحالات التي يجبُ تحليلُها بدقة واستخلاص العبر منها. على الرغم من افتقادنا لهذا النوعِ من التحليل الموضوعي لظواهرَ كثيرةٍ في عالمنا العربي والإسلامي منذ سقوط الخلافة إلى اليوم، لكن من شأن هذا النوع من التحليلات أن يجعل لنا منهجًا قويمًا للنهوض وتجنبِ الكوارثِ الكثيرة التي جعلتنا في حالة انحدار مستمر. ويعود الفضلُ لثورات الربيع العربي وحركة التشرد والنزوح الكبيرة، لتحرير كثيرٍ من الأقلام والعقول من سلطة القهر الفكري والحواجز التقليدية التي ساهمت في عرقلة مسيرة التحرر تحت وزن السقوف المنخفضة التي جعلت من مدارسنا الفكرية وعلى رأسها الدينية منها سببًا في إعاقة عملية التغيير والتحرر.
رمضان قاديروف يٌمثل لكثيٍر من الإسلاميين رمزًا من رموز البراغماتية التي تقوم على فقه الواقع، حيث جنَّب جزءًا كبيرًا من شعبه القتلَ الجماعيَّ الذي قُدِّم قربانًا للشراكة الحديثة بين الأوليغارشية التي نهبت ثرواتِ الاتحادِ السوفيتي وإدارةِ الاستخباراتِ المركزية الروسية التي توجت بقدوم الرئيس بوتين على رأس المؤسسة الروسية الحاكمة. تلك الحرب الوهمية التي ابتدأت بأعمال إرهابية فبركتها أجهزةُ الاستخباراتِ الروسية لبناء عدوٍّ خارجي يوحدُ الروسَ من جديد وراء قيادتهم السياسية. حربُ إبادةٍ جماعيةٍ شبيهة بالحرب السورية. انتهت بصفقة تدعى “الشيشنة” بين قاديروف الأب وبوتين.
بالنسبة لإسلاميين آخرين يمثل رمضان قاديروف وأبوه من قبله سقوطًا أخلاقيًّا وفكريًّا، أما بالنسبة لمن هم خارج الإطار الإسلامي فيرونه حالةً براغماتية بنتِ الاقتصادَ، وجلبتِ السلامَ لمنطقة مشتعلة تاريخيًّا، وإن جاء ذلك على حساب الحريات، وتكريس التبعية، وفقدان الهوية القومية والعرقية، بل حتى الدينية التي كسبها جوهر دوداييف بمعركة شرسة دفع ثمنها غاليًا الشعبُ الشيشاني، و انتهت باعتراف يلتسن بهم بتاريخ 12/5/1997م عبر معاهدةِ سلامٍ وقَّعها من الطرف الشيشاني أصلان مسخادوف الذي انتخب بشكل شرعي قبلها بأربعة أشهر.
ولأن تجربةَ والدِ رمضان قاديروف تُعدُّ قصيرة نسبياً -حيث فاز أحمد قديروف في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2003 بالانتخابات الرئاسية التي يرى بعضُ الشيشان أنها غيرُ نزيهةٍ واغتيل في انفجار ضخمٍ يوم 9 مايو/ أيار 2004 في ملعب دينامو بغروزني خلال الاحتفال بيوم النصر- فالأَوْلَى دراسةُ حالة رمضانَ واستخلاصُ العبر منها لأنها ستكون الأقرب للوضع في سوريا في أحد السيناريوهات الأكثر ترجيحاً، إلا إذا أفرزتِ الصراعاتُ الحاليةُ تغيرًا وانعطافًا استراتيجيًّا في الملف السوري وهو ما لم نعتدْه من المنظومة العالمية الحاكمة!
بعد اغتيالِ والدِه أحمد قاديروف في 9 أيار 2004 الذي كان رئيسَ الشيشان آنذاك، تم تعيينُ رمضان قاديروف كنائب لرئيس الوزراء لجمهورية الشيشان. وفي 2 آذار 2007 وبعد ترشيح بوتين لقاديروف لرئاسة الشيشان وافق البرلمان الشيشاني على الترشيح وأصبح الرئيس الشرعي للشيشان. رمضان قاديروف هو الرئيس الأقرب إلى الرئيس فلاديمير بوتين ويُعدُّ واحداً من أكثر الشخصيات قربًا إلى الكرملين. وقد أعلن قاديروف عدة مرات وفي عدة مناسبات أنه يَهَبُ حياتَه دفاعًا عن روسيا وعن الرئيس فلاديمير بوتين، وكتب ذلك على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، كما صرح قائلًا “إن رئيسَ الشيشان وجنودَ الشيشان جميعَهم مستعدون للتضحية من أجل الرئيس بوتين من أجل الدفاع عن روسيا”. وبسبب قوة العلاقة بين فلاديمير بوتين ورمضان قاديروف فقد أُطلِقَ على قاديروف لقب فتى بوتين المدلل. ويرى مراقبون أن قاديروف يعمل على ترسيخ صورتِه على أنه مبعوث بوتين إلى العالم العربي وجسر العلاقات بين موسكو والدول الإسلامية.
“رمضان قاديروف” رئيسُ جمهورية الشيشان، انخرط وهو شابٌ مع والدِه في النضال العسكري الذي خاضه الشيشانيون للاستقلال عن روسيا، ثم تصالحا مع موسكو التي مكنت والدَه من حكم البلادِ حتى اغتيل عام 2004، فسلمته السلطةَ خلفًا له، ووطد الأمن فيها لصالح موسكو التي يوصف بأنه رجلُها القوي. اتُّهِم بالفساد والاستبداد وتدبير عمليات اغتيال لمعارضين روس وشيشانيين.
في أواخر عام 2010؛ تحدثت وثائقُ ويكيليكس الأميركيةُ المسربةُ عن جوانبَ من شخصية وسلوك قاديروف، حيث جاء في برقيتين دبلوماسيتين أرسلهما سفيرُ الولايات المتحدة الأميركية بموسكو نيكولاس بيرنز Nicholas Burns يوميْ 30 مايو/أيار و31 أغسطس/آب 2006؛ أنه كان أميرَ حربٍ بسيطًا في حرب الشيشان، ثم ورِثَ السلطةَ عن والده بصفقة مع فلاديمير بوتين اختزِلت بعبارة “الشيشنة”.
وقال السفير إن “الشيشنة” تعني تحويل الحرب في الشيشان من قتال شيشاني روسي إلى حرب شيشانية داخلية، عبر تسليمِ حكمِ الشيشان إلى مسلحين شيشانيين مقابل الاستفادة من ولائهم وقدراتهم، بشرط بقاء هذه الجمهورية في إطار الفدرالية الروسية.
وأضاف أن التوافقَ على هذه السياسةِ تم بشكل شخصي بين بوتين وقاديروف الأب الذي لقبه بـ”مفتي المتمردين الشيشانيين”، لكن تطبيقها كان يستند إلى انقسام داخلي بين “المتمردين” يعود إلى حرب الشيشان الأولى التي اندلعت أواخر عام 1994، واتخذت شكل خلافٍ ديني كان يموه صراعًا على السلطة بين “المتمردين” وتحديدًا بين جناح قاديروف وجناح شامل باساييف (الذي قُتِلَ في يوليو/تموز 2006).
رغم الطابع الديني الذي يظهر به قاديروف أحيانًا كثيرة؛ فإنه لطالما اتهِم بالفساد المالي وتبذير الأموال التي يحصل عليها من موسكو، بينما يعدُّها هو “مدفوعاتٍ للحفاظ على الوضع” عبر إنفاقها على باقي أمراءِ الحربِ القادرين على الاحتفاظ بالأمن في الشيشان، و”الوفاء” بالتزاماته المتعلقة بالتوازنات القبلية والعرقية في المنطقة، كما يُشتبهُ في علاقته بشركات النفط في الشيشان وداغستان وروسيا.
في أواخر أغسطس/آب 2016 نظم قاديروف -بدعم من الكرملين- “مؤتمرًا إسلاميًّا” لتحديد المفهوم الصحيح لـ”أهل السنة”، وقال البيان الختامي للمؤتمر “إن أهلَ السنة والجماعة هم أتباع الفرق التالية: المحدثين والصوفية والأشاعرة والماتريدية”، وأما “السلفية والوهابية وجماعة الإخوان المسلمين فهي فرقٌ طائفيةٌ دخيلة على السنة، وغيرُ مرغوب بها في روسيا”. وهو ما أثار انتقادات عديدة في العالم الإسلامي.
قاديروف تلك الحالة الهجينة التي صنعتها الأحداثُ وربما الصدفة، يذكِّرُنا بحالة الغساسنة والمناذرة الذين كانوا تبعًا وفيًّا لمن يقفُ خلفهم من فرس وروم وكانوا أداةَ إرهابٍ على أبناء جلدتهم، وولاؤهم الفكري والمادي-الحياتي مرتبطٌ ارتباطًا عضويًّا بهما، كحال من يشجعُ اليوم برشلونة أو ريال مدريد، أو من يقفُ في صف بوتين الذي يقود رأسمالية أوليغارشية وبين من يقف في صف معسكر غربي يقود رأسمالية ليبرالية تتقاسمُ في الكواليس دينامياتٍ كثيرةً في الجوهر وعناصر القوة والسيطرة مع الطرف الأول! ولكن -مع الأسف- نادرًا ما نرى منهجًا جديدًا خارج المساراتِ التقليديةِ لصالح تبني اتجاهٍ ثالثٍ ينطلقُ من أدبيات ومنظومةٍ فكريةٍ حقيقية تبني لأمل وتستقطب شبابًا فقدوا اتصالهم بالواقع المسدود فبدؤوا بالغوص بعالم افتراضي سبقهم إليه أجدادُهم الذين ظلوا لعقود أسرى عالمٍ موجود في رؤوسهم وخيالاتهم، فاستحقوا بحق أن يعود لهم الفضلُ قبل مؤسس فيسبوك في اختراع مشروع ميتافيرس.
من يحلل ثوراتِ الربيع العربي يشهد نموذجين كبيرين ولدتهم تلك الثورات، نموذجَ الواقعيةِ البراغماتية التي تبحثُ عمن يتبناها كما تبنى بوتينُ قاديروف وبين لا واقعيين ينادون بشعارات براقةٍ وأيديولوجياتٍ عميقة هم أنفسهم مِن أوائل مَن يضحون بها أو على الأقل يسقطون في اختبارات مشقتها من أمثال نهر طَالُوت. ونحن مازلنا ننتظر قدومَ الجيل الذي يدعوا ربه مخلصًا ليقول ابعث لنا مَلِكًا حتى نقاتل في سبيلك : “أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (البقرة-246). لكنَّ هذا الجيلَ لا يُولدُ من العدم ولكن يولد من عمل دؤوبٍ ممزوج بالألم والمعاناة وجوهره الإخلاص. وأكاد أرى بوادره في كثير ممن كفروا بالنموذجين السابقين، لكن ينقصُهم المخلصُ الموجه الذي لا يأتي بدين جديد أو مذهب جديد كالمذهب الإبراهيمي الذي يُسوق له أعداؤنا وأعداء الإنسانية ولكن يأتي بالتفكير النقدي للتاريخ والحاضر والمستقبل ويصنع رؤية التغيير.
والله من وراء القصد