يهدد قرار “المحكمة الاتحادية العليا” في العراق – بعدم دستورية قانون الموارد الطبيعية الذي أقرّته «حكومة إقليم كردستان» في عام 2007، فضلاً عن التداعيات السياسية للقرار – بعضاً من المصالح الرئيسية للبلاد، من بينها تطلعاتها نحو الفيدرالية، وعلاقاتها مع تركيا، وقدرتها على جذب الاستثمار الدولي الذي تشتد الحاجة إليه.
في 15 شباط/فبراير، أصدرت “المحكمة الاتحادية العليا” في العراق مرسوماً ينص على أن قانون الموارد الطبيعية الذي أقرّته «حكومة إقليم كردستان» في عام 2007 غير دستوري، مما قد يؤدي إلى قلب صناعة النفط والغاز في المنطقة رأساً على عقب. واعتبرت المحكمة أنّ صادرات نفط «إقليم كردستان» والعقود المبرمة مع شركات النفط الدولية غير قانونية، ومنحت “الحكومة الاتحادية” الحق في إلغاء هذه العقود، والمطالبة بملكية إنتاج النفط في مناطق «إقليم كردستان»، وتحميل أربيل مسؤولية عائدات النفط السابقة مقابل مخصصات الميزانية الواردة من بغداد.
ويمكن للحكم الصادر عن “المحكمة الاتحادية العليا” أن يحد من إنتاج النفط في مناطق “الحكومة العراقية الاتحادية”، بالإضافة إلى إلحاقه الضرر بصناعة الطاقة في «إقليم كردستان». وفي الواقع، إن مفهوم فدرالية النفط بحد ذاته معرض للخطر. كما أن القرار يُعقّد العملية الجارية لتشكيل الحكومة، وقد يؤدي إلى رد فعل عنيف ضد السلطة القضائية التي حافظت على احترام واسع النطاق بين العراقيين.
التداعيات على السياسة وتشكيل الحكومة
على الرغم من سلامة الحكم من الناحية القانونية، إلّا أنه تسبب بالفعل في إحداث صدمة في أوساط مختلف الجهات الفاعلة التي تناور خلال الفترة المتقلبة المتعلقة بتشكيل الحكومة في العراق. ويعتقد «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، الذي يهيمن على صناعة الطاقة وسياستها في «إقليم كردستان»، أنّ قرار “المحكمة الاتحادية العليا” بشأن مسألةٍ تم رفعها [أمام القضاء] قبل عشر سنوات له دوافع سياسية، أي محاولة معاقبة الأكراد لانضمامهم إلى مقتدى الصدر، الذي يطمح لقيادة حكومة الأغلبية التي من شأنها تهميش منافسيه الرئيسيين من الشيعة. ويتزعم هؤلاء المنافسون رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وقد تحالفوا مع الميليشيات الموالية لإيران، وهو تحالف يمنحهم نفوذاً كبيراً على ما يسمّى بـ”الدولة العميقة”، ناهيك عن طائرات الميليشيات بدون طيار التي استُخدمت لمهاجمة «إقليم كردستان» في بعض الأحيان. وعلى الرغم من أنّ مسؤولي «الحزب الديمقراطي الكردستاني» يرون بصمات إيران على حكم “المحكمة الاتحادية العليا”، إلا أنهم يشعرون بخيبة أمل أيضاً لأن الصدر ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وهو الركيزة الثالثة في تحالفهم، لم يفعلا شيئاً يُذكر لوقف إجراءات المحكمة أو هجمات الطائرات بدون طيار.
وسواء كانت “المحكمة الاتحادية العليا” قد تأثرت بطهران أم لا، فإن دخولها في المسائل السياسية قد عرضها للنقد. وعلى الرغم من أن المحكمة صادقت في السابق على نتائج الانتخابات، مما أثار استياء خصوم الصدر، الذين تكبدوا خسائر كبيرة، إلا أنها حددت أيضاً شرطاً لنصاب أغلبية الثلثين لاختيار الرئيس العراقي المقبل، مما أعطى الأقلية حق نقض قوي. وقد يعرقل المرسوم النفطي خططَ الصدر إذا دفع ذلك بـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» إلى تغيير رأيه بشأن ائتلافه أو مرشحه الأعلى لرئاسة الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي اتّهمته «حكومة إقليم كردستان» بالفشل في سحب القضية قبل صدور قرار المحكمة في هذا الشأن.
وفي غضون ذلك، لا يزال «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بعيداً عن شريكه/خصمه منذ فترة طويلة في «حكومة إقليم كردستان»، أي «الاتحاد الوطني الكردستاني». وبدلاً من التوحد والضغط مجدداً بقوة على “صناعة الملوك” في السياسة العراقية المتصدعة، استخدم «الحزب الديمقراطي الكردستاني» تحالفه مع الصدر والحلبوسي لتهميش «الاتحاد الوطني الكردستاني». وقبل أن يؤدي قرار حكم “المحكمة الاتحادية العليا” إلى إحداث صدمة بين الأكراد، كان «الحزب الديمقراطي الكردستاني» منشغلاً في إنفاق رأس مال سياسي هائل لحرمان برهم صالح، أحد كبار الشخصيات في «الاتحاد الوطني الكردستاني»، من ولاية ثانية كرئيس للبلاد. وتخشى «حكومة إقليم كردستان» حالياً من أن هناك المزيد من ردود الفعل السلبية من جانب بغداد، من بينها أوامر المحكمة التي تؤثر على سيطرتها على الحدود والممثلين الأجانب.
الآثار المترتبة على الطاقة
لا تستطيع صناعة النفط في البلاد تجاهل قرار “المحكمة الاتحادية العليا”. ويقيناً، ليس من المقرر أن تتغير صادرات النفط العراقية في أي وقت قريب – فلا تزال تركيا تسمح للنفط الكردي بالتدفق إلى الأسواق الدولية، وقد صرح الكاظمي بالفعل أنه ليس في عجلة من أمره لتنفيذ الحكم. علاوةً على ذلك، يكاد يكون من المؤكد أنّ شركات النفط التي لديها تكاليف باهظة وحصص كبيرة في «إقليم كردستان»، مثل شركة “جينيل إنرجي” وشركة “دي إن أو” (DNO)، ستبقى على ما هي عليه.
ومع ذلك، من المحتمل أن تشعر الشركات التي كانت في طريقها للخروج (على سبيل المثال، “إكسون”) بأنّ القرار يبرر مغادرتها، في حين أنّ الشركات التي باشرت في المغادرة (على سبيل المثال، “شيفرون”) قد تكون متشككة الآن بشأن زيادة الاستثمار. وقد تتضح قريباً تأثيرات متتالية أخرى، فالشركات التي لها حصة في كل من “الحكومة الاتحادية” و«حكومة إقليم كردستان» (على سبيل المثال، “غازبروم” و”توتال”) قد تجد نفسها في وضع غير مستقر؛ وقد يتوقف مصرف “سيتي بنك” عن معالجة مدفوعات «إقليم كردستان» لشركات النفط؛ وقد تُوقِف “مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية” استثمارات رأسمالية في مشاريع الطاقة العراقية؛ وقد تجد بغداد وأربيل صعوبة أكبر في التعاون على تعزيز قطاعات الغاز الطبيعي، وزيادة توليد الطاقة، وفطم البلاد عن الإمدادات الإيرانية المبالغ فيها؛ وقد تُحبَط الجهود المبذولة لجذب المزيد من الاستثمار الدولي في ضوء أحدث الأدلة على أنّ سياسة الطاقة في البلاد لا تزال في طور الإعداد.
وقد تكون العلاقات العراقية التركية الضحية المحتملة الأخرى. فلن تكون هناك صناعة نفط تابعة لـ «إقليم كردستان» بدون رعاية تركية – وقد سمحت أنقرة للأكراد بتصدير النفط عبر خط الأنابيب الممتد بين العراق وتركيا منذ عام 2014، حيث وصلت كمياته إلى متوسط 430 ألف برميل يومياً في عام 2021. وقد قامت بغداد بتوجيه أنقرة إلى التحكيم بشأن هذه المسألة في “غرفة التجارة الدولية”، مطالبةً بتعويض قدره 24 مليار دولار. وبعد سنوات من التأخير، من المقرر عقد جلسة استماع نهائية في تموز/يوليو. ويعزز حكم “المحكمة الاتحادية العليا” فرص بغداد في الفوز بهذا التحكيم، لكن مثل هذه النتيجة يمكن أن تفسد علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع تركيا، التي تحسّنت في عهد الكاظمي. أما أنقرة، فقد تعتبر الحكم سبباً كافياً لإعادة التوازن إلى علاقاتها لصالح «حكومة إقليم كردستان»، بما في ذلك زيادة التعاون بشأن صادرات الغاز من «الإقليم».
الفيدرالية النفطية، إلى أين؟
عند صياغة دستور العراق ما بعد عهد صدام، كرّس واضعو المسودة مبادئ فدرالية النفط مع وضع هدفين رئيسيين في الاعتبار، هما تجنب عودة ظهور دكتاتورية مركزية أخرى، وضمان خدمة الصناعة المعيلة في البلاد للمصلحة العامة وبقاؤها مسؤولة أمام الشعب. ودعا الميثاق إلى قانون جديد للنفط والغاز يكرّس إدارة الهيدروكربونات المشتركة بين الحكومات الاتحادية والإقليمية والمحلية.
ومع ذلك، فمن الناحية العملية، لا يزال لدى العراق صناعتان متشعبتان للطاقة – فقد عادت بغداد إلى عاداتها القديمة فيما يتعلق بالمركزية، وأصبح «إقليم كردستان» شبه مستقل بعد محاولة فاشلة لتحقيق الاستقلال الكامل، ولم يتخذ أيٌّ من الجانبين إجراءات جادة بشأن قانون النفط، واختارا بدلاً من ذلك إبرام الصفقات المؤقتة بمصافحة الأيادي. واستثمرت أربيل في بناء الحقائق على أرض الواقع والاستمتاع بالشرعية التي تمنحها عشرات شركات النفط العالمية التي يتضح موقفها عبر انتقالها إلى الأماكن الأكثر مناسبة لها لاستثمار رؤوس أموالها. وبدلاً من وضع سياسة الطاقة الخاصة بها على أسس قانونية وميزانية صلبة، سعت «حكومة إقليم كردستان» إلى التهرب من الوصول الاتحادي من خلال بيع النفط للتجار ومصافي التكرير الإسرائيلية بخصم معيّن واقتراض المليارات من شركتي “فيتول” و”روسنفت”.
وبالتالي، لم يكن مفاجئاً ترحيب العديد من العراقيين من خارج «إقليم كردستان» بحكم “المحكمة الاتحادية العليا”. ومن المفارقات أنّ القرار أثار أيضاً شماتة ملحوظة داخل «الإقليم»، حيث أدرك السكان أنّ الممارسات النفطية المشكوك فيها التي قام بها رؤساؤهم كانت تؤجج نار الفساد أكثر من الوظائف والخدمات العامة. وفي غضون ذلك، تسود القومية النفطية الآن في بغداد، وتغذي سياسات المحسوبية في الوقت الذي تحتج فيه الجماهير التي تدفع الثمن.
التوصيات في مجال السياسة العامة
على الرغم من ترجيح كفة الميزان لصالح بغداد، إلا أنّ حكم “المحكمة الاتحادية العليا” لا يساعد الحكومة المركزية على التوصل إلى حل عملي لمشكلة معقدة، ولا تستطيع السلطات الاتحادية تحمّل ترك صناعة النفط في «إقليم كردستان» في مهب الانهيار. وكان من الممكن أن يفرض حكم بنّاء بصورة أكبر، إصدار قانون للطاقة ضمن إطار زمني محدد. ودعا القادة من كلا الجانبين إلى الحوار والوساطة، لكنهم بحاجة إلى أن يضعوا في عين الاعتبار أنّ الأحداث الدولية الأخرى تتنافس بشدة على اهتمام الولايات المتحدة.
وفي الأشهر الأخيرة، نصحت واشنطن حلفاءها الأكراد بوضع تركيزهم على السياسات الضيقة والأحقاد جانباً من أجل إيجاد وحدة الهدف حول تشكيل الحكومة المقبلة. ومع ذلك، لم تضغط عليهم في هذه الجبهة، ومن المرجح أن ينظر المسؤولون الأمريكيون إلى النزاع القانوني حول إدارة النفط باعتباره مسألة داخلية. وكانت المرة الأخيرة التي توسطت فيها واشنطن بجدية في صفقة نفط بين أربيل وبغداد في عام 2008. وكانت إدارة بايدن أكثر انخراطاً في الحد من اعتماد العراق على الغاز الإيراني والممارسات الضارة بيئياً مثل حرق الديزل لتوليد الطاقة والاشتعال.
ويتمثل أحد الجوانب المشرقة في أنّ حكم “المحكمة الاتحادية العليا” قد أيقظ بعض المسؤولين في أربيل وبغداد لإعادة التركيز على إيجاد حل قانوني دائم لخلافات إدارة الطاقة الخاصة بهم. وكلّف مجلس الوزراء الاتحادي وزارة النفط بالبحث عن المزيد من الخبرات الأجنبية والمحلية بشأن هذه القضية، بينما أشارت «حكومة إقليم كردستان» إلى أنها قد تقر قانوناً جديداً للموارد الطبيعية. وسيكون أي حوار حول هذه الأمور مكثفاً من الناحية العملية، مما يمنح الولايات المتحدة فرصة لتأدية دور متعمق وبنّاء في ضمان استمرار تدفق النفط إلى الأسواق، وتدفق العائدات إلى الشعب العراقي بدلاً من الميليشيات والمسؤولين الفاسدين.
ومن الناحية الواقعية، سيستغرق مثل هذا الحوار شهوراً أو سنوات قبل إصدار قانون جديد، لذا ففي غضون ذلك، يجب على واشنطن حث بغداد وأربيل على طمأنة شركات النفط العالمية. وتتمتع المصارف الأمريكية ببصمة كبيرة في العراق أيضاً، وقد ترحب بتوضيح بشأن حكم “المحكمة الاتحادية العليا”. وقد تحتاج واشنطن أيضاً إلى إعادة بناء الثقة بين أربيل وبغداد فيما يتعلق بمصلحتهما المشتركة في تحقيق توليد طاقة أرخص سعراً وتقليل التلوث من خلال تطوير قطاعات الغاز وربط شبكات الكهرباء الخاصة بهما.
بلال وهاب هو زميل زميل “واغنر” في معهد واشنطن.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى