ما زال الهاجس المشترك الذي شغل كافة المعنيين بالأزمة الليبية، بعد تكليف فتحي باشاغا بتشكيل الحكومة المقبلة، يتعلق بما إذا كانت ليبيا ستعود إلى الانقسام بين الشرق والغرب، واستطرادا إلى المواجهات المسلحة، بعد القرار الذي اتخذه مجلس النواب؟ المؤكد أن الصراع بين الدبيبة وباشاغا، يختلف عن الحرب التي قادها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، والتي دارت رحاها حول العاصمة طرابلس بين 2014 و2020. وأول عناصر الاختلاف يتمثل في أن الرجلين من وجهاء مدينة واحدة هي مصراتة (غرب). والعنصر الثاني أن الخلاف ارتدى بعدا سياسيا وقانونيا، وليس عسكريا هذه المرة، إذ أن الدبيبة ما زال متمسكا بأن المجلس الرئاسي هو صاحب الاختصاص في تغيير الحكومة، وليس مجلس النواب.
مع ذلك برزت مظاهر عسكرية تدعو إلى القلق، إذ تحركت أرتال من المركبات العسكرية من عدة مدن، من بينها الزنتان والزاوية، نحو العاصمة لدعم باشاغا، فيما خرجت قوة عسكرية كبيرة من مصراتة نحو طرابلس لدعم الدبيبة. غير أن الأجواء الإقليمية والدولية لا تشير إلى احتمال اندلاع صراع مسلح في ليبيا، أولا لأن أهل البلد سئموا الحروب والعنف، وثانيا لأن الخلاف ما زال قابلا للاحتواء، إذا ما وضعت الدول الكبرى ثقلها لتقريب الشقة بين الدبيبة وباشاغا. وعندما تشكلت حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة في السنة الماضية، وعدت بتحقيق أربعة أهداف، أبرزها توحيد مؤسسات الدولة، وحققت منها ثلاثة، في مقدمتها توحيد شطري مصرف ليبيا المركزي في المنطقتين الشرقية والغربية. وتمثل الشق الثاني من الخطة بإجراء انتخابات عامة، مع استبعاد رموز الطبقة السياسية التقليدية. لكن الانتخابات أجهضت بالقوة، وصار الأفق مُدلهما، خصوصا أن القوى الدولية، القادرة على فرض الحلول السلمية، آثرت مراقبة الوضع من بعيد.
ويرى كثير من الليبيين أن مفتاح الضغوط يوجد في أيدي تلك الدول الكبرى والقوى الإقليمية، بوصفها القوة القادرة على الحيلولة دون عودة البلد إلى الانقسام، وعلى إرجاع المسار الانتخابي إلى السكة. لكن الوصول إلى تلك النتيجة يحتاج من الحكومة القائمة حاليا اعتماد استراتيجيا من أربعة محاور لإفساح الطريق أمام إجراء انتخابات شرعية تستند على دستور. وفي هذا الإطار يعتبر الخبير الأمريكي بين فيشمان، وهو زميل أول في برنامج السياسة العربية بـ«معهد واشنطن» أن أول تلك المحاور يتمثل في بقاء حكومة الوحدة المعترف بها دوليًا، والتي لا يملك مجلس النواب استبدالها في أي وقت بمجرد اقتراع عليه كثير من نقاط الاستفهام والزوايا المُعتمة.
وفي أجواء العتمة تلك، عقد كل من اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح ووزير الداخلية السابق فتحي باشاغا اجتماعا سريا في القاهرة يوم 28 آب/اغسطس الماضي، برعاية مصرية. وكان الاتفاق الذي توصل له الثلاثة يتمثل في إفشال الانتخابات، إذا لم يفز بها واحد منهم. وفعلا لما أدركوا أن اللعبة الانتخابية ستنحصر بين متنافسين اثنين هما عبد الحميد الدبيبة وسيف الإسلام القذافي، قوضوا العملية برمتها. ويرى الأمريكيون أن على الأمم المتحدة أن تتوسط بين الليبيين لوضع أساس دستوري متفق عليه، بالإضافة لجدول زمني للانتخابات. وهنا يبرز خلاف آخر بين الدبيبة الذي يقترح إجراء الانتخابات في غضون أربعة أشهر، ومجلس النواب الذي يضع جدولا زمنيا مدته 14 شهرا لإجراء العملية الانتخابية. ويحتاج هذا الأمر إلى تأكيد واضح من الحكومات المتداخلة في الملف الليبي، بأن موقفها من حكومة الوحدة الوطنية لم يتغير، وإلا فإن النتيجة ستكون حكومة غير معترف بها وذات سلطة محدودة. والأهم من ذلك أنها ستكون ذات قدرات مالية محدودة، في وقت بنى فيه الدبيبة مشروعه السياسي والاقتصادي على استكمال إقامة المشاريع المعطلة وإطلاق مشاريع تنموية جديدة.
مُعاودة توحيد المؤسسات
يعيب كثيرون على الدبيبة إجراءات وقرارات يعتبرونها «شعبوية» ويرون فيها تبديداً للمال العام، غير أن أنصاره لا يرون في ذلك تبذيراً لأن الحكومات السابقة لم تلتفت، بحسب ما ذكروا، إلى تلك النواحي الاقتصادية والاجتماعية، مثل تيسير عملية الزواج للشباب بإعطائهم منحا خاصة، وإصلاح شبكات الكهرباء والمياه، واستكمال فتح الطريق الساحلي الرابط بين أجزاء ليبيا. وإذا ما أخفقت الهيئات المتنافسة في الوصول إلى اتفاق على العملية الانتخابية، فيجب تمكين الأمم المتحدة من اقتراح حل وسط بين عرض الدبيبة والجدول الزمني لمجلس النواب. ويرجح خبراء اقتصاديون أن المحافظة على الزخم الحالي على المسارين الاقتصادي والأمني، من شأنها أن تساعد على معاودة توحيد مصرف ليبيا المركزي، بفرعه الرئيس (طرابلس) والشرقي المنشق (بنغازي) على نحو يُحسن الأوضاع المعيشية، ويدفع عملية التنمية إلى الأمام. وهناك في ليبيا من ينصح اليوم باستثمار ذوبان الجليد بين تركيا والإمارات ومصر، من أجل وضع خريطة طريق انتقالية مُتفق عليها، تحظى بقبول دولي واسع من الجهات الفاعلة في الصراع الليبي. إلا أن آخرين يُشككون بواقعية هذا الخيار، على اعتبار أن تصويت مجلس النواب لفتحي باشاغا رئيسا لحكومة جديدة، حقق بالوسائل السلمية ما لم يستطعه اللواء خليفة حفتر بالوسائل العسكرية لدى هجومه على طرابلس في العام 2019.
ومن الواضح أن تصويت مجلس النواب لصالح باشاغا شكل التفافا على اتفاق جنيف/ تونس، الذي تنافست في كنفه عدة مجموعات سياسية، وفاز منها في النهاية الثنائي الدبيبة/المنفي، على حساب قائمة الثنائي عقيلة صالح/فتحي باشاغا. بهذا المعنى تمكن الثلاثي من أن يُحقق في طبرق (مقر البرلمان) ما لم يُحققه في جنيف. ثم أكمل عقيلة صالح المهمة، مُستغلا موقعه على رأس مجلس النواب، لتوجيه الجلسة نحو تكليف حليفه باشاغا بتشكيل حكومة جديدة. وسيفتح هذا القرار على مرحلة انتقالية ثالثة، مع أن الليبيين ضجروا من المراحل الانتقالية ومن تعاقب الحكومات المؤقتة. وبتعبير آخر فالأرجح أن باشاغا سيظل يؤجل الانتخابات إلى تاريخ غير مسمى، لكي تبقى حكومته في السلطة أطول وقت ممكن، مع أن مجلس النواب وافق على جدول زمني جديد للانتقال مدته 14 شهرًا. وما يؤكد تلك التوقعات أن إرجاء الانتخابات التي كانت مقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر الماضي، تم لأسباب سياسية وليست فنية، فالمفوضية الوطنية العليا للانتخابات كانت جاهزة، لكن الاعتراض السياسي عليها، والذي أتى من أطراف كانت تخشى الهزيمة، هو ما حال دون إجرائها في الوقت المحدد لها.
تسوية مع باشاغا؟
والظاهر أن مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز أعطت ضمانات للدبيبة لدى اجتماعها معه، بأن يبقى في الصورة، وهو ما يعني أن على خصومه أن يبحثوا عن تسوية معه. ومن الاحتمالات الأكثر تداولا حاليا، سيناريو بقاء الدبيبة على رأس الحكومة، مع تقاسم الوزارات مع باشاغا، الذي يمكن أن يتولى وزارة استراتيجية. أما منصب القائد العام للقوات المسلحة، فهو غير موجود في المنطقة الغربية، بينما أسبغه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح على اللواء المتقاعد حفتر. ولا يمكن لحكومة موحدة تجمع الفريقين أن يُكتب لها البقاء، بسبب الخلاف الكبير حول وزارة الدفاع، التي يطالب بها حفتر، لكن سكان المنطقة الغربية لا يريدونه، بعدما أقضت مدافعُه وصواريخُه مضاجعهم على امتداد أشهر طويلة في العام 2019. وفي بعض الأحيان يختزل ليبيون الصراع في الخلاف على شخص واحد هو حفتر وأبناؤه، الذين يُحكمون السيطرة على المنطقة الشرقية بقبضة من حديد.
ويتساءل مراقبون عن مستقبل العلاقات بين أركان الحلف الثلاثي، الذين كانوا بالأمس يتحاربون، بل إن بعضهم كان ينزع الشرعية عن حليفيه، أسوة بموقف باشاغا من حفتر وصالح، في بدايات حرب طرابلس. كما أن اللافت أيضا أن أصوات رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ونائبيه عبدالله اللافي وموسى الكوني لم تُسمع حتى الآن، مع أنهم يتحملون مسؤولية سياسية ومعنوية كبيرة في إيجاد تسوية تُبعد عن البلد شبح الحرب الأهلية. وكل ما قاله المنفي في كلمته بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لـ«انتفاضة 2011»: «قد نختلف حول تقييم الماضي، لكن يجب أن نتفق حول استحقاقات المستقبل». لكن ما هي تلك الاستحقاقات، وماذا يترتب عليها من تداعيات؟
والمُتمعن في الكلمات التي ألقتها شخصيات الصف الأول في إحياء ذكرى انتفاضة شباط/فبراير، يعجب من تشابه الخطابات، ما يعني أن هناك تماثلا في الشعارات الفضفاضة والمواقف الحماسية، من دون أن يُقدم أي طرف وأي شخص رؤية للخروج من المأزق الراهن. وقد يكون الدبيبة فعل خيرا عندما كلف وزيرة العدل حليمة عبدالرحمن باقتراح قانون انتخابات جديد، يشمل احتمال إجراء استفتاء على الدستور. فإعداد مشاريع القوانين مهمة فنية لا يُتقنها سوى الخبراء والمتخصصون، مع عرضها لاحقا على المؤسسات أو على الاستفتاء الشعبي. ولا يمكن أن يُكرر الليبيون الخطأ الرئيس الذي ارتكبه جيرانهم التونسيون، حين انتخبوا في 2011 هيأة تأسيسية، ولم يختاروا برلمانا، فأهدروا وقتا طويلا (ثلاث سنوات) وثمينا في مناكفات عقيمة أضعفت عملية الانتقال وآلت بها إلى المأزق الراهن.
المصدر: القدس العربي