لقد نهض “الحزب الشيوعي الصيني” بعدد من الأشياء بنشاط يستحق الثناء عليه، وحقق نتائج باهرة. إذ أنجز نهضة اقتصادية تاريخية في أعقاب ثورة ماركسية لينينية كارثية. وأطلق مشروعاً توسعياً وباهظاً بهدف نشر رقعة نفوذ الصين العالمي من خلال “مبادرة الحزام والطريق”. ودرب أيضاً قوات مسلحة وجهزها على مستوى دولي. ونظم حكماً استبدادياً تقنياً حديثاً من شأنه أن يجعل [رواية] “1984” التي كتبها جورج أورويل، تبدو مجرد كتاب لمدرسة ابتدائية. وكذلك عمل حفل افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية، الجمعة الماضي، على تنبيه المشاهدين إلى أن بوسع “الحزب الشيوعي الصيني” تقديم عرض جيد.
جاء حفل هذه السنة أكثر تواضعاً وأقل ضجيجاً من نظيره في 2008، لكنه يضاهيه من حيث حسن التنفيذ. اشتمل العرض على كتائب من أطفال يغنون ويبتسمون ويلوحون بأيديهم، وذكرت تصاميم رقصاتهم بعروض قد قدمت خلال “الثورة الثقافية” في سبعينيات القرن العشرين، وقد ضمت آنذاك أطفالاً يرقصون كأنهم “ورود الرئيس ماو من أقراص عباد الشمس الصغيرة”. وكذلك سار جنود من جيش التحرير الشعبي [في حفل افتتاح الألعاب الشتوية] بوجوه صارمة حاملين العلم الوطني الصيني أثناء عملية رفع العلم الرسمية. وجرت عروض جماعية متزامنة لا حصر لها اشتملت على كتائب بنات رحن يهززن كُراتٍ وأدواتٍ تزينية ملونة شتى، وأولاد يشهرون سيوفاً ضوئية يستعملونها ببراعة، ليشكلوا أزهاراً إلكترونية جميلة في الظلام.
وقد استعرض الرئيس الصيني شي جينبينغ تلك الوقائع من عل. ارتدى الرئيس كمامة كورونا سوداء اللون، ومعطفاً شتوياً أزرق بطول كامل، الأمر الذي جعله منتفخاً، وقد ضمخ الحفل ببركاته المتورمة. وما فتئت محاولة شي خلق نوع من عبادة الشخصية تنافس تلك التي أوجدها ماوتسي تونغ، تشكو من الضعف بشكل دائم بسبب افتقاره إلى الكاريزما، وفق الباحث جيريمي بارمي، “إن عبادة الشخصية الجديدة التي أوجدها شي هي كلها عبادة من دون شخصية”. ربما كان هذا السبب الذي جعله يعود بسهولة وبشكل أوتوماتيكي إلى مظاهر الأبهة والحفل والطقوس من أجل أن يحدث انطباعاً لدى الآخرين.
اختار الحزب الشيوعي الصيني أن يدور احتفال الافتتاحيه حول موضوع “عالم واحد، عائلة واحدة”. وأثار ذلك بعض التناقض إلى حد ما. ففي عدد من الأماكن بما فيها الصين، ترسخ إجماع نخبوي بأن العولمة تتباطأ في الوقت الذي “تنفصل” فيه الدول عن بعضها بعضاً. وفي خضم جهود شي نفسها الرامية إلى إغواء العالم بالنظر إلى الصين كدولة ترغب في السلام والوئام، هنالك دلائل لا تعد ولا تحصى على دوافعه العدوانية [تمتد] من تايوان إلى الحدود الهندية، وصولاً إلى هونغ كونغ وشينجيانغ.
عرض كبير، حشد صغير
إن بكين هي المدينة الوحيد التي استضافت الألعاب الأولمبية الصيفية والشتوية كليهما. وقد أقيم عرض، الجمعة الماضي، في الاستاد الوطني الفخم المعروف باسم “عش الطائر” الذي شهد أيضاً حفل افتتاح الألعاب الصيفية في 2008. وعلى غرار الحال في 2008، فإن المخرج السينمائي زانغ ييمو (الذي منعه الحزب من تسلم جائزة في “مهرجان كان” السينمائي في 1994) عاد ليؤدي دور المدير الفني. وفي السنوات الفاصلة [بين الدورتين الأولمبيتين]، صقل هذا المخرج مهاراته المتعلقة بتصميم الرقصات في عروض مسرحية كبيرة صاخبة تجري في الهواء الطلق، شملت وجهات سياحية رئيسة في أنحاء البلاد. وكذلك عاد الفنان تساي قوه تشيانغ كمشرف أول على الألعاب النارية. ومن خلال عرض أدير بطريقة متأنية، لا تشوبه شائبة محرجة يمكنها تشويه كمال جاذبيته، سعى “الحزب الشيوعي الصيني” إلى جعل العالم يرى أن الرئيس شي قد استعاد عظمة الصين عبر عملية للولادة الجديدة والخلاص.
وبطرق أكثر رهافة، خدم الحفل كأداة لتوبيخ قائمة متنامية من منتقدي “الحزب الشيوعي الصيني” وخصومه. وفي موكب الفرق الدولية، أجبرت بكين تايوان على السير تحت اسم “تايبيه الصينية”، خلف هونغ كونغ مباشرة كما لو كانت الجزيرة هي المكان التالي الذي سيجري ضمه. وبهدف الرد على الإدانة الدولية لمعاملة الصين أبناء شعب الإيغور في إقليم “شينجيانغ” الواقع في أقصى الجزء الغربي من البلاد، اختتم الحفل، بعد ذلك، بتعاون رياضية إيغورية مع رياضي صيني من إثنية الـ”هان” [تمثل المكون الأكبر للشعب الصيني]، على إضرام الشعلة الأولمبية.
وقد وُضِعَتْ الشعلة الأولمبية وسط ندفة ثلج هائلة وصفها المخرج زانغ بأسلوب أنيق بأنها “ندفات ثلج مختلفة تأتي إلى بكين وتتجمع لتشكل ندفة ثلج عملاقة للبشرية”. وقد شكل اختيار الرياضية الإيغورية توبيخاً واضحاً لجميع أولئك الذين أعربوا عن شجبهم للألعاب الأولمبية الشتوية معتبرين أنها “ألعاب الإبادة الجماعية”. في المقابل، لم يمنع ذلك النقد الشركات الراعية مثل “إيربنب”، و”كوكا كولا”، و”إنتل”، و”بروكتار أند غامبل”، و”تويوتا”، و”فيزا” من تقديم الدعم المالي للألعاب. وانطلاقاً من حرصها [الشركات الراعية] على تجنب انتقام بكين، لم تقل سوى القليل عن مئات الآلاف من الإيغور ممن احتجزوا في “مراكز إعادة التعليم” في إقليم “شينجيانغ”، أو حول إلغاء بكين حق هونغ كونغ في نيل “درجة عالية من الاستقلالية”.
ومع أن استاد “عش الطائر” يحتوي على مقاعد تكفي لاستيعاب 88 ألف شخص، ففي ليلة حفل الافتتاح كان نصفه فارغاً. وقد حافظت البلاد على استراتيجية “صفر كوفيد”، بسبب عدم فاعلية اللقاحات الصينية بشكل كبير ضد متحورة كورونا “أوميكرون” السريعة العدوى، إضافة إلى مقاومة الحزب الشيوعي الصيني بعناد الاعتماد على واردات [لقاحات] أجنبية. ولذلك، سمح لجمهور جرى اختياره بعناية مؤلف من 15 ألف متفرج بحضور الحفل، ما أدى في شكل أساسي إلى اختزال الصالة إلى مسرح صوتي لأستوديو تلفزيوني عملاق، وهي حالة تناسب حاجات الحزب السياسية بشكل نموذجي. ومن دون شك، لقد شعر قادة الجمهورية التي تسمي نفسها أنها شعبية، بالارتياح لأن حدثاً مثيراً للجدل وضخماً كهذا لم يشمل بالفعل عدداً كبيراً من “الناس”، خصوصاً أولئك الأجانب الذين لا يستحقون الثقة إذ ربما كانوا يميلون إلى إطلاق احتجاجات مرتجلة.
وعلى نحو مماثل، شكل القادة الأجانب الذين حضروا الحفل مجموعة متنوعة من المستبدين من مستوى أدنى، بمن فيهم عمران خان رئيس وزراء باكستان، ألكسندر فوتشيش رئيس صربيا، وقاسم جمرات توكاييف رئيس كازاخستان الذي كاد يزاح أخيراً من منصبه. وبطبيعة الحال، حضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هناك، وتحدث مع شي جينبينغ في اجتماع لهما يعتقد الزعيمان أنه سوف “يضخ مزيداً من الحيوية في العلاقات الصينية- الروسية”، طبقاً لتقرير نشرته وسائل الإعلام الحكومية الصينية. وأخيراً، كأنه شيء جاء خطأ إلى حفل غير ذاك الذي قصده، كان هناك أنطونيو غوتيريش الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، الذي ميز نفسه بالتزام الصمت حول انتهاكات الصين لحقوق الإنسان.
الحب والخوف
يصعب ألا يتعجب المرء لدى مشاهدة الحفل، متسائلاً عن ذاك الذي يحاول الحزب الشيوعي الصيني أن يثير إعجابه، هل يتخيل القادة الصينيون أن بوسعهم كسب دول أجنبية بدعاية كهذه، حتى مع تعمدهم بشدة (وبنجاح) أن ينفروها، دولة إثر الأخرى، من خلال التنمر، والتهديد والوعيد، والسياسات التجارية الانتقامية، لماذا لا تزال تلك الحساسية حيال النقد مستمرة في أوساط القادة الصينيين حاضراً بعدما صار لديهم، أخيراً، ما يشعرون أنه مدعاة للفخر؟ باختصار، كيف يمكن لبكين أن تمارس “دبلوماسية المحارب الذئب” العقابية في الخارج [ضد بعض الدول]، في وقت تتوقع فيه أن تخاطب تلك الدول ذاتها بحلو الكلام من طريق عروض دعائية حسنة الإنتاج، لكن حلاوتها اصطناعية غير حقيقية؟
أولاً، ينبغي أن يتذكر المرء أن هذا الحفل قد أنتج للجمهور الصيني المحلي بالقدر الذي أعد من أجل الأجانب. إن نبع القومية الصينية الجديدة، على أي حال، والفخر بالبراعة المتنامية لـ”الوطن الأم”، خصوصاً في المنافسة الدولية، سواء في الدبلوماسية، أو التجارة، أو الرياضة.
في المقابل، تملكت “الحزب الشيوعي الصيني” الرغبة دوماً، إلى حد الهوس تقريباً، بإثارة إعجاب الأجانب، بل رهبتهم إذا أمكن ذلك. وعلى الإطلاق، لم تستطع محفظة الإنجازات التنموية والإنجازات الصينية المثيرة للإعجاب، أن تخمد بشكل كامل توق قادة الحزب إلى كسب قبول الدول الأخرى واحترامها، وهي البلدان ذاتها التي تعاملها الصين في الوقت نفسه بوصفها عدوة لها، سبب إكثارها من الانتقادات [الموجهة إلى بكين]. ويستمر هذا التناقض منذ مدة طويلة، ولم يظهر حل له حتى عبر “الانخراط”، وهي سياسة احتضان دعمتها تسع إدارات رئاسية في الولايات المتحدة.
لم ينجح الانخراط على الإطلاق في الوصول إلى تقليص كامل لتوق الحزب إلى الفوز بالتقدير من قبل قوى عظمى أخرى، بوصفه مساوياً لها، بل متفوقاً عليها في مجالات معينة. وربما ليس من المفاجئ أنه حين يوبخ الحزب أو يرفض من قبل الولايات المتحدة أو “الغرب”، فإن إحدى العبارات المجازية المفضلة لدى وزارة الشؤون الخارجية تتمثل في الشكوى من أن غطرسة الغرباء قد “جرحت مشاعر الشعب الصيني”، وتلك طريقة ميلودرامية من المضحك تقريباً أن تستعملها قوة عظيمة في التعبير عن سخطها. وتكمن المشكلة في أنه نظراً لكون “الحزب الشيوعي الصيني” لا يزال متشبثاً بعناد بأوهامه الستالينية الرجعية على الرغم من كل نجاحاته، فإنه لا يستطيع إطلاقاً أن يعفي نفسه بشكل كامل من الاستنكار السياسي الذي ترميه به دول ديمقراطية. لقد كان من شأن ماو أن يعترف بأن ذلك عبارة عن “تناقض عدائي” ما يعني أنه لا يمكن حله على الإطلاق بشكل سلمي.
لقد ورث شي جينبينغ تلك المعضلة التي لا تقبل الحل، ويريد من العالم الخارجي أن يقبل نسخته الديناميكية من الاستبداد الصيني، وأيضاً أن يخشاها ويحترمها. لقد ساد السلام والحب حفله افتتاح الألعاب الأولمبية. في المقابل، بالنسبة إلى ما يتعلق بهونغ كونغ وتايوان والتيبت وشينجيانغ، وكذلك المواجهة بينه [شي] وبين أستراليا وكندا والهند والولايات المتحدة، فإنه يبقى عدوانياً متصلباً لئلا تبدو المساومة كأنها علامة ضعف. وبالتالي، فإن النتيجة المأساوية هي أنه في الوقت الذي تقارب فيه الصين حلمها في استعادة الثروة والسلطة بعد قرن ونصف القرن من الصراع والفشل، يجري تعريض نجاحها في ذلك حاضراً للخطر من قبل زعيمها الذي لا يستطيع التخلي عن السرديات اللينينية التي عفا عليها الزمن المتعلقة بالمظالم والعداء.
*أورفيل شيل، مدير “كرسي آرثر روس” في “مركز العلاقات الصينية الأميركية، جمعية آسيا”، وهو مؤلف رواية “وطني القديم”.
مترجم من فورين أفيرز، فبراير (شباط) 2022
المصدر: اندبندنت عربية