يبدو أن كل شيء في المشهد ينذر بالحرب، وأن الغزو الروسي لأوكرانيا الذي حدث قبل بضع سنوات قد يتكرر مجددا، حيث تُظهِر صور الأقمار الصناعية تحركا ضخما للقوات الروسية (بلغت أكثر من 90 ألف مقاتل) بعتادها الثقيل غربا على حدود أوكرانيا، بما في ذلك قوات أتت من مناطق بعيدة مثل سيبيريا (شرق روسيا). وعلى الجهة المقابلة، نقلت أوكرانيا نصف قوات جيشها (حوالي 125 ألف مقاتل) إلى حدودها المتاخمة لروسيا استعدادا لساعة الصفر التي تُرجح أجهزة الاستخبارات الغربية، بما فيها الأوكرانية، أن تكون مطلع العام الجديد 2022. ورغم أن مدير الاستخبارات الأميركية سافر إلى موسكو لتحذير القادة الروس من مغبَّة أي تصعيد عسكري، يُنكر الكرملين أنه يخطط لغزو أوكرانيا، ويقول إن لديه الحق في نقل قواته داخل أراضيه.
لم تقتصر مؤشرات الغزو المحتمل على الحشد العسكري القائم، لكنها تشمل أيضا الحملة الدعائية التي بدأتها وسائل الإعلام الروسية قبل أسابيع لتهيئة الشعب الروسي للحرب، وتنضح برؤية روسية واضحة لموقع أوكرانيا الجيوسياسي والإقليمي كما يجب أن يكون (بالمنظور الروسي)، إذ يرى الروس أن كييف يجب أن تبقى “حديقة خلفية” لهم، أو محايدة بينهم وبين الغرب على أقل تقدير، لكنها حال قررت الخروج عن تلك الأدوار المرسومة لها، وزادت من تعاونها الأمني والعسكري مع منافسي روسيا الأوروبيين والأميركيين، وسعت للانضمام إلى حلف الناتو، فإنها بذلك تتجاوز “خطوطا حمراء” تستوجب التدخل والرد بأعنف طريقة ممكنة.
معضلة الجوار مع دولة عظمى
بوصفها إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي القديم قبل تفسُّخه منذ ثلاثة عقود، مثَّلت أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا خصوصية سياسية واقتصادية وثقافية. وبخلاف العلاقات القديمة التي جمعت البلدين، تنتشر اللغة الروسية على نطاق واسع بين المواطنين الأوكرانيين نتيجة سنين طويلة من الهيمنة الروسية؛ ما جعل الهوية الحقيقية لأوكرانيا محل جدل كبير خاصة طوال فترة التسعينيات، إلا أن ذلك لم يؤثر على علاقات البلدين بعد استقلال أوكرانيا، فسرعان ما أصبحت موسكو أكبر شريك تجاري لكييف. غير أن الأمور بدأت في التحول فعليا عقب الثورة الأوكرانية في فبراير (شباط) عام 2014، والتي أطاحت بالرئيس “فيكتور يانوكوفيتش” وأسقطت نظامه الموالي لروسيا.
كان سقوط يانكوفيتش بمثابة زلزال جيوسياسي بالنسبة إلى موسكو، سرعان ما ردت عليه بالطريقة التي تجيدها. أرادت روسيا الحفاظ على أسطولها العسكري القابع في شبه جزيرة القرم ذات الأهمية الإستراتيجية بسبب موقعها المركزي في البحر الأسود، ومن ثَم سارعت لاحتلال المنطقة، وأعلنت إجراء استفتاء لحق تقرير المصير بين سكانها انتهى بالانضمام إلى روسيا. منذ ذلك التوقيت، صارت القرم تحت السيادة الروسية، في حين رفضت أوكرانيا الاعتراف بشرعية الاستفتاء، أما الاتحاد الأوروبي فردَّ بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا ما زالت مستمرة إلى اليوم. ورغم عدم تدخل حلف الناتو أو الولايات المتحدة عسكريا لدعم أوكرانيا، فإن ذلك لم يدفع موسكو للتخلي عن مخاوفها بشأن النظام الأوكراني الجديد ورغبته في الاندماج مع الغرب.
مع تبلور سُلطة أوكرانية جديدة على عداء مع روسيا، سعت كييف إلى تشكيل علاقات أوثق مع الاتحاد الأوروبي والناتو، ولذا عاد البطش الروسي مجددا في صورة حرب في منطقة “دونباس” المتاخمة للحدود الروسية من جهة الغرب بين الانفصالين الموالين لروسيا والحكومة الأوكرانية. ورغم توقيع اتفاقين لوقف إطلاق النار، وإقامة منطقة عازلة، وسحب الأسلحة الثقيلة، فإن المناوشات التي راح ضحيتها نحو 14 ألفا لم تهدأ حتى الآن، ونُظر إليها طيلة سنوات بأنها ستمهد الطريق لحربٍ حتمية في المستقبل.
تعمقت التوترات بشكل أكبر بفعل السياسات القومية التي تبناها الرئيس الأوكراني “فولوديمر زلنسكي”، وعلى رأسها محاربة اللغة الروسية في الداخل، بالتزامن مع مساعيه للحصول على إمدادات عسكرية من الولايات المتحدة وبريطانيا، في الوقت الذي نشر فيه طائرات مُسيَّرة تركية لمواجهة القوات المدعومة من روسيا في شرق أوكرانيا.
بيد أن لغة التهديد بلغت ذروتها بإجراء أوكرانيا تدريبات عسكرية مع الولايات المتحدة في البحر الأسود على مقربة من الأسطول الروسي. ومن ثَم أخذت تتشكَّل ملامح غزو روسي وشيك في يوليو (تموز) الماضي حين نشر الرئيس الروسي تقريرا مطولا على موقع الكرملين واصفا فيه قادة أوكرانيا بأنهم يديرون مشروعا مناهضا لروسيا. أما ما فاقم الصراع حدة، فكان رفض حلف الناتو طلب موسكو إلغاء قراره الصادر عام 2008 بفتح الباب أمام انضمام جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف، وهو ما تعتبره موسكو شرطا أساسيا لخفض التصعيد الحالي.
سياسات التجاهل الأوروبية
وبينما يتصاعد الصراع إلى ذروته، يتطلع الجميع إلى موقف الاتحاد الأوروبي، الحليف الأقرب جغرافيا وسياسيا بالنسبة إلى كييف في الوقت الراهن. لكن تاريخ الثقة بين الأوروبيين وأوكرانيا لا يبشر بالخير، ففي عام 2014، ورَّط الغرب أوكرانيا في حرب مع روسيا ثم تركها فريسة لها لأسباب معقدة، أبرزها أن واشنطن وحلفاءها الأوروبيين خشوا من التورط في مواجهة عسكرية ضد موسكو ربما تتطور إلى حرب نووية، كما أن الغاز الروسي الذي يمد القارة العجوز أوقع الزعماء الأوروبيين تحت ضغط من بوتين، في ظل عجزهم عن تعويض الحصة الروسية المُقدّرة بنحو 40% من احتياجات السوق الأوروبية، خصوصا مع وجود سابقة عام 2009 حين عاقبت روسيا أوكرانيا بوقف إمدادها بالغاز، في أزمة عطلت الحياة في عدة مدن أوروبية.
أمام هذه الوقائع، دفعت الولايات المتحدة باتجاه زيادة صادرات الغاز المُسال إلى القارة العجوز، إلى جانب دعم مشاريع مد خطوط الغاز التركية والإسرائيلية إلى أوروبا، مع فرض عقوبات على الشركات الأوروبية المتعاقدة مع موسكو، في خطة تستهدف بالأساس تقليل التأثير الاقتصادي الروسي على أوروبا في مجال الطاقة. لكن تلك التحركات باءت بالفشل لاعتبارات معروفة سلفا، على رأسها أن روسيا تتمتع بميزة تنافسية سببها انخفاض التكلفة ووصول الغاز بأرخص سعر إلى أوروبا مُمكن. ولذا، ظلت قبضة موسكو مُحكمة على السوق الغاز الأوروبي حتى اللحظة.
دفع ذلك الرئيس الأميركي “جو بايدن” إلى تحذير موسكو من “التلاعب السياسي” بتدفقات الغاز على خلفية التوترات الأخيرة. ورغم أن أوكرانيا ورثت عن الاتحاد السوفيتي ثاني أكبر شبكة لنقل وتوزيع الغاز في أوروبا تضم نحو 37.1 ألف كيلومتر من الأنابيب الرئيسية بقدرات استيعابية تبلغ نحو 32 مليار متر مكعب، فإن روسيا عقب انقلاب الحكام الجُدد لكييف عليها خططت لنقل الغاز إلى أوروبا بعيدا عن أوكرانيا عبر مشروع “نورد ستريم 1 و2” المار ببحر البلطيق، وهو مشروع يهدد بتحويل شبكات نقل الغاز في أوكرانيا إلى خُردة. بيد أن تصفية أهمية أوكرانيا في خارطة الغاز الأوروبية قد يقوِّض من أهمية كييف لدى العواصم الغربية، لكنه لن يقلل أبدا من أهميتها بالنسبة إلى موسكو، المرتبطة بعوامل جيوسياسية وتاريخية بالدرجة الأولى.
كيف تخسر روسيا حربا مضمونة؟
على الجانب المقابل، تمتلك أوكرانيا أوراقها أيضا، حتى وإن كانت هذه الأوراق ترتبط بشكل كبير بالدعم الخارجي. فحتى اللحظة، تبدو القوى الأوروبية أكثر حزما في دعمها لكييف مقارنة بعام 2014، في الوقت الذي وسَّعت فيه البلاد من تعاونها الأمني مع الغرب. في السياق ذاته، هددت واشنطن بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا من المتوقع أن تكون أشد وطأة من تلك المفروضة بعد أزمة القرم، فيما أعلن الاتحاد الأوروبي بدوره أنه سيفرض عقوبات حال اجتاح الجيش الروسي أوكرانيا، دون الإفصاح عمَّا إن كانت الخطوة ستشمل خط أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم 2” أم لا. هذا وتفكِّر بعض الدول الكبرى منذ مدة في تبني إستراتيجية لعزل موسكو في سوق السلاح العالمي، وهي ثاني أكبر مُصدّر للسلاح عالميا بعد الولايات المتحدة.
أمام طبول الحرب التي تُقرع على تخوم البلدين، حصلت أوكرانيا على دعم عسكري ومالي من بريطانيا والولايات المتحدة، كما كثَّف الناتو من تحرُّكاته في البحر الأسود مع اقتراب السفن الأميركية من المنطقة المحظورة التي حددتها روسيا سلفا، وهي كلها مكاسب لم تحصل عليها الحكومة الأوكرانية إلا بعد التصعيد مع جارها الروسي، الذي يبدو واثقا في قدراته العسكرية، لكن لعله على وشك الدخول في معركة معقَّدة ستكلفه الكثير عسكريا واقتصاديا.
يدرك القادة الروس أن أزمة أوكرانيا تدفعها لاتخاذ قرار لن يمُر دون عواقب، فالصمت على السياسات الأوكرانية يعني وقوع كل المحظورات، وانهيار كل الخطوط الحمراء التي حددتها موسكو سابقا، كما أن اللجوء إلى الخيار العسكري سيعني فوزا عسكريا مضمونا على الأرجح، لكن كلفته الاقتصادية والسياسية ستكون باهظة بالنسبة إلى موسكو. وتريد “كييف” من كل ذلك تأكيد انضمامها إلى حلف الناتو رُغما عن أنف الروس أكثر من رغبتها في تحقيق نصر عسكري احتماليته ضئيلة في الحقيقة، بل ولعل خسارة المعركة العسكرية أمام الروس هي ما سيتيح لها أن تسجِّل انتصارها السياسي؛ ما يعقِّد المعادلات الروسية في نهاية المطاف.
يتردد الغرب حتى الآن في ضمِّ أوكرانيا إلى حلف الناتو؛ نظراً لحجم المصالح التجارية والاقتصادية التي تربط دوله بروسيا، بيد أن ذلك لم يدفع “كييف” للتخلي عن مطالبها الإستراتيجية الممثلة في عرقلة مشروع “نورد ستريم 2″، وعدم الاعتراف بروسية القرم وباستقلال جمهوريتَي “دونِتسك” و”لوهانسك” في إقليم دونباس، وإلغاء أي قرار قامت به روسيا في هاتين المنطقتين منذ عام 2014، كما تطالب بحصولها على أحدث الأسلحة من حلف الناتو، إلى جانب مبادلة المعلومات الاستخباراتية الغربية معها، وتكثيف المناورات العسكرية، وهو ما يضعها فعليا في الدور السياسي الذي تتوق له، باعتبارها حائط صد غربيّا أمام التهديدات الروسية.
في ضوء ذلك، من المرجح أن روسيا سوف تتمهل إلى أقصى درجة ممكنة قبل اتخاذ قرار التوجه إلى حرب شاملة، ليس فقط بسبب مخاوفها من أن الحرب سوف تؤدي إلى خسارتها أوكرانيا سياسيا في نهاية المطاف، ولكن أيضا بسبب وجود مخاطر أخرى محتملة، أبرزها أن دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) تتخوف من تقدم روسيا في العمق الأوكراني لاعتقادها بأنها ستصبح لاحقا هدفا للكرملين الراغب في استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي؛ ما يعني إضرام نيران جديدة على مقربة من الحدود الروسية. وقد يكون البديل بالنسبة إلى روسيا هو استخدام الموالين لها في العمق الأوكراني، وتأجيج الوضع الداخلي بهدف الإطاحة بالسلطة الحالية، بالتزامن مع خوض مفاوضات مع الغرب حول الخطوط الحمراء، بما يشمل تقليص نشاط الناتو، وتعليق خطط انضمام أوكرانيا إلى الحلف.
في الأخير، تدرك موسكو أن أوكرانيا ربما لا تخشى الحرب هذه المرة، فرغم يقينها من أنها ستخسرها عسكريا، فإنها في المقابل يمكن أن تحصد منها مكاسب سياسية جمة لعل أقلها تسريع انضمامها إلى الناتو. من المنطقي إذن أن نفترض أن موسكو حريصة على تجنب الحرب، ولكن كما تُعلِّمنا دروس التاريخ، فإن سياسة حافة الهاوية لا تتطلب سوى رصاصة واحدة تشعل النار في كل شيء.
في النهاية، ثمَّة حرب على وشك الاشتعال إذن بين طرفين يريدانها لأسباب مختلفة ويمتلكان حولها تصورات متباينة أيضا، فإما أن تنجح كييف في تحريك القوى الغربية إلى صفِّها بشكل حاسم يمنحها المكانة العسكرية والاقتصادية التي تريد، وإما أن تشن موسكو حربا شاملة تحقق فيها انتصارا سياسيا يقصم ظهر كييف تماما، وهو ما يعني حربا شاملة من جانب الروس تمتد إلى ما هو أبعد من إقليمَي الشرق في أوكرانيا، بل ولعلها تصل إلى كييف ذاتها لإملاء شروط موسكو، وهو خيار لن يكون بسهولة غزو القرم.
بينما يزداد الحديث عن الحرب الوشيكة، وتتكثف الجهود الدبلوماسية في الغرف المغلقة في الوقت نفسه، يبدو أن المنطقة التي ظن الجميع أن السلام قد حل عليها عندما انتهت الحرب الباردة قبل ثلاثة عقود، ربما تكون على موعد مع حرب جديدة وقديمة في آن، إلا أن حساباتها هذه المرة أعقد مما يظن الجميع.
المصدر: الجزيرة. نت