تحوّل رثاء الثورات وأحوال البلدان العربية التي اندلعت فيها إلى طقسٍ يتكرّر كل عام، فمنذ أواخر 2010 عندما أشعلت تونس جذوة الثورات، أصبح لمحبي نظريات المؤامرات وداعمي الديكتاتوريات ما يكفي من الأحداث والتحولات المتسارعة لبناء سردياتهم الخاصة والمضلّلة.
من تونس، إلى مصر وليبيا واليمن وسورية، كان العداء للحراك الشعبي واضحاً من الأنظمة، التي لا يمكن، بالطبع، توقع أي موقفٍ مخالفٍ منها، وهي الساعية إلى الحفاظ على الحكم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. كذلك، برزت مواقف شعبية تخشى التغيير وتشيطن الثورات. وطوال أكثر من عقد، زادت قناعة أصحاب هذا المعسكر بأن الثورات “شرٌّ مطلق”، متخذين من قائمة الأزمات الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بمعظم بلدان الثورات/ الانتفاضات مبرّراً.
المقولة الأكثر تردّداً منذ ذلك الحين، ومفادها بأنه “لن ينجو أي بلدٍ عربي شهد ثورة من الخراب”، تحولت بالنسبة إليهم إلى واقع ملموس. حتى تونس التي كانت تصنّف، إلى وقتٍ قريب، بأنها الناجية الوحيدة، لم تعد هذه حالها منذ وصول قيس سعيّد إلى الحكم وانطلاقه، منذ أشهر، في تنفيذ مخطّطه عبر الانقلاب على النظام السياسي وتقويض المرحلة الانتقالية والاستئثار بجميع السلطات، من دون أن تكون سيناريوهات المرحلة المقبلة واضحة، فعلى الرغم من خطورة المرحلة وتهديدها مكتسبات الثورة، لا تزال القوى السياسية والمدنية التونسية عاجزةً عن الوحدة لمواجهة الانقلاب.
لكن مرّة جديدة، من المسؤول عن مآلات الأوضاع في البلدان العربية. هل هي الثورة/ الانتفاضة، أو مهما اختلفت التسميات حولها بما هي تحرّك شعبي احتجاجي بمطالب سياسية واقتصادية واجتماعية محقّة؟ أم هي النخب التي برزت عقب الثورات وعجزها عن نقل الاحتجاج إلى مرحلة أبعد وأهم، تصوّب على الأنظمة السياسية القائمة لإسقاطها؟ أم أن المتهم المشترك والأجدى تحميله المسؤولية هو النظام الحاكم؟
عندما اندلعت الثورات/ الانتفاضات العربية قبل أكثر من عقد، كان ما يجمعها أكثر بكثير من الاختلافات، سواء لجهة أسباب اندلاعها ومطالب المحتجّين. وعندما سعت إلى أن تخطو أولى خطواتها نحو التحوّل الديمقراطي، كانت هناك أيضاً قواسم مشتركة كثيرة، أبرزها استشراس الأنظمة الحاكمة والدولة العميقة للقضاء على أي أملٍ في هذا التحول مهما تطلب الأمر، بدءاً من إشعال حربٍ أهليةٍ، مروراً بتدمير البلد وحرقه، وصولاً إلى الانقلاب.
تبدو سورية النموذج الأوضح. لم يوفر بشار الأسد جريمة إلا وارتكبها لمحاولة إنهاء الثورة منذ أيامها الأولى، وكلما عجز عن ذلك، ذهب بعيداً. أكثر من عقد من المجازر وتدمير المدن وتهجير الملايين والاقتتال الأهلي ورهن البلاد لروسيا وإيران. وذلك كله يبدو بالنسبة إليه كلفة ضرورية ومقبولة، طالما أنه باقٍ في الحكم.
وفي اليمن، الذي تحل فيه ذكرى الثورة في 11 فبراير/ شباط من كل عام، حاول علي عبد الله صالح القيام بالأمر نفسه. ولم يكن تخليه عن السلطة في 2012، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها منتصف 2011، سوى مقدّمة لمرحلة جديدة من نشر الخراب، فأكثر من 30 عاماً من حكم اليمن لم يكن كافياً له. اختار صالح التحالف مع “أعداء الأمس”، الحوثيين، وسهّل لهم اجتياح العاصمة، وبدء مهمتهم في غزو اليمن وتدميره، قبل أن يعمدوا إلى الغدر بـ”الراقص على رؤوس الثعابين”. ويعيش اليمنيون منذ ذلك الحين على وقع حربٍ تفشل جميع الوساطات في حلها.
سورية واليمن مجرّد نموذجين عن مدى القدرة على إعاقة التحول الديمقراطي والحدود التي يمكن أن يذهب إليها من في الحكم من أجل الحفاظ على موقعه. وما يجري في السودان، منذ أشهر، على أيدي عسكر عبد الفتاح البرهان و”حميدتي”، وما جرى قبله في العراق بعد “انتفاضة تشرين”، يقودان إلى المتهم نفسه.
المصدر: العربي الجديد