حروب الرمال بدأت… فما تأثيراتها على العالم؟

استنزافها بالمعدلات الحالية له عواقب وخيمة على المناخ والتنمية والمجتمعات

قد تبدو الرمال سلعة متوفرة في كل مكان، ما يجعلها لا تمثل قيمة تُذكر من الناحية الجيوسياسية، لكن الحقيقة غير ذلك، فالكميات الصالحة للاستخدام من الرمال محدودة أكثر مما يعتقد البعض، وأصبح استنزافها بشكل متسارع مثيراً للقلق، إذ إن الرمال هي أكثر الموارد استخراجاً في العالم بعد المياه، فهي تشكل نحو 85 في المئة من عمليات التعدين العالمية، ولأن الحضارات الحديثة والناشئة تعتمد على الرمال في جوانب كثيرة بدءاً من الخرسانة والزجاج والطرق السريعة إلى ناطحات السحاب وشاشات الهواتف الذكية، فقد بدأت ملامح الصراع بين الدول وبرزت أدوار للمافيا في تجارة الرمال، فما التأثير الذي يمكن أن تخلفه هذه الحروب على الدول والمجتمعات والبيئة حول العالم؟

مادة للنزاع

على مدى سنوات، تزايد الطلب بشكل لافت على الرمال لأغراض البناء وتشييد الجزر واستخدامها لأغراض جيوسياسية في مناطق متنازع عليها، ما أدى إلى تصاعد التوترات السياسية والعسكرية وتهديد البيئة والإضرار بالسكان المحليين وبخاصة في آسيا وأفريقيا، الأمر الذي ينذر بالخطر، فعلى سبيل المثال اشتكى المسؤولون في تايوان بشكل مستمر من أن الصين تُجرف الرمال من جزر تديرها تايوان ومن قاع المحيط في المنطقة العازلة بين الجانبين للاستفادة بها في مشاريع البناء الصينية، إذ تعتبر تايوان وبعض المراقبين الغربيين، أن تجريف رمال الجزر نوع من الأسلحة التي تستخدمها بكين ضمن حملة ما يسمى “حرب المنطقة الرمادية” التي تنطوي على استخدام تكتيكات غير تقليدية لإرهاق العدو من دون اللجوء فعلياً إلى القتال المفتوح، بحسبما يقول رايان هاس، الباحث البارز في معهد بروكينغز الأميركي.

وتصاعد معدل المواجهات حول تجريف الرمال خلال الأعوام الماضية بشكل خطير، حيث طرد خفر السواحل التايواني آلاف كراكات الحفر الصينية من المياه الخاضعة لتايوان، في وقت كان الجيش الصيني، يرسل طائرات حربية في غارات تهديدية تجاه الجزيرة التايوانية، لكن في حين تنفي الصين زعم تايوان، أنها تسمح لقوارب جرف الرمال بالانخراط في عمليات غير قانونية، أبدت الولايات المتحدة وعدد من دول شرق آسيا انزعاجها قبل سنوات من تجريف الصين كميات ضخمة من الرمال وتكديسها فوق الشعاب المرجانية في بحر الصين الجنوبي لإنشاء سبع جزر صغيرة جديدة في المنطقة بهدف توسيع أراضيها، مما يزيد من التوترات الجيوسياسية في جزر سبراتلي المتنازع عليها بين دول عدة، والتي تقع على بعد 500 ميل من البر الرئيس للصين.

أهمية الرمال

بالنسبة إلى سلعة يبدو أنها متوفرة بكميات غير محدودة على الأرض، قد يبدو الرمل كهدف جيوسياسي للدول أمراً مثيراً للفضول، لكن الرمال في الواقع أكثر أهمية مما يعتقد كثيرون، فهي تُعتبر ضرورية جداً لكل شيء تقريباً بالنسبة للحضارات والمجتمعات الحديثة، بحسبما يقول باسكال بيدوتسي، المسؤول في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، بل إنها كانت كذلك منذ آلاف السنين، فعندما بنى الرومان معبد “البانثيون”، استخدموا الرمال البركانية الغنية بالألوان التي استخرجوها من تدفق الرماد الصادر عن بركان قريب، وبعد مزج الحبيبات الحمراء والسوداء مع الحجر الجيري، وجدوا أنه بإمكانهم إنتاج مادة صلبة قوية، سمحت للمعبد القديم بالبقاء على قيد الحياة لآلاف السنين.

وحتى بعد مرور قرون عدة، لا تزال الرمال المكون الرئيس للمجتمعات والحضارات الحديثة كما تقول ميتي بنديكسن الأستاذة المساعدة في جامعة ماكغيل، إذ تحتاج كل البلدان إليها، حيث يؤدي خلط الرمال بالأسمنت والصخور المتكسرة إلى إنتاج الخرسانة اللازمة للبناء، بينما تؤدي الحرارة والمعالجات الكيماوية لتحويلها إلى زجاج، وتُعتبر الرمال ضرورية لتشييد ناطحات السحاب والطرق السريعة وحتى شاشات الهواتف الذكية وبعض المكونات الإلكترونية.

ثمن مقلق

ومع صعود الصين والهند ودول أخرى اقتصادياً وتنموياً، ارتفع الطلب على الرمال بشكل كبير جداً بهدف تحقيق الخطط التنموية الطموحة، لكن الاعتماد بشكل متزايد على استخراج الرمال وتجريف الأنهار والبحيرات، جرى بثمن مكلف ومقلق، إذ تلاشت بعض الجزر، وتآكلت ضفاف الأنهار، وانهارت النظم البيئية، وظهرت مافيات قوية للرمال، ومع ذلك فإن الأسوأ لم يظهر بعد، لأن الرمال تحمي المناطق الداخلية من الفيضانات، وسيؤدي الإفراط في استخراج الرمال، إلى تهديد المجتمعات الساحلية، وبخاصة عندما يؤدي تغير المناخ إلى ارتفاع مستويات سطح البحر، ولكن حتى مع هذه المخاطر، لا تدرك الحكومات أن هناك أزمة تلوح في الأفق. ووفق مجلة “فورين بوليسي”، شهد العالم نمواً هائلاً في استخدام الرمال خلال ربع القرن الماضي. وجاء الجزء الأكبر من الصين التي استخدمت خلال ثلاث سنوات فقط، أسمنتاً أكثر مما استخدمته الولايات المتحدة خلال القرن العشرين بأكمله، وذلك من خلال جرف الرمال المنتشرة على حواف الأنهار والبحيرات داخل الصين، قبل أن تنتقل إلى جرف الرمال من مياه جيرانها، واستخرجت بكين خلال هذه العملية، مليارات الأطنان من الرمال اللازمة لتشييد مدنها المترامية الأطراف وبناء أراض جديدة.

ليست كل الرمال صالحة

قد يكون الرمل وفيراً، ولكن ليست كل الأنواع مناسبة للبناء، حيث لا يمكن استخدام رمال المحيطات والصحراء للخرسانة، إذ إن حبيبات رمال الصحراء التي تذروها الرياح ناعمة للغاية، في حين أن الرمال البحرية المليئة بالملح مناسبة بشكل أفضل لاستصلاح الأراضي، غير أن أفضل أنواع الرمال التي تصلح لإنتاج الأسمنت، تُستخرج من الأنهار التي يتسبب انجراف المياه في تآكل حوافها الشاطئية.

ونظراً لأن كل البلدان لا تملك إمدادات كافية، فإن الحكومات اليائسة تضطر للحصول على المزيد من الرمال من خلال شرائها، فسنغافورة، على سبيل المثال، أنفقت مئات ملايين الدولارات لاستيراد أكثر من 500 مليون طن من جيرانها قبل أن يحظروا تجارة الرمال.

تجارة مربحة ومهلكة

على الرغم من أن عمليات تعدين واستخراج الرمال تستحضر صور الشركات الجشعة وهي ترفل في نعيم الثروة التي تجنيها من تجارة الرمال، فإن العديد من عمال المناجم يعيشون واقعاً أكثر قسوة، ففي الهند يخاطر بعض عمال المناجم بالغرق والغوص في الأعماق الخطرة لجرف الرمال في دلائهم الحديدية من أجل تغطية نفقات معيشتهم فقط، وفي كينيا يحفر آخرون الرمال بمجارف عبر عمل شاق يجعلهم عرضة لانهيار الجدران الصخرية، وهو ما أدى لوفاة مئات من العمال الفقراء.

“مافيا الرمال” تهدد باختفاء شواطئ مغربية

وفي أماكن أخرى، تحول تعدين الرمال غير القانوني إلى تجارة مربحة للغاية غذت الشبكات غير المشروعة التي تعتمد على أن تجارة الرمال تبدو غير مرصودة على الرغم من كونها مصدراً للمال، إلا أن أحداً لا يتتبع مقدار ما يتم استخراجه، ولهذا تشكلت بيئة يزدهر فيها الفساد.

مافيا الرمال

ولعل الهند هي أبرز الأمثلة الحية على بيئة الفساد في تجارة الرمال بحسبما يقول كيران بيريرا، مؤلف كتاب “قصص الرمال”، حيث تهيمن مافيا الرمال على أجزاء من الصناعة عبر شبكة قوية ونخبة تشمل سياسيين ورجال أعمال أثرياء، وغالباً ما تكون هوامش الربح المرتفعة لمورد الرمال مُغرية للغاية، ولكنها خطيرة أيضاً، لأن أعضاء المافيا أشخاص أقوياء، ولديهم علاقات سياسية جيدة، ويمكنهم التحكم في تجارة الرمال في عدد كبير من المناطق، وإذا وقع خلاف أو انتهك شخص ما مناطق نفوذهم، فقد يصبحون عدوانيين جداً.

وقد يكون الدخول إلى عالم مافيا الرمال أو التصدي لهم بمثابة حكم بالإعدام، ففي العامين الماضيين، قُتل ما يقرب من 200 شخص في عمليات تعدين الرمال غير القانونية في الهند بحسب تقديرات منظمات غير حكومية هندية، لأن الأشخاص الذين يتحدون مافيا الرمال يتعرضون للهجوم، ويُقتلون، وفي أحسن الأحوال يتم نقلهم بعيداً عن وظائفهم، لذلك فالتهديد حقيقي.

استنزاف غير مسبوق

وحتى مع استمرار تآكل ضفاف الأنهار وتعرض بعض الجزر للغمر والغرق، لا أحد يعرف بالضبط مقدار الرمال التي يتم استخراجها، نظراً لوجود العديد من اللوائح التنظيمية المختلفة، وكثير من عمال المناجم يعملون بشكل غير رسمي، ولهذا فإن المراقبة العالمية غير موجودة تقريباً، حيث اضطرت الأمم المتحدة إلى الاعتماد على بيانات إنتاج الأسمنت لتحديد تقدير سنوي تقريبي لاستخدام الرمال والذي بلغ 40 مليار طن، وهي وتيرة استخراج سريعة بشكل مقلق ويمكن أن يكون لها آثار كارثية تحدث تغييرات جذرية تماماً.

وقياساً بما شهده العالم خلال السنوات الماضية، فإن التداعيات ستكون خطيرة إذا استمر استخراج الرمال على نفس المعدلات الحالية، فقد اختفت 20 جزيرة إندونيسية، وأدى نضوب نهر ميكونغ في فيتنام إلى إجهاد النظم البيئية وتدمير ضفة النهر، وفي موزمبيق، تآكلت الشواطئ بالكامل، ما جعل البلاد أكثر عرضة للفيضانات الشديدة.

وسيضر ذلك بالمجتمعات المحلية، التي ستواجه الآثار السلبية لتغير المناخ، ففي فيتنام على سبيل المثال، سقطت المنازل والطرق الممتدة على مساحة نصف ميل في نهر فان ناو بعد انهيار ضفة النهر، التي ضعفت بسبب سنوات من جرف الرمال، وفي ميانمار، فقد العديد من المزارعين أفدنة من الأراضي الخصبة بسبب التعرية التي تفاقمت بسبب استخراج الرمال.

أخطار مستقبلية

ومع ارتفاع مستوى سطح البحر خلال السنوات والعقود المقبلة، يمكن أن تصبح هذه الآثار وخيمة بشكل خاص، فالرمال تُعد بمثابة دفاع طبيعي ضد العواصف وعوامل التعرية، ومن دونها ستكون المجتمعات الساحلية أكثر عرضة لخطر الفيضانات والأثر المدمر للعواصف، وبخاصة مع وجود أعداد كبيرة من سكان العالم والمدن الكبرى الذين يعيشون في المناطق الساحلية.

وفي حين أن الناس يفكرون في الرمال على أنها شيء موجود في كل مكان، إلا أن الوقت حان الآن لإدراك أن الصراع على الرمال واستنزافها بهذا التسارع يجعلها في الحقيقة غير مستدامة. وبينما يبدو أن النمو السكاني، والهجرة من الريف إلى المدن، ومواكبة التنمية هي 3 عوامل ضاغطة لاستنزاف مزيد من الرمال، إلا أن الحكومات ينبغي أن تسارع لوقف استخراج الرمال، لأن عدم القيام بذلك، سيؤدي إلى عواقب وخيمة على المناخ والتنمية الإقليمية والمجتمعات.

المصدر: اندبندنت عربية

زر الذهاب إلى الأعلى