الثورة السورية والدولة المدنية المنشودة

د.م. محمد مروان الخطيب

لم تَغِب النقاشات حول العلاقة بين الدين والدولة عن الحياة السياسية في سورية، وبالتالي كان انعكاسها حتمياً في جميع الدساتير التي تمت صياغتها من قبل جمعيات منتخبة وخاصة دساتير الأعوام 1920 و1930 و1950 حيث حظي معدو هذه الدساتير بشرعية سياسية واجتماعية لدى السوريين، وفيما عدا الدستور الذي أقره المؤتمر السوري بالتوازي مع إعلان استقلال المملكة السورية في 1920، تضمنت الدساتير في البلاد إشارات واسعة للعلاقة بين الدين والدولة، واعتبار الدين أو الفقه الإسلامي مصدراً أساسياً للتشريع في البلاد.

إلا أن هذا الأمر وبعد الثورة السورية وانطلاق حوارات حول العقد الإجتماعي المراد صياغته، وخاصة بعد توزع السوريين بين بلدان المهجر، التي تعتبر دساتيرها أن الدولة كيان لايمكن ربطه بديانة محددة، فإن هذا الحديث عاد ليشغل حيزاً من الإهتمام بين من يعتبر الدولة السورية القادمة هي دولة الأكثرية السنية، وبين من يراها دولة المواطنة المدنية.

إن سورية المستقبل تحتاج إلى دولة مدنية ديمقراطية، تقوم على أساس المواطنة المتساوية، دولة لا عسكرية ولا دينية، ينعم فيها المواطنون بالحرية والمساواة في الحقوق والواجبات، تسودها قيم الثقافة المدنية، تفصل الدين عن المجال العام بما فيه من شؤون القانون والتعليم والحريات العامة إضافة إلى الاقتصاد والسياسة. دولة تعتمد مبدأ المواطنة الذي يعني أن الفرد لا يُعرّف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، أو بجنسه، وإنما يُعرّف تعريفاً قانونياً اجتماعياً بأنه مواطن وعضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات، تعتمد مبدأ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. فالدولة المدنية لاتتأسس بخلط الدين بالسياسة. كما أنها لا تعادي الدين أو ترفضه،

حيث أن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية.

وإن كان الإسلام السياسي قد ركز، في الفترة الأخيرة، على الخلط بين الدولة المدنية والدولة الدينية، لإبقاء الربط بين الدين والسياسة وعدم الفصل بين الدنيوي والديني، وهو ما يتعارض برأيهم مع الإسلام، الذي هو برأيهم دين ودنيا، متجاهلين أن الدولة من حقها إجبار الناس على مبادئها فى حين أن القرآن الكريم كلام خالق الكون، يرفض الإجبار والإكراه بصورة مطلقة. والآيات الداعمة لذلك واضحة وجلية، (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) و(وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ) و(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ). وأقر القرآن أيضاً مبدأ حرية العقيدة (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ). ولعلنا هنا نعيد ما أورده الشيخ علي عبد الرازق، من خلال كتابه الشهير “الإسلام وأصول الحكم”، فكرته الرئيسة على تفسير الإسلام بما يتفق مع التطور المعاصر لشكل الدولة، وقال فيه: “رسالة النبيّ ما هي إلا رسالة روحية، ليس فيها إلا البلاغ، فرسالته ليس لإنشاء سلطة حكم. إنما دعوة دينية خالصة، والقرآن دليل على ذلك، وأما الحكومة التي أقامها الصحابة من بعده فهي حكومة دنيوية ليست من أحكام الإسلام.

من هنا نرى حاجتنا إلى حركة تنويرية تشجع على استخدام العقل، وتثبط عملية النقل التي سادت في بلدنا لقرون عديدة، فالثورة إن أثمرت، قد تطيح بالاستبداد الأسدي بسلطته وتغير في طبيعة المصالح المادية ضمن سورية المستقبل، لكنها لا يمكن أن تؤدي إلى إصلاح ضمني وحقيقي في الثقافة والحركة المجتمعية وطباع التفكير، ما لم يرافقها حركة تنويرية، تعتمد على تأسيس هياكل ومؤسسات وطرائق تفكير محفزة للحرية الذاتية، لا مجرد ردود فعل على إملاءات السلطة المركزية تبدو في ظاهرها هامة لكنها في سياقها ضئيلة الفعالية، حيث بإمكان السلطة تغيير الدفة ساعة تشاء وكيفما تشاء، وعلى عدم الاستكانة لقهرية الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تعتني منها الحاضنة الشعبية للثورة.

فالحركة التنويرية، لم تكن يوماً مسعى لإجتثاث الدين من حياة البشر، فالدين يمثل لنا، خاصة نحن السوريين ثقافة وتاريخاً، كما أن حركة التنوير التي شهدتها أوربا في العصور الوسطى لم تصل لمرحلة اجتثاث الدين من حياتهم، بل استطاعت فصل الدين من الحياة السياسية وفتح الآفاق أمام المؤسسات العلمية والثقافية لأن تأخذ دورها في الحياة والمجتمع والدولة، وهو ماعجزنا عنه حتى اللحظة منذ حركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وباعتبار أن الإسلام كدين مؤسس في معظمه على العلم والعقل، فإن غاية الحركة التنويرية المنشودة إعادة تأسيس أمورنا الدنيوية على العلم والعقل، فالإسلام قد أعطى للعلم والعلماء مكانة بارزة في قرآننا الكريم، كما أنّه أكثر الأديان التي دعت إلى استعمال العقل في آياته القرآنية، وبذلك فإننا نرى الحاجة الماسة إلى إعادة توجيه الفكر الإسلامي إلى الاهتمام بالإنسان، خليفة الله في الأرض.

النظام الاستبدادي الذي حكم سورية منذ السبعينيات والذي تميز بكونه فردياً وأسرياً، ووظّف الأديان والطوائف من أجل ديمومة سلطته وتأبيدها. وبقي الدين أداة في يد السلطة الأمنية والعسكرية توظفه لمصلحة تكريس سلطتها وضد التنوير والديمقراطية، كما عملت على توظيف الشعارات القومية والاشتراكية ضد الدين بصفته الإيمانية كموروث شعبي تعايش معه السوريين بتنوعهم دون تفرقة أو هيمنة. واستَغلت، من جهة أخرى، المؤسسات الدينية حاجة النظام لها، ولعبت أدواراً كبرى في إعادة تشكيل الوعي الديني وطيّفته، وعادت الهوية الدينية لدى فئات كثيرة، بعد السنوات الأولى للثورة، لتصبح المسيطرة على شكل الوعي لكون السوريون متدينون في أغلبيتهم. وهنا يمكن أن نفهم ما عمد إليه البعض عندما قامت عصابات الأسد إلى إنهاء منصب المفتي، لينبري البعض لرفض هذا المرسوم بغض النظر عن الدور الذي لعبه طوال الخمسين عاماً المنصرمة في تبرير ماكانت تمارسه عصابات الأسد الطائفية.

فالمجتمع الذي كان قومياً ويسارياً في أغلبيته قبل السبعينيات، أصبح بعدها دينياً وطائفياً ومذهبياً كذلك. مما يوجب على السوريين البحث في مختلف الآليات التي

استُخدِمت فيها الطائفية، من عصابات الأسد والمعارضة والمثقفين، لتكوين حركة تنويرية تنفض الغبار عن الوعي المجتمعي، وتستند إلى المواطنة وشرعة حقوق الإنسان، وهذا غير ممكن من دون فصل الدين عن الدولة، وتمنع تسخير الدين أو الاعتماد عليه من أجل السيطرة على المجتمع والسلطة السياسية.

المصدر: إشراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى