من خلال مراقبة السلوك السياسي والعسكري الروسي في أكثر من بقعة جغرافية، الذي يمكن اعتباره عدائياً وبعيداً في خياراته عن أية محاولة لتدوير الزوايا، يحق لبعض المتابعين الذين أعجبهم يوماً الأدب الروسي، عبر كتابات تولستوي وبوشكين وغيرهما، أو أنهم سموا مع راقصي باليه البولشوي، أو أنهم آمنوا بعقيدة تبنّتها روسيا السوفييتية، ونفّذتها بالدم وبالدموع، مُدّعيّة يوماً أنّها تسعى إلى خير الإنسان الكادح، أن يستغرب نسبياً تطوّر السياسة الروسية البوتينية في السنوات الأخيرة التي تلت انهيار إمبراطوريةٍ هابها العالم، وتبين له أنّها من ورق. أضف إلى هؤلاء كلهم عدداً لا يستهان به ممن درسوا في رحاب الجامعات السوفييتية، ونهلوا من علومها.
هذا الاستغراب، الذي يؤهّل للدخول في مرحلة الخيبة، التي لن تتأخر أن تليها مرحلة العدائية الشديدة لهذه السياسات، مرتبط أساساً بملاحظة السعي الدائم لدى القيادة الروسية للجوء إلى استعراض القوة وفرض الهيمنة على الجيران، ثم جيران الجيران، بالوسائل المتاحة كافة. وبهذه الممارسات، تُثبت موسكو أنّها لا تبحث فقط عن استرجاع مكانة الاتحاد السوفييتي الزائل، لجهة تشكيل قطب سياسي وعسكري واقتصادي قوي، يستند إلى روسيا الجديدة ويواجه الإمبريالية الأميركية، بل يسعى هذا القطب الجديد لاستنباط شكل حداثي لإمبرياليةٍ روسيةٍ تستند أساساً إلى تحالفاتٍ داخليةٍ مركّبة، ويُضاف إليها حلفاء خارجيون، إما خاضعون، وإما تتلاقى مصالحهم التي تعتمد صيغة محاربة الديمقراطية بكلّ أشكالها مع سياسات الكرملين المحلية والدولية.
وفيما كان سعي الإمبريالية الأميركية التقليدية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لفرض الهيمنة، بالتودّد حيناً وبالانقلابات حيناً آخر وبالحروب أحياناً، وبتأمين الحماية، كانت موسكو السوفييتية تدّعي أنّها لا تحاول مواجهة هذه الهيمنة الغربية بهيمنةٍ موازية، بل على العكس، فهي لطالما ادّعت تبنّي النضال الأممي والوقوف الى جانب الشعوب المستضعفة للحدّ من الآثار السلبية للهيمنة الأميركية، التي رأتها مدمّرة “لقوى السلم وحركات التحرّر” في العالم. واليوم، تعيد روسيا إنتاج جدلية الممارسة الإمبريالية بأدواتٍ، جزءٌ منها متطابقٌ مع الإمبريالية الغربية، وخصوصاً في ما يتعلق باللجوء إلى القوة، مع إضافاتٍ مستحدثة، تتعلق بتحالفات غامضة لطبقة رجال السلطة الروسية مع كارتيلات المال والعقارات ومختلف أشكال التهرّب محلياً ودولياً.
في صراعها أخيراً مع الغرب، عبر روسيا البيضاء التابعة وأوكرانيا المُهدَّدة، يبدو جلياً أنّ موسكو قد تمكّنت من فرض صوتها العالي عسكرياً بعد تدخلها المباشر في سورية، الذي ساهم في مساعدة مسؤوليها على تدميرها، إضافة إلى ضمّها جزيرة القرم من دون أن يرفّ جفن أحد من “الإمبرياليين الغربيين” وإرسالها مرتزقةً متعدّدي الجنسيات إلى أفريقيا جنوب الصحراء وإلى ليبيا. من جهة أخرى، تمكّنت موسكو سياسياً من مساندة مجموعات وأحزاب يمينية متطرّفة في أوروبا عبر المال أو عبر وسائل الإعلام. ولا يمكن نسيان الكلام الصريح للرئيس الفرنسي المنتخب حديثاً سنة 2017 والموجّه إلى ضيفه الروسي، فلاديمير بوتين، حين دان كلّاً من الوسيلتين الإعلاميتين الرسميتين الروسيتين “سبوتنيك” و”آر تي”، واعتبر أنّهما لعبتا دوراً قذراً في تزوير الحقائق ونشر الشائعات المغرضة للتأثير في انتخابه. إضافة إلى هذا كله، وضح الدور الروسي المباشر أو عبر وسطاء في تعزيز إمكانات جماعات انفصالية كثيرة في أوروبا، كبعض المؤثرين في حركة استقلال كتالونيا الإسبانية.
يقول خبراء أوروبيون في الشأن الروسي إنّ بوتين يرغب في الانتقام من أوروبا تحديداً لما يراه دوراً غربياً في تشجيع انهيار الاتحاد السوفييتي وتيسيره. كما أنّه شعر، وكذلك كثيرون من الروس، عن حق ربما، بإهانة، حينما انفجر الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون، ضاحكاً، أمام الصحافة، على الرئيس الروسي السابق، بوريس يلتسين، المخمور حينها، في لقاء قمة جمعهما سنة 1995. ويقول المؤرخ والسياسي السوفييتي السابق، أندريه غراتشيف، إنّ بوتين يُدير السياستين، المحلية والعالمية، بعقلية رجل الأمن.
نجحت روسيا، حتى الآن، في فرض إرادتها في ملفات عدة، فهي أجّجت الصراع الداخلي في أرمينيا، حينما شعرت بتوجه يريفان غرباً وسعي جيل شابّ من قيادتها لتعزيز مفاهيم الديمقراطية ومحاربة الفساد، كذلك ساهمت في انتصار أذربيجان، حليف إسرائيل القوي، ضد أرمينيا. وأخيراً، ساهمت في إخماد التحرّكات الشعبية في كازاخستان. واليوم هي تفاوض، من موقع قوة، واشنطن، ثقيلة الحركة ومتردّدة الخطوات، كما أشارت إليه صحيفة “لوموند” الفرنسية بعنوان أساسي قبل أيام. وهي ترفع عصا الطاعة على جارتها أوكرانيا التي تنظر إليها بعض أدبيات الروس كجزء لا يتجزأ من دولتهم العظمى، وتهدّد دول البلطيق إن فسحت المجال لحلف شمال الأطلسي بنشر أسلحة متطوّرة على أراضيها.
تلتقي روسيا مع إسرائيل، بمعزل عن الفروق بين النظامين، في الخشية من اقتراب الديمقراطية من حدودها. وهي مرتاحة لما تجده من ردود فعل غربية غير جادّة بسبب انقسام المواقف. وتساعدها في هذا بفعالية قدرتها على تفجير أزمات مستدامة أو أخرى مستجدّة، بما يتيح أن يسعى لها الغربيون، يستجدون تدخلها أو عدمه حقناً لدماءٍ جديدةٍ.
المصدر: العربي الجديد