في الثاني عشر من نيسان (أبريل) 2018، استكملت قوات النظام السوري سيطرتها على غوطة دمشق الشرقية بعد أعوام من الحصار والقصف والمعارك، وبعد تهجير عشرات الآلاف من سكّانها، وبقاء قسم منهم فيها بموجب اتفاق فرض عليهم إجراء «تسويات» مع أجهزة النظام الأمنية. تحدثنا إلى عددٍ من أبناء الغوطة لاستطلاع أوضاعهم المعيشية وظروف حياتهم، مع مرور عامين على سيطرة النظام على قراهم وبلداتهم.
يصف أبو حاتم، من سكان عربين، حياته اليومية بأنها حرب مستمرة للحصول على لقمة العيش: «لقد ساهم الحصار الذي عانينا منه في خسارتنا لكل ما نملكه من مدّخرات، إضافةً الى دمار معظم المصانع والورشات والمحلات التجارية بشكلٍ كلي أو جزئي، واحتراق أغلب الأراضي الزراعية وقطع أشجارها، وبالتالي “صفينا ع الحديدة” كما يقول المثل الشعبي».
يشرح أبو حاتم في حديثه مع الجمهورية: «من لديه أرض زراعية قام باستصلاحها بإمكانياته الذاتية، وبالكاد يؤمن هذا قوت اليوم للعائلة، ومن يملك محلاً أو ورشة صغيرة قام بترميمها وإزالة الركام من أمامها على نفقته الخاصة، إذ لم تقدم الحكومة أي تعويضات أو مساعدة للسكان المتضررين، واقتصرت عمليات إزالة الأنقاض التي قام بها النظام على الشوارع الرئيسية وبعض الشوارع الفرعية».
ولا تضمن المهن التي يزاولها سكان الغوطة دخلاً معقولاً لهم كما كان الحال قبل اندلاع الثورة، ويعود ذلك الى تقاضي حواجز النظام أتاوات مقابل المنتجات التي يود الأهالي بيعها في العاصمة، أو البضائع التي تدخل إلى الغوطة، وهو ما يجعل هامش الربح ضئيلاً للغاية.
وحصرت أجهزة النظام الأمنية حركة الدخول والخروج إلى الغوطة بأربعة معابر فقط، ما سبّب حالة ارباكٍ لكثيرٍ من الأهالي الذين يضطرون لقطع مسافاتٍ طويلة للوصول إلى معبر، إضافةً إلى المبالغ التي يضطرون لدفعها لعناصر النظام على الحواجز، والتي لا تقل عن ألف ليرة سورية مقابل السماح لهم بالمرور وعدم اعتقالهم.
يقول الصحفي غياث الذهبي، من أبناء الغوطة، إن «خروج أي شخص من الغوطة يتطلب حصوله على موافقة أمنية من الفرع المسؤول عن منطقته، كما أن عملية الخروج والدخول تتوقف على مزاجية عناصر الحاجز»، مشيراً الى أن هناك «مفرزة تابعة للأمن العسكري على كل حاجز من حواجز المعابر الأربعة، من أجل تنفيذ عمليات سوق المطلوبين للخدمة العسكرية».
كورونا يزيد الطين بلّة
ازداد الواقع المعيشي سوءاً عقب فرض حكومة النظام حظر تجوال الشهر الماضي، من الثانية عشرة ظهراً حتى السادسة صباحاً في يومي الجمعة والسبت، ومن السادسة مساءً حتى السادسة صباحاً في باقي أيام الأسبوع، وذلك في سياق الإجراءات المعلنة بغرض الحد من انتشار الفيروس. كما أصدر النظام قراراً بإغلاق كافة الأسواق طوال الأربع والعشرين ساعة، باستثناء محلات بيع المواد الغذائية والتموينية والصيدليات والمراكز الصحية الخاصة، وبالتالي حُرم كثير من السكان من مصادر رزقهم أو تراجع دخلهم، ما دفعهم للبحث عن حلول للتعامل مع هذا الواقع الجديد.
يقول واحدٌ من أصحاب محلات بيع الألبسة في دوما للجمهورية: «أعتمدُ بشكل رئيسي في تأمين مصدر رزقي على عملي في المحل كحال كثيرٍ من السكان، لكن فرض النظام حظر التجوال وإغلاق الأسواق أثر علينا بشكلٍ كبير. التزمنا بالقرار في الأيام الأولى، لكن بعدها لم نعد نحتمل هذا الواقع».
ولفتَ المصدر ذاته الى أن «أغلب أصحاب المحلات المتواجدين ضمن الشوارع الفرعية في الغوطة فتحوا محلاتهم، وفي حال قدوم موظفي البلدية أو دوريات الأمن، يقومون بإبلاغ بعضهم فوراً للإسراع بإغلاق المحلات، ثم يعاودون فتحها حين تغادر الدورية، ومن يتم ضبطه يقوم بدفع رشاوى لعناصر الدورية. كذلك يلجأ البعض إلى التواجد ضمن محلّاتهم مع إغلاق واجهاتها، وحين يأتيهم زبون يطرق الباب، فيفتحون له فوراً ثم يعاودون الإغلاق، وهي الحيلة التي يتّبعها الحلاقون وأصحاب ورشات الصيانة في الغالب».
في السياق ذاته، يوضح غياث الذهبي أن «بعض أصحاب المحلات حصلوا على استثناءات غير رسمية من قرار الإغلاق مقابل رشاوى دفعوها لضباط النظام، كما أن التدقيق على مسألة الالتزام بحظر التجوال وإغلاق الأسواق أقل في الغوطة الشرقية مقارنةً بالعاصمة دمشق».
وشهدت مناطق النظام ارتفاعاً في الأسعار عقب فرض حظر التجوال، نتيجة زيادة الطلب على بعض السلع أو تراجع كميات المعروض منها، بالإضافة إلى تراجع سعر صرف الليرة السورية. وتزيد الأسعار في الغوطة بنسبة 10 إلى 20% عن أسواق دمشق، وخاصةً السلع والأغذية التي تأتي من خارج الغوطة. أما السلع التي يتم إنتاجها في الغوطة فإن أسعارها أقلّ من العاصمة، وعلى وجه الخصوص الخضراوات والفاكهة ولحم الغنم.
ولمواجهة الواقع المعيشي المتردي، تعتمد أغلب العوائل في الغوطة على حوالات مالية تأتيها من أقاربها في الخارج، غير أن هذه الحوالات تراجعت كثيراً مؤخراً في ظل التدقيق الأمني على مكاتب الحوالات، وإغلاق الأسواق، وخسارة قسم من السوريين في الخارج لأعمالهم مع تفشي وباء كورونا.
أزمات في المياه والكهرباء والخبز
تفتقر معظم مناطق الغوطة للخدمات الأساسية، وعلى رأسها المياه التي باتت مشكلة تؤرق الأهالي. أحمد حسان هو اسم مستعار لمهندس من سكان الغوطة، وهو يقول إن «القصف العنيف والأنفاق التي تم حفرها خلال سنوات الحصار ألحقت ضرراً كبيراً في شبكات وخزانات المياه، وحتى الأنابيب التي نجت من التدمير فإن أغلبها لم يعد صالحاً للعمل، كونه لم يتم ضخ المياه عبرها منذ أكثر من سبع سنوات، ذلك بالإضافة الى سرقة كثير من هذه الأنابيب».
بدوره، يقول الناشط الإعلامي ليث العبد الله، من سكان دوما، إن «النظام قام بصيانة جزئية لبعض الشبكات المتضررة وضخ المياه عبرها، ولكن على فتراتٍ متقطعة قد لا تتعدى مرة أو مرتين في الأسبوع، أو قد تكون المياه ضعيفة بحيث لا تصل إلى سكّان الطوابق الأعلى من الأبنية، الذين يضطرون لتشغيل موتورات لسحب المياه باستخدام الكهرباء إن وجدت، أو باستخدام المحروقات».
بالمقابل، هناك كثير من السكان لا تصلهم المياه التي يضخها النظام، بسبب تضرر الشبكات الواصلة إلى مناطقهم، لذلك يستخدمون الكباّسات اليدوية لسحب المياه من الآبار التي تم حفرها خلال فترة الحصار. ويشير ليث العبد الله الى أن «هناك بعض السكان ليس لديهم آبار مياه، أو أن الآبار في منازلهم غير صالحة للشرب بسبب اختلاطها مع مياه الصرف الصحي، وفي الوقت نفسه لا تصلهم مياه النظام، لذلك يضطرون لشراء المياه من الصهاريج المتنقلة».
وليس واقع الكهرباء أفضل حالاً، حيث يوجد خمس محطات للتغذية الكهربائية في الغوطة، ثلاث منها مدمرة ومحطتان قيد الخدمة، إضافةً الى دمار كبير في شبكات تغذية الكهرباء. ويقول غياث الذهبي إن «بعض الأحياء وصلت لها كهرباء وخاصةً القريبة من الحواجز، أو المناطق التي يوجد فيها شخص من حزب البعث أو مرتبط بالأفرع الأمنية، بينما هناك أحياء كاملة بلا كهرباء، أو تصلها الكهرباء لساعتين أو ثلاث يومياً فقط، وبالتالي يعتمد سكّانها على المولدات ما يُكبّدهم نفقات إضافية».
كذلك تشهد الغوطة الشرقية أزمة خبز، تفاقمت أكثر مع فيروس كورونا، حيث منعت حكومة النظام السكان من شراء الخبز من الأفران للحد من التجمعات، وقامت بتكليف المجالس المحلية بعملية توزيع الخبز على الأهالي، ما تسبّب بسوء في التوزيع وعدم الالتزام بالأسعار المحددة.
وتعاني الغوطة من قلة في عدد الأفران قيد الخدمة، وقد تحدثنا في هذا الشأن مع أحد سكان كفربطنا، الذي قال إنه يعتقد أن «النظام يتعمّد عدم صيانة الأفران المتوقفة وإعادة تشغيلها، إضافةً الى إغلاقه بعض الأفران بحجة وجود مخالفات تموينية، ولكن دون توزيع مخصصاتها من الطحين على باقي الأفران لسد احتياجات السكان. لا تقدم الحكومة ما يكفي من الطحين لأفران الغوطة، وعلى سبيل المثال، يبلغ عدد سكان كفربطنا اليوم 5600 عائلة، بينما يُنتج الفرن الوحيد في البلدة 2300 ربطة في اليوم، أي بمعدل نصف ربطة يومياً لكل عائلة، وهذا الحال ينطبق على باقي بلدات الغوطة. خلال فترة الحصار، كانت كميات الخبز أكثر، لأن المنظمات كانت تتكفّل بتقديم دعم كبير لتشغيل الأفران».
القطاع الطبي في الغوطة يعيش أسوأ أيامه
الجانب الطبي همٌّ إضافي يؤرق سكان الغوطة ويستنزف مصادر دخلهم، وعن هذا يقول ممرضٌ من الغوطة إن الواقع الطبي خلال فترة الحصار كان أفضل مما هو عليه اليوم، لأن «حكومة النظام أهملت افتتاح أو إعادة تأهيل أي مستشفيات، فالغوطة لا تحوي اليوم أي مشفى باستثناء مشفى حمدان الخاص في دوما، الذي عاد للعمل قبل فترة. وقد اقتصر عمل الحكومة على افتتاح بعض المستوصفات التي تقدّم اللقاحات والمعاينات البسيطة، ومعظمها تحت إشراف الهلال الأحمر أو منظمة اليونيسيف، وهي غير مؤهلة لإجراء العمليات الجراحية. مثلاً، تضطر الحامل التي تحتاج ولادة قيصرية للتوجه إلى دمشق لإجراء العملية، ما يُعرّض حياتها للخطر».
خلال فترة الحصار، كانت الخدمات الطبية تُقدّم عبر مشفى ريف دمشق التخصصي في دوما، الذي كان يعمل بدعمٍ من منظمات إنسانية، إضافةً الى المشافي الميدانية والنقاط الطبية المجانية التي تم افتتاحها في الأقبية، والتي كانت تضم مختلف التجهيزات الطبية ومعظم التخصصات، وكانت جميع خدماتها مجانية بما في ذلك الأدوية. وقد أغلق النظام مشفى دوما التخصصي وجميع المشافي الميدانية بعد سيطرته على الغوطة، كما سرقت قواته جميع الأجهزة الطبية الموجودة فيها، واعتقلت أو هجّرت أغلب الأطباء والمسعفين الذين عملوا في القطاع الطبي خلال فترة الحصار.
يقول أحد سكّان عربين إن «المستوصفات المجانية الموجودة اليوم تقدم خدمات طبية بسيطة فقط، وتشهد ازدحاماً شديداً، لذا نضطر للتوجه إلى دمشق، أو الذهاب إلى العيادات الخاصة ضمن الغوطة، حيث تبلغ أجرة المعاينة ما يتراوح بين 2000 و3000 ليرة سورية، وهو ما يضاف إليه ارتفاع أسعار الأدوية في صيدليات الغوطة بالمقارنة مع صيدليات دمشق».
يعيش سكّان الغوطة الشرقية معاناة مضاعفة اليوم، نتيجة قلّة موارد الدخل وانهيار البنية التحتية اللازمة للإنتاج من جهة، ونتيجة ارتفاع الأسعار بسبب فرض الأتاوات على الحواجز والمعابر من جهة أخرى، بالتزامن مع خدمات عامة بالغة الضعف وسيطرة أمنية خانقة.
المصدر: الجمهورية نت