الأكراد وصراع السّياسة في العراق: من صعوبة الاندماج إلى برهم صالح!

عقيل عباس

الحضور الكردي في السياسة في العراق كان دائماً إشكالياً وملتبساً وصعباً، على مدى معظم تاريخ الدولة العراقية منذ تشكيلها بعد الحرب الأولى حتى اللحظة الحاضرة. كان بدء الإشكال والصعوبة بضم المنطقة الكردية لمشروع الدولة العراقية الناشئة. جاء هذا الضم ترتيباً سياسياً متأخراً، فرضته حاجات المنتصرين الأوروبيين في تلك الحرب، بريطانيا وفرنسا، عندما قررتا ضم ولاية الموصل، بأغلبيتها الكردية وقتها، إلى العراق الواقع تحت النفوذ البريطاني قبل مأسسة هذا النفوذ عبر نظام الانتداب، بدلاً من وضعها تحت النفوذ الفرنسي حسب اتفاقية سايكس بيكو في 1916، وعلى الأغلب إلحاقها تالياً بسوريا الكبرى حينها (سوريا ولبنان) الخاضعة لهذا النفوذ. ضمنت فرنسا مقابل هذا التنازل عن الموصل حصة ثابتة ودائمة (أقل من 25 في المئة بقليل) من النفط العراقي الذي سينتج بعد ذلك بسنوات (1927).

في آخر المطاف، حَرَمَ هذا الإلحاق البريطاني – الفرنسي للمنطقة الكردية بالعراق أكرادَ المنطقة من الحلم الموَقّت بكردستان مستقلة وعدت بها دول الحلفاء المنتصرة في إطار معاهدة سيڤر 1920 التي أُجبرت الدولة العثمانية المهزومة على توقيعها، والتخلي بموجبها عن المناطق الكردية في تركيا لمصلحة إنشاء هذه الدولة. بعد حرب ضارية ضد قوات الحلفاء في تركيا، أطاح كمال أتاتورك هذه المعاهدة ليجبر الحلفاء المنهكين على توقيع معاهدة جديدة تستبدلها (معاهدة لوزان 1923) التي أنهت حلم الدولة الكردية المستقلة، وعملياً ضمنت بقاء كردستان موزعة على أربع دول (العراق وإيران وتركيا وسوريا).

أحاسيس الغضب والخذلان الكردي العميقة من “طعنة” لوزان 1923 لا تختلف عن أحاسيس عربية شبيهة بخصوص “طعنة” سايكس بيكو التي عنت عملياً تقسيم المشرق العربي العثماني سابقاً إلى دول مختلفة.

إلحاق المنطقة الكردية بالعراق كان مشروعاً قانونياً ودبلوماسياً شاقاً، انتهت مشقته، بدعم بريطاني مؤثر، في 1926 عندما توقفت تركيا رسمياً عن المطالبة بضم المنطقة اليها بعد معاهدة أنقرة بين بريطانيا وتركيا والعراق. لكن مشقة العراق العربي مع شماله الكردي، أو على نحو أدق مشقة الشمال الكردي مع جنوبه العربي، كانت أشد وأعمق وأطول.

لم يستطع المركز العربي أن يدمج طرفه الكردي في مشروع الشعب والوطن المقبلين، حتى رغم نبل بعض المساعي في الحقبة الملكية. ارتبط جزء من الفشل بالافتراض العروبي لمعنى الدولة وقيمها لدى النخب الحاكمة في بغداد، فيما ارتبط البعض الآخر بعقلية حكم مركزية ارتابت بمنح الصلاحيات لمن اعتبرتهم غامضين ومتخلفين، وبالتالي متعبين لدولة لم تفهم الاختلاف والتنوع جيداً ولم تحاول استيعابه. بعض لحظات “التعب” هذه كانت تنتج حلولاً غريبة تهرب من المشكلة وتُصدّرها الى مكان آخر كسعي رئيس وزراء الحقبة الملكية شبه الدائم، نوري سعيد، إلى إقناع تركيا في الأربعينات بمنحها كردستان العراقية مقابل دعمها مشروع ضم سوريا للعراق. في مخيلة نوري سعيد الملكية، بنزعاتها الأبوية الإشكالية، كان سهلاً ومنطقياً مقايضة الأكراد العراقيين بالعرب السوريين وتنتهي مشكلة العراق مع الاختلاف!! حتى تركيا الطموحة حينها، والمتوجعة من خساراتها في الحرب العالمية الأولى، كانت تمتلك ما يكفي من عقل كي ترفض جنون رجل الملكية العراقية الأقوى هذا. ازداد هوس الدولة العراقية بمركزية الحكم والارتياب بالآخر المختلف في معظم عهدها الجمهوري ليبلغ أقصاه في سنوات صدّام الشمولية بفظاعاتها في الأنفال وحلبجة وسياسات التعريب.

جاءت لحظة التحول في العلاقة الكردية – العربية في العراق في 2003، بعد إطاحة أميركا النظام البعثي وصناعتها نظاماً سياسياً جديداً يقوم، بدعم سياسي شيعي – كردي، على ضمان التعددية عبر التوافقية والمحاصصة لردع بروز نوازع الهيمنة والتغول السابقة، وذلك كخطوة وسيطة ضرورية للوصول الى بناء الثقة المتبادلة بين الأطراف المرتابة تاريخياً بعضها بالبعض الآخر. برغم عيوبها الكثيرة، منحت هذه التجربة الجديدة فرصةً نادرةً للعرب والأكراد لإعادة صياغة العلاقة بينهما، لكن التخادم المصلحي الضيق بين النخب السياسية الشيعية الحاكمة، بميولها الإسلاموية المقلقة ونزوعها الطائفي الواضح، والنخب الحزبية الكردية بإصرارها على فهم العراق الجديد عبر منظور المظلومية القديمة واتكائها، كحليفتها الشيعية، على سياسات الهوية في فهم الذات والآخر، افشل إمكانية صياغة نموذج حكم رصين سياسياً واقتصادياً، يمنح الفرص ويستوعب الاختلاف، ويمهد السبيل لصناعة مشتركات وطنية يجتمع حولها العرب والأكراد.

قليلون جداً هم الساسة الأكراد الذين استطاعوا الخروج من شراك سياسات الهوية وإغراءات المظلومية وغامروا بالاستثمار في مشروع وطن عراقي ديموقراطي يضم العرب والأكراد وسواهم ككائنات متساوية فعلاً. الأبرز بينهم هو رئيس الجمهورية الحالي، برهم صالح. ظهر هذا الاستثمار واضحاً في واحدة من أعسر لحظات التحول العراقية وأكثرها أهمية (الأهم، برأيي، في كل تاريخ العراق الحديث كدولة). كانت تلك لحظة احتجاجات تشرين الأول (أكتوبر) 2019 التي فصلت بين فهمين مختلفين لمعنى السياسة والهوية في البلد. الفهم الأول والسائد هو حزبي وفوقي قادته ورسخته الطبقة السياسية في عراق ما بعد 2003، حيث أدارت التحالفات الحزبية الدولة وهيمنت على مواردها وصاغت عبرها معنى مشوهاً للمواطنة يقوم على تنافس وتفاعل الهويات القبلية، بتمايزاتها الإثنية والمذهبية.

في ظل هذا الفهم صار العراق دولة الأحزاب واختزلت مصالحه كبلد بمصالح أحزاب السلطة، فيما توحد المجتمع، بعربه وكرده، في البؤس الاقتصادي والغضب السياسي. أما الفهم الثاني الذي ولد سريعاً وثائراً وصاخباً، من ذلك البؤس والغضب، فكان فهم “تشرين”، كحركة احتجاج جريئة، دعت الى هوية وطنية متساوية تنظمها دولة ديموقراطية تستمد شرعيتها الأخلاقية والشعبية من تلبيتها لمطالب المجتمع المشروعة بالكرامة الإنسانية والتمثيل السياسي العادل والتنمية الاقتصادية المستدامة.

في الأيام الأولى من “تشرين” تحالفت سريعاً ضدها أحزاب السلطة ومسؤوليها الحكوميين لتتوالى تفسيراتهم المؤامراتية لها بغرض شيطنتها وتبرير القتل الفظيع بحق محتجيها. في تلك الأيام الصعبة والدموية، كان برهم صالح المسؤول العراقي الوحيد الذي وقف ضد الشيطنة والقتل، واصطف بوضوح مع المحتجين وقضيتهم ودعا إلى فتح تحقيق يقود إلى محاسبة القتلة قضائياً. وراء الكواليس، كان الرجل يضغط، عبر أدوات منصبه المحدود الصلاحيات، لكن أيضاً بصفته الرسمية والمهمة كحامٍ للدستور، كي تتصرف الدولة أخلاقياً إزاء مواطنيها المحتجين، وحثَّ رئيس الوزراء وقتها، عادل عبد المهدي، في رسالة وصلت للإعلام سريعاً على تجنب الخيارات الأمنية والتعاطي، بدلاً من ذلك، مع المظالم البنيوية المشروعة التي قادت إلى الاحتجاج. أدرك برهم صالح أن المجتمع تغير بعدما نفد صبره إزاء تراكم فشل الساسة والمؤسسات وأخذ يطالب أن تتغير السياسة لتعكس مصالحه هو لا مصالح الأحزاب. من هنا كان الموقف الجريء لرئيس الجمهورية برفضه تكليف بضعة مرشحين لرئاسة الوزراء ينتمون لطريقة التفكير والمنظومة الحزبية نفسها التي أنتجت الفشل المريع وصمتت على نتائجه.

عبر كل هذا، خرج برهم صالح على إجماع الأحزاب السياسية العراقية المتحاصصة في السلطة، العربية والكردية وبضمنها حزبه، التي أصرت على أن تفهم الاحتجاج على أنه خليط مقلق، وربما عابر، من حاجات مطلبية وشباب متحمس ومغرر به ومخططات تآمر خارجية ويمكن الرد عليه بخليط مضاد من الرشى المؤسساتية والقمع الأمني والتضامن السياسي لأحزاب السلطة بوجه الخطر المشترك. مواقف صالح هذه المنحازة للمجتمع والمضادة للإجماع الحزبي العراقي كلفته غضباً إيرانياً واستهدافاً وتهديدات من الفصائل المسلحة وشيطنة مستمرة. لكن الرجل لم يتراجع عن مواقفه تلك.

ستجرى قريباً انتخابات جديدة لاختيار رئيس الجمهورية، والخيار يبدو واضحاً الآن بين مرشحين رئيسيين يمثلان خيارين مختلفين في معنى السياسة والهوية في البلد: الأول هو الرئيس الحالي، المُستثمر في مشروع دولة تمثل طموحات المجتمع ومستعدة لبناء تجربة مواطنة ديموقراطية حقيقية، وآخر يمثل مصالح المنظومة الحزبية التقليدية التي تريد أن تدير الدولة فئوياً، وكأن “تشرين” لم تحصل والمجتمع لم يتغير. العراق ليس بحاجة لرئيس يمثل المصالح الحزبية الكردية في بغداد، بل لزعيم كردي يمثل، من موقعه رئيساً للجمهورية، المصالح الوطنية العراقية التي تتضمن أيضاً السعي لردم الهوة بين العرب والأكراد من خلال صناعة وترسيخ مصالح ومشتركات وطنية بين المجموعتين. برهم صالح هو المناسب لمثل هذا الدور.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى