تصورْ أنك تملكُ كلَّ أموالِ العالمِ، التي تستطيعُ أن تشتريَ بها كلَّ ما تشتهي من أفخم البيوتِ واليخوت واللوحات الفنية، بل وحتى أعظمَ العقولِ البشريةِ يمكن أن تجعلَها تعملُ لحسابك، تصور لو أن كبرى الجامعاتِ تسعى وتركعُ أمام خزائنِ أموالك، تصور لو أنك تستطيع أن تنشئَ أكبرَ المراكزِ البحثية، وتستحوذَ على أهمِّ براءات الاختراع، وتشتريَ أغلبَ الغلالِ الزراعية في الأرض، برأيك بعد أن تستمتعَ لفترات طويلة بكل ذلك ما الذي سوف تبحث عنه بعد؟ هذا السؤالُ نغفلُ عنه، أو نتجنبُه، أو لا نحبُّ أن نفكرَ به! لكن الحقيقة؛ أن جوابَ هذا السؤالِ البسيطِ هو مفتاحُ فهمِ السيناريو الحقيقي الذي يتحكم في حياتنا اليوميةِ ويرسم قواعدَها.
الجوابُ البسيطُ لذلك السؤالِ يُلخص بكلمة واحدة وهي “السيطرة”! إنها بالتأكيد ليست نظريةَ المؤامرة، بل هي النفسُ والدوافعُ البشريةُ التي تطمع بتلك الكلمةِ” السيطرة”، وهي هدفٌ نهائيٌّ للبشر لا يحطمُه إلا الموت!
إمبراطورياتُ المالِ العالمية التي تزدادُ ثروتُها، وتسيرُ كأنهارٍ متدفقةٍ تتجمع قطراتُها من عرق كلِّ فردٍ على وجه البَسيطة، أصبحت ثرواتُهم بعد ثلاثةِ قرونٍ ونيف ” العالم أجمع”! نعم هم يملكون العالمَ بآليات الربا التي اخترعوها منذ أسس ماير روتشيلد أعظمَ شبكةٍ بنكيةٍ عابرةٍ للقارات (1744-1814)، وعلى الرغم من أن الربا حاربته كلُّ الديانات السماوية التي يشكل المؤمنون بها ثلثي سكان الأرض، فإن ثروةَ أولئك تتراكم كلَّ ثانيةٍ على حساب الآخرين! نعم لا تستغرب هذا عزيزي القارئ، وهذا ما وضع البشريةَ جمعاءَ في حيرة وعجز! ولتثبيت وإبقاء هذا النهرِ المتدفقِ، عَلِمَ أباطرةُ الثروةِ أن السيطرةَ على العقول البشريةِ هي الهدفُ النهائيُّ الذي سيحمي مملكتَهم!
لا داعي للاستفاضة بما هو معلومٌ للواعي بتلك الحقائق، لكن السؤالَ في هذا المبحثِ هو عن العلاج وليس عن تشخيص الداءِ الذي فردت له مئات الأبحاث. فكما كان الداءُ يلخص بكلمة واحدة وهي ” السيطرة” فإن العلاجَ كذلك بسيطٌ ويلخص بكلمة واحدة ألا وهي ” الإرادة”.
كثير من أصدقائي وقرَّائي عدُّوني مفكرًا حالمًا، أو غيرَ واقعي عندما تحدثت عن أنَّ استمرارَ النظامِ العالمي بوضعه الحالي سوف لن يُتيحَ توفيرَ تقنياتِ الترقية الفكرية للجميع، ما سيؤدي بطبيعة الحالِ إلى بزوغ مرحلة جديدة من التمييز بين البشرِ، تنقسم فيها الدول بل المجتمع الواحد إلى فئتين: 1) الإنسان الجديد المتفوق عقليًّا، 2) الإنسان الحالي المتخلف نسبيًّا، وقد طرحت السؤال التالي: إلى أي نوع سينتمي أحفادُنا المقيمون في البلدان العربية؟
ربما تستغرب عزيزي القارئَ، أن هذه السيطرةَ ستتحقق بحسب كلِّ الدراسات الاستشرافية خلال فترة لا تتجاوز عام 2050-2060، عندما يصل أصحابُ الثروة إلى مرحلة التفرد المعرفي التي تتمثل في معالجة المعرفةِ الكلية المباشرة في دماغ الإنسان المزود بشرائح الذكاءِ الاصطناعي فائقةِ السرعة، ما سيولد معارفَ جديدةً في كل لحظةٍ تضع قواعدَ جديدةً لحياتنا اليومية.
هؤلاء المسيطرون يملكون كلَّ الأدوات، لكن في المقابل ماذا تملك أنت عزيزي المستهدفَ والضحية؟ الجواب ببساطة: أنك تملك شيئًا لا يستطيعون مهما تمكنوا وعلَوا في الأرض أن يصلوا إليه، وهو إرادتك!
تستطيع أن تقضيَ الساعاتِ الطويلةَ سارحًا مسحورًا بلعبة كاندي كرش أو تقليب صفحات الفيس بوك أو التيك توك أو الانستغرام …كذلك تستطيع أن تنساقَ بلا وعيٍ وراء أحداث رياضية، وإدمانُ تشجيعِ فريق معين أو لاعب رياضي فذ … لكن تملك في الوقت نفسِهِ الإرادةَ للتحكم بكل هذا والغائِه أو في عدم جعله محور حياتك! ربّما من الممكن أن يحاولوا دراسةَ دوافعِك والمؤثرات عليها، وربط غذاءَك وصحتَك وحتى أسلوب حياتك وتربية أطفالك بما يريدون ويوجهونك له، لكن إلى هذه اللحظةِ لم يصلوا بعدُ للسيطرة على إرادتك، ولم ولن يتمكنوا من سلب القرار من بين يديك!
سيناريو التبغِ مثالٌ واقعيٌّ عما نتحدث، فعلى الرغم من أن دعايتَه وتركيبتَه زُرِعت في الدماغ البشري بكل الطرق والوسائل، لكن إرادةَ تركِ التدخينِ لم ولن تنجحَ على رغم محاربتِه حديثًا بكل الطرقِ والوسائل إلا عندما تمتلكُ إرادةَ تركِه!
أن تدعَ الربا والمفهومَ الغربيَّ للثروة وأسلوبَ الحياة الهوليودي الرائجَ يتملك جوانبَ حياتِك ويحدد مسارها أمرٌ بسيطٌ ومريحٌ ومتاحٌ، ولكن عليك أن تعلمَ كذلك أن قرارَ ألا تدعَهُم يسيطرُون عليك هو أمرٌ تملكُه أنت، ولا تملكُه أضخمُ مؤسساتِ السيطرة في العالم.
أهمُّ قاعدةٍ للسيطرة هو تخطيطُ ورسم قواعدِ اللعبة من قبل المُسيطِرِ وجعلُك تُوقِّع بالترغيب والترهيب على قبولها، عندها تستطيع تلك القوى أن تُسيرَك كما تشاءُ كمن يُوقعُ على عقد بيعِ روحِه للشيطان مقابلَ تحقيقِ الشيطانِ لسبع أمنياتٍ له! لكن في النهاية عليك أن تعلم أنك أنت من يملكُ حقَّ التوقيع أو الرفض.
هذه الحقيقةُ تغيبُ عن أذهان كثيرين لكنها تبقى حقيقة، وأنت في النهاية سوف تحاسب على هذا القرارِ ولن ينفعَك تحقيقُ وبلوغُ الأمنيات السبع وإن أسعدتك لوقت قصير!
من الأفلام التي شاهدتُها -دون ملل- أكثر من عشر مراتٍ فيلم فورست غامب. ولمن لم يحظَ بمشاهدة هذا الفيلمِ سأشرح بشكل بسيطٍ عن فكرته، ففيه مثالٌ مُبسطٌ عما أقصد بهذا المبحث.
فورست غامب هو رجلٌ بسيطٌ وُلدَ في ولاية ألاباما بمعدل ذكاء منخفض لكنه يملك روحاً صافية وقلبًا طيبًا. يقضي فورست مرحلة الطفولةِ مع صديقتِه المفضلةِ والوحيدة جيني. والدتُه تعلمُه طرقَ الحياة وتتركه يختار مصيرَه. ينضم فورست إلى الجيش للخدمة في فيتنام، ويجد أصدقاء جددًا يُدعون دان وبوبا، ويفوز خلال أحداثِ الفيلم بميداليات الشرف، ويخلق أسطولًا شهيرًا لصيد الروبيان، ويلهمُ الناسَ للركض، ويصبح بطلًا في كرة الطاولة، ويخلق الابتسامة، ويلهم كتاب الاعلانات والأغاني، يتبرع للناس ويلتقي عدة رؤساء للولايات المتحدة، وينالُ منهم عدةَ أوسمةٍ على إنجازاته التي لا يسعى لها بل يسوقها له القدر! وكلُّ هذه الإنجازاتِ لا علاقةَ لها بـما يفكر به فورست غامب فهو طوالَ الفيلمِ لا يسعُه إلا التفكيرُ في حبيبة طفولته جيني كوران، التي أفسدت حياتها وهي تسير كبقية البشر وراء المتع والسعادة الآنية ، ويريدها فورست غامب أن تكونَ بقربه دائمًا فهو يشعر بالسعادة العفوية معها.
فورست غامب، فتىً بريءٌ وطيبُ القلب، يتعامل مع قسوة الآخرين طوال حياته تقريبًا. بعد أن نشأ مع جيني الجميلة، صديقتِه الوحيدة، يتوقُ فورست غامب لمعرفة كلِّ شيء عن طرق العالم، ويشرع في مهمة غيرِ محددةٍ للعثور على هدفه الحقيقي في الحياة. من خلال اقتحامِه بعفوية لمواقفَ استثنائيةً، يجد فورست نفسه حاضرًا في بعض أكثرِ الأحداثِ المحورية في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث يحتكُ مصادفةً مع أكثر الشخصياتِ المؤثرة والتاريخية في تاريخ أمريكا الحديث، بما في ذلك جون إف كينيدي، وريتشارد نيكسون، جون لينون، وحتى إلفيس بريسلي. طوال فترة وجوده، كان فورست يواجهُ عشوائيةَ الحياة بشيءٍ واحد، هو أنه يملك حرية القرار، وينحاز لشيءٍ واحد وهو ما يظنُّه صحيحًا برأيه لا برأي الآخرين وغالبًا تميل فلسفته للحياة بحسب ما زرعته أمهُ في رأسه بكلماتها البسيطةِ السهلة، حيث يرددُ دائمًا في الفيلم عبارة ” أمي تقول”، يساعده على كل ذلك مستوى ذكائه المنخفضِ الذي يبتعد به عن تعقيد الأمور والغوص في دقائقها.
الفيلم يحاول أن يوصل رسالة: أن فوق هذه الأرض، لا يوجد أحدٌ تافهٌ. فمثلُ فورست غامب الذي يعمل وحدَه وبذكاء منخفضٍ وإمكانياتٍ شبه معدومة، يمكن أن يبنيَ المرءُ مكانَه في هذا العالم، وربما يمكن أن يغيرَ سيرَ الأشياءِ والأحداث وربما عن غير قصد، بينما يطفو القدرُ مثل الريشة في مهب الريح كما يبتدئ بهذا المشهد الفيلم وكذلك ينتهي به.
يواجهُ فورست غامب العديدَ من المحن طوال حياته، لكنه لا يترك أيًا منها يتدخل في سعادته. من ارتداء الأقواس المعدنية الثقيلة على ساقيه المقوستين في طفولته، إلى معدل ذكائه الأقلَّ من المتوسط وحتى عند إطلاق النارِ عليه في حرب طاحنة كحرب فيتنام، يواصل فورست غامب الاعتقادَ بأن الأشياءَ الجيدة ستحدث. بينما تحدثُ العديدُ من الأشياء الأقل من المثالية خلال حياة فورست غامب، إلا أنه تمكن من تحويل كلِّ نكسة إلى شيءٍ جيدٍ بالنسبة له، كمثال على ذلك عندما يكتشف أنه قادرٌ على الجري بشكل أسرعَ من معظم الأشخاصِ الآخرين. تسمح له هذه المهارةُ ليس فقط بالهروب من المتنمرين أثناءَ طفولته في بلدته Green bow، ولكن أيضًا بالحصول على منحةٍ دراسيةٍ لكرة القدم، وإنقاذِ حياة العديد من الجنود ويشتهر بقدراته التي تعتمد على أشياءَ بسيطةٍ، كقدرته على الجري بسرعة، أو قدرته على جعل كرةِ البينغ بونغ لا تغيب عن ناظريه. بينما يحققُ فورست غامب في النهاية غالبيةَ الأشياءِ التي كان يأملُ في تحقيقها طوال الفيلم، لكنه يفشل في المهمة التي يسعى لها طوالَ الفيلم بكسب قلبِ صديقتِه مدى الحياة جيني كوران.
يتمحور الفيلمُ حول مدى أهميةِ النجاحِ لشخصٍ ما والآخرين من حوله. بالنسبة لفورست غامب كلُّ النجاحاتِ التي يتقاتل جميعُ مَن حولَه على تحقيقها لم تعنِ له شيئًا فهو يعدُّها عاديةً وطبيعيةً بينما يفشل من يفوقونه ذكاءً واجتهادًا في تحقيق جزءًا بسيطًا منها. ينتهي الفيلم بوقوف فورست غامب عند قبر حبيبتِه جيني التي تتزوجه قبل موتِها وتترك له طفلًا ذكيًا، ويحاول أن يطرحَ وهو يبكي فوق قبرها سؤالًا فلسفيًّا عما إذا كان لنا دورٌ في أحداث حياتنا، أم أن كلَّ شيءٍ مكتوبٌ ومقدرٌ، أو أن الحياةَ مزيجٌ من الاثنين.
امتلاكُ إرادتِك وعدمُ تسليمِها لغيرك تحت أيِّ مسمى، والتسليمُ بالقدرة التي تفوق البشريةَ جمعاءَ على تسيير الكون والحياة، قد يجعلُنا سعداء وينجينا فيما وراء الموت!