أدب العزلة في زمن الكورونا   الخطوة الأولى

محمد فتحي المقداد

 تراكمت الخُطى على عتبة البيت، لا أكترثُ بتعدادها، تجمّعت أكوامًا كادت أن تسُدّ منافذ خيالي عند البوابة، لا خُطّة لديّ على الأقلّ الآن بشأنها، لم تكتمل رؤيتي كيف سأتخلّص منها، في الماضي كان الموبايل يعدّها؛ فيتشكّل خوفٌ في داخلي من هذا الإحصاء الدقيق، بعض الأحيان كنتُ أتلفّت حولي وإلى الخلف، هاجس أنّ مُخبرًا يتعقّبني مُسجّلًا كُلّ شيء في تقريره.
استمتعتُ بالحظر مُختليًا بنفسي أكثر من اللّازم. ارتاح لساني من كثرة الثرثرة والكلام مع الزبائن في الصّالون، ساعات طويلة لا يتحرّك بكلمة واحدة، أتذكّر فجأة أنّني نسيتُ نفسي في مغارة صمتها، أستوحشُ من وحدتي. مرّة بدأت بالكلام بصوت مسموع، استغراقي في لُجّة من أفكار غريبة موهمة بالخوف، لم أحسّ بوجود زوجتي وهي تُنظّف الغرفة من حولي، بُهِتَتْ مما سمعت، توقّفت خلفي لتتأكّد لمن أتوجّه بخطابي، تجمدّت حركتها لحظات، تساءلت:
-“ما بك هل جُننت…!!؟”.
-“لا أبدًا.. فقط أُجرّبُ صوتي”.
تتلمّس جبيني متأكّدة من موجة حرارة مقترنة بحُمّى داهمتني عل غير إرادة منّي؛ فاختلّ توازني:
-“اسم الله عليه.. هالأيّام صارت بتخوّف”.
-“لا تقلقي عزيزتي أنا بخير “.
بعد كلّ هذه الفترة من الجلوس في البيت، وانعدام الحركة بحدّها الأدنى إلى الحمّام أو الغرفة الأخرى لتناول الأكل، والرّجوع إلى السّرير التلحّف لاتّقاء لسعات البرد؛ التي ما زالت تسري في أوصالي، وأحس بها تنخر عظامي. أطالبُ أولادي باستمرار إذا ما تخفّفوا من ألبستهم بتثقيلها.
أتذكّر آخر خطواتي قبل شهر كانت على بُوابة الشّقة، المشكلة في أوّل خطوة تدوسها قدماي في مشوار قادم، أحلام الخروج من العُزلة تُراودني على مدار السّاعة. أخوف ما أخاف منه، نسيان كيفيّة المشي، وأعود لتعلمّه من جديد كطفل يتهادى عند وقوفه منتصبًا، وصعوبة نقل رجله بخطوة، ليُتبعها بالأخرى. قرّرتُ شراء عُكّاز، أتّكئ عليها ولا أهشّ بها شيء سوى الذّباب الذي يقتحمني بلزوجة كريهة. ولا مآرب لي فيها أبدًا، كي لا أهدّد السّلم العالمي. مشكلتي الآن…!! من أين أحصلُ على عُكّاز، فالمحلّات التجاريّة جميعها مُغلق عدا التي تبيع المواد الغذائيّة فقط.
جارنا في العمارة المقابلة علاقته ممتازة، فلا ينقطع السّلام بيننا عندما كنّا نلتقي صُدفة أثناء خروجنا المُتزامن مع بعض، فأبتسم له مع إلقاء التحيّة، كثيرًا ما يردّ بصوت عالٍ، دون رفع رأسه ليراني، حفظ نبرة صوتي، فيردّ التحيّة مشفوعة بلقبي، إلى أن أقترِبَ منه لتشجيعه، والشدّ من أزره. والإشادة بقوّته وشبابه؛ فيتهلّل البِشْر على وجهه. يتنفّس بعمق، يُحاول جاهدًا تعديل انحناءة ظهره، والاستناد على السّياج، ويفترُ فمه الأدْرَد بابتسامة عريضة تنبئ عن ارتياحه، ويقول:
-“يا عمّي الشّباب.. شباب القلب، يا حسرتي على رُكبي لا تحملني، أيّام الشّباب والقوّة أتبعني العمل الشّاق في الباطون، وهذه النّتيجة كما ترى..!!؟.
ازدحام الأفكار بأوليّات أوّل يوم، من أين أبدأ..!!؟.  فلأجرّب هِمّتي بتمهّل. خَطَر لي استعارة عُكاز من جارنا العجوز، أتوقّع أنّ لديْه أخرى احتياطيّة غير التي يستخدمها، أو قديمة عنده رماها في مُستودع الأغراض الخفيفة القديمة فوق الخزانة أو تحت التّخت.
طال الحظر ليتأكّدوا من انتهاء الوباء، حالتي وصلت حدّها الأقصى على احتمال الوضع. قلق على مدار السّاعة، تأخّر الوقت.. وأنا جالس إلى حاسوبي؛ أتابع مواقع الأنترنت بقراءات ودردشات. فطنتُ لاحتقان البول، بدل رُجوعي إلى الغرفة، تسلّلتُ بحذر لفتح الباب الخارجيّ، نزلتّ الدّرج على رؤوس أصابعي، الطّريق الفرعيّة لا تسلكها الدّوريّات السّاهرة، قلت لنفسي:
-“لا يُمكن أن يكونوا سهرانين إلى هذه السّاعة”.
خرقتُ قناعتي بيقظتهم الدّائمة، فلأُتابع مشواري. نصفُ ساعة عادلت عمري، وأنا أتنفّس ملء رئتيّ هواء نقيًّا، هاجسي المُتعب بتحضير جواب مُقنع:
-“ماذا لو داهمتني دوريّة بشكل مفاجئ…!!؟”.
حرتُ تفكيرًا.. مشيتُ ومشيتُ بنهم جوع مُزمن.. الشوارع الفرعيّة في منطقتنا استغرقني بلا إحساس بالوقت، أشرقت الشّمس، وما زلتُ أمشي إلى أن وصلت العاشرة، موعد السّماح بالخروج بشكل آمن. عدتُ إلى البيت، مازال الصّمتُ يُخيّم عليه.
عمّان – الأردنّ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى