لم يتوقف مقتدى الصدر عن ترديد مقولته حول حكومة الاغلبية الوطنية التي سيشكلها، باعتباره الفائز الأول في الانتخابات. بصرف النظر عن حجم التزوير الذي رافقها، او نسبة المشاركة المتدنية فيها. في حين اخذت على عاتقها مجموعات من الوصوليين والأقلام المأجورة التي تدور حول مقتدى، مهمة تنظيم حملة دعائية واسعة حول هذه الحكومة المنتظرة، وإطلاق المدائح النبوية بحقها، وإضفاء صفات رنانة عليها، من قبيل حكومة وطنية مستقلة، او وصفها بالحكومة العابرة للطائفية والمحاصصة، وخلطة العطار على حد تعبير مقتدى. وكذلك الحديث عن المهام التي ستضطلع بها، من قبيل سحب السلاح من يد المليشيات ومحاربة الفساد والفاسدين، الى اخر هذه الاوصاف والادعاءات الزائفة. اما التغريدة التي وصف بها مقتدى حكومته بالحبر الأحمر “لا شرقية ولا غربية”، فأراد منها اعلان ولائه للأمام الخميني الذي وصف جمهوريته الوليدة، بانها جمهورية إسلامية “لا شرقية ولا غربية”.
لكن هذا ليس كل شيء، فقد لجأ هؤلاء الأشرار الى دغدغة مشاعر الناس واستغلال كرههم لملالي طهران. حيث صوروا مقتدى على انه قائد عروبي لا يشق له غبار، وان القدر أوكل له مهمة تخليص العراق من الهيمنة الإيرانية، وسطوة المليشيات المسلحة التابعة لها. ولم تكن امارات الخليج العربي، وفي المقدمة منها المملكة العربية السعودية بعيدة عما يجري، ولا الأمم المتحدة وزعيمتها أمريكا أيضا. حيث كالوا المديح للانتخابات العراقية، وتغزلوا بنزاهتها وخضرة صناديقها، ليختموا حملة التسويق بتقديم التهاني لمقتدى الصدر على فوزه الساحق. ولو توقف ذلك عند هذا الحد لهان الامر، وانما انتقلت هذه العدوى لبعض السياسيين والكتاب والمحللين المعادين للعملية السياسية. حيث جرى تصديق مقتدى والمراهنة على تنفيذ وعوده الوردية، بل وصل الامر بهم حد مطالبة الناس بمنحه فرصة لتنفيذ وعوده تحت ذريعة السير وراء الكذاب الى باب الدار. لكنهم نسيوا بان هذا الفعل سيفسح المجال امام حكومة عميلة، لأربع سنين إضافية، تستكمل فيها مهمة تنفيذ مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا. ناهيك عن إراقة مزيد من الدم العراقي، ومزيد من السرقة والقتل والتهجير وخراب المدن، ومزيد من انتشار الجوع والمرض والجهل. وبالتالي القبول بجعل العراق حقلا للتجارب الفاشلة والمميتة.
بالمقابل راح البعض الآخر يروج بطريقة أخرى لمقتدى، ليقدم تحليلاً ينطوي على الكثير من الخداع والتضليل ولوي عنق الحقائق. او كما يقال كلمة حق يراد بها باطل. من قبيل، ان المحتل، سواء الأمريكي او الفارسي او كليهما، بات مجبرا على القيام بإصلاحات جوهرية، اذ بدونها لا يمكن لعملائهم في المنطقة الخضراء الصمود امام الشعب العراقي، الذي يعيش على فوهة بركان قد ينفجر في أية لحظة. او كما قال مايكل روبين الكاتب الأمريكي المعروف، في مقالة له بمجلة ناشونال انترست، قال فيها وبالحرف الواحد “إذا لم تجر في العراق إصلاحات جوهرية، فان “ثورة أكتوبر ستعود هذه المرة بعنف ولا تفرق بين الأحزاب، وستؤدي الى الإطاحة بالقادة السياسيين الحاليين بالجملة، اما الى القبور مبكرا او المنفى”.
ان خلط الأوراق من قبل هؤلاء الأشرار بهذه الطريقة الفجة، انما يريدون به حماية أنفسهم واستمرار بقائهم في السلطة من جهة، وانقاذ عملية المحتل السياسية من السقوط من جهة اخرى. فمقتدى الصدر جزء لا يتجزأ من العملية السياسية. فهو عاش في ظلها وتمتع بخيراتها ونال المال والسلطة بفضلها. بل هو جزء لا يتجزأ من الأشرار في المنطقة الخضراء، الذين سرقوا العراق ودمروا مدنه وبناه التحتية وهجروا سكانه. وهم من مارس سياسة اذلال الشعب وتجويعه. وهم من نشر الجهل بين صفوفه وأغرقوا البلاد بالمخدرات وحبوب الهلوسة. وهم من ارتكب جريمة قتل الثوار بدم بارد. وهم من ينفذ مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا. وبالتالي فان اية حكومة قادمة، سواء قام بتشكيلها مقتدى الصدر، او بالتوافق مع حلفائه، وهو الأرجح، ستكون امتدادا للحكومات السابقة، حتى وان قامت بإصلاحات ترقيعيه مخادعة، او اختلفت عن سابقاتها قليلا.
لندع هؤلاء الاشرار، يواصلون اللعب بالبيضة والحجر، ونعود الى مقتدى وحكومته المتخيلة، وأقول له، ان الإصلاح وانقاذ العراق من محنته، لا يمكن تحقيقه في ظل وجود حكومة عميلة مدعومة بالمليشيات المسلحة، وفي ظل وجود المحتل الأمريكي ووصيفه الايراني، مهما اختلفت البرامج وتعددت الوسائل وتنوعت اليات العمل. فهذا المحتل أسس منظومة من الفساد لا يمكن اختراقها او اصلاحها من الداخل، فهي لم تقتصر على اعضاء فاسدين في الحكومة او البرلمان او القضاء فحسب، وانما شملت هذه المنظومة الفاسدة كل مؤسسات الدولة، من اعلى سلطة فيها الى أصغر سلطة، مثل الدوائر الحكومية والمديريات العامة وغيرها. والمصيبة الاكبر ان المسؤولين كافة لا يخجلون من ممارسة الفساد بكل اشكاله وانواعه، بل ان بعضا منهم لا يهابون الحديث عنه دون حياء او خجل. ولنا في اعتراف كبيرهم عادل عبد المهدي رئيس الوزراء السابق خير دليل على ذلك. حيث اعترف امام أعضاء البرلمان، وبحضور عدد كبير من وسائل الاعلام العراقية والعربية والعالمية، بوجود اربعين ملفا للفساد والسرقات شمل، كما قال، كل ركن وزاوية في الدولة العراقية. إضافة الى سرقة 320 مليار دولار. وبدلا من معالجتها، كما تعهد في أقرب وقت، ترك السلطة وقد زاد عدد هذه الملفات السوداء وزاد معها عدد الفاسدين والحرامية.
هذه الحقائق الدامغة أصبحت موثقة في سجلات العراقيين، ومن الصعب تغييرها بمجموعة من الأكاذيب والأساليب الملتوية. خاصة وانهم قد لدغوا من ذات الجحر أكثر من مرة، سواء على يد مقتدى الصدر او على يد من قبله، مثل “الوطني الجسور المخضرم” اياد علاوي، و”الفيلسوف الزاهد” ابراهيم الجعفري و”مختار العصر” نوري المالكي و”الأكاديمي المتحضر” حيدر العبادي. وإذا مضى زمن على هؤلاء الاشرار ونسينا افعالهم، ترى هل ننسى الزفة التي سبقت تنصيب عادل عبد المهدي، والمدائح التي كالها مقتدى بحقه، حيث وصفه “بالرجل المستقيل من الفساد والمستقل عن الاحزاب والاقتصادي الجهبذ وسليل العائلة ذات الحسب والنسب”؟ ماذا كانت النتيجة؟ الم يختم هذا الجهبذ مسيرته السوداء بارتكاب أبشع جريمة، تمثلت بقتل الثوار السلميين، الذين لا يحملون سوى العلم العراقي وشعار نريد وطن؟ ثم الم نسمع بمقولة التجربة أكبر برهان؟، هل كانت تجارب هؤلاء الاشرار ناجحة ام انها تجارب فاشلة وتدميرية اضرت بالعراق وشعبه؟
ما عاد بالإمكان ان يخدع هؤلاء الأشرار، أحدا في لحظة عظيمة لحقيقتهم. خاصة إذا كان هذا الاحد مسلحا بوعي تشرين. وما عاد بالإمكان أيضا التشكيك بان مهمة الإصلاح لا يمكن لغير ثوار تشرين القيام بها. اما الذين لا يؤمنون بهذه الثورة لأنها لم تحقق الانتصار لحد الان، فهؤلاء اما ينظرون بعين واحدة، او انهم من اتباع السلطة الذين تنحصر مهمتهم في الدفاع عن الفاسدين مقابل دراهم معدودات. هذه الثورة ليست تظاهرة هدفها توفير الخدمات المحدودة، او تظاهرة للدفاع عن حقوق الانسان، تبدأ وتنتهي في وقت محدد سلفا، وانما هي ثورة ذات اهداف سياسية ووطنية كبيرة، تستند الى قوانين اجتماعية تسري على جميع المجتمعات البشرية، التي قررت التحرر من انظمتها المشبوهة والعيش بحرية وكرامة. بل هي حرب وطنية طويلة قد تمتد لسنين عديدة، تنتقل فيها من مرحلة الدفاع الى مرحلة التوازن ثم الانتقال لمرحلة الهجوم، بعد اشتراك جميع القوى والاحزاب الوطنية، والشخصيات السياسية، والكتاب والمثقفين والشعراء والفنانين وغيرهم.
بمعنى اخر أكثر وضوحا، إذا لم يتم القضاء على السبب فلا امل في القضاء على نتائجه. فالتدهور الذي حصل في كل مرافق الحياة كان سببه الاحتلال وحكوماته المتعاقبة، وإذا لم يتم القضاء على هذا السبب، فلا نهاية لمعاناة العراقيين في كل مجالات الحياة. وإذا اضطر الأشرار لأجراء تغيير هنا او هناك لامتصاص النقمة، فانه لن يتعدى بعض الاصلاحات الشكلية والتي هي اشبه بالمسكنات التي تخفف عن المريض الامه، لكنها لا تقضي على المرض قطعا.
هذا ليس حلما، او خيالا، فالشعب العراقي قادر على فعل ذلك. وقد فعلها في السابق مرات عديدة، وثورات الشعب العراقي الباسلة ضد الاستعمار البريطاني وضد حكوماته العميلة تؤكد هذه الحقيقة، بدءا بثورة العشرين المجيدة، ومرورا بثورة 1941، وليس انتهاء بالانتفاضات التي حدثت في عام 1948 52 و56 والتي توجت بثورة 14 تموز الخالدة. وحدهم اصحاب العقول القاصرة، والتفكير المحدود، ينكرون قدرة الشعب العراقي على الانتفاضة السياسية او المسلحة، على العكس تماما من المحتل الامريكي حيث يجهد نفسه باتخاذ كل الاحتياطات الكفيلة لتجنب ثورة العراقيين، ويضع جميع العقبات امامها، ويسلك كل طرق التآمر عليها وافشالها والقضاء عليها، حتى لا يضيع العراق من بين يديه. هل نحن على موعد مع الموجة الثالثة لثوار تشرين الابطال؟ بالتأكيد نعم.