في الحقيقة كنت أريد تسميةَ هذه المقالةِ ب “العصفورية” لكن لا شيء يعلو على التعبير القرآني في دقة التوصيف. عنوانٌ يعكسُ صورةً للمشهد السريالي العالمي والمحلي والذي لا ينطبق فقط على منطقتنا العربية بل على صناع القرارِ في العالم، وما نحن بالحقيقة في دولنا إلا ريشةٌ لا وزن لها تتقاذفها عبيثتُهم وجنونهم.
في الواقع كنت متجهًا قبل أن أشرعَ بكتابة المقالةِ إلى التحدث عن وحدة المعرفة unity of knowledge وما أسماه عالمُ الأحياء الأمريكي Edward Osborne Wilson في عام 1998 بوحدة الوعيِ المعرفي أو consilience وهو عبارة عن الاتفاق بين المناهج الأكاديمية المختلفة، وخاصة العلوم والإنسانيات، لكن عندما أردت استخدامَ هذا المنهجِ في قراءة الواقع الذي يتحكم بحياتنا اليومية، أصابتني عدةُ صدماتٍ في آن واحد.
جرت العادة أني ابتعدُ بطبيعتي عن الجدال، وبالتالي لم يشكلْ لي الفيس بوك مادةً جاذبةً منذ البداية إلى الآن، لكنّ وسائلَ التواصلِ الاجتماعي بُنيت لتُلاحقَك لا لتلاحقها، يكفينا أن نعرفَ أن الواتس آب الذي لا نستطيعُ التواصلَ من دونه هو فرع من فيس بوك. كذلك ينطبق الحال على اليوتيوب، فرغم فائدتِه فإنه يسوقُك أحيانًا الى أماكنَ لا تقصدُها بل تقصدك. خلال مشاهدتي لبعض فيديوهات اليوتيوب وجدت مدخلًا للتيك توك ,وهو نوعٌ من الإدمان البصري والعقلي الذي يعطيك التسلية ويوصلك إلى لا شيء , ما لفت نظري في هذا التيك توك نوعيةُ المشاهير الذين فيه ،وحجم الثروات التي يجمعونها من إضاعة وقت الآخرين واستلابِ عقلِهم بمخدر يشبه حربَ الأفيون .في إحدى الفيديوهات الشهيرة يسأل شخصٌ أصحاب السيارات الفارهة ماذا يعملون لكي يمتلكوا تلك العرباتِ غالية الثمن، والعجيب أن معظمَ مهنِهم لا تمت للعِلْم بصلة بل تسير حسب ما يسير هذا الزمنُ فكثيرٌ منهم دي ج, أو يوتيوبر أو بائع عقارات أو…, عجيب هذا الزمن ! في أحدث أفلام ليوناردو دي كابريو بعنوان “لا تنظر للأعلى Don’t look up “ يتحدث الفيلمُ عن نيزك يقترب من الأرض ليفنيَ البشريةَ جمعاءَ، وعندما يصل الأمرُ إلى أعلى هرم السلطةِ يُتناولُ الموضوعُ باستخفافٍ، فما يشغلُ بال رئيس أكبر دولة في العالم “الانتخاباتُ ” ونسبةُ التأييد له على وسائل التواصل الاجتماعي ,كذلك يُقيمُ العِلْمُ والعلماءُ من خلال نسبة المشاهدة لهم، لا لقيمة ما يحملون ،ولو كان الأمرُ خطيرًا حرجاً يتعلق بمصير البشرية ، وفي النهاية قرارُ حرفِ النيزك بتفجيره قبل وصوله إلى الأرض، يُتخذ لتشتيتِ الانتباهِ عن فضائحَ جنسية تُعرِّضُ منصبَ رئيس الولايات المتحدة للخطر وليس على أساس عقلاني علمي أو لخير البشرية , وكذلك تلغى الخطةُ كاملةً؛ لأن رجل تقنيات يملك أكبر شركة في العالم يُقنع الرئيس باحتواء النيزك على معادن تعززُ سيطرة أمريكا على العالم , تفشل خطةُ جلبِ النيزك ،ويصطدمُ النيزك بالأرض و يقضي على البشرية , والأغنياء ونخبة السياسيين يستقلون -بكل بساطة- مركبة فضائية تبحث لهم عن كوكب آخرَ . قبل أن يضرب المذنب الأرضَ نجد أغلب سكان العالم يحيون لحظاتهم الأخيرةَ بما يشبه واقعَهم الحالي بالمتعة والشرب وحفلات الجنس الجماعي، أما البطلُ فيجلس منتظرًا مصيره بين أسرته يتلو بعض الصلوات التي بالكاد يتذكرها !
في تحليل لواقع الصراع الجيوسياسي، و الوباء العالمي “كورونا”، وقيمةِ الثروة وهبوط وصعود العملات ، ومعركة التفوق المادي والعسكري بين الدول المتحكمة بالمشهد العالمي، تكاد لا تجد أيديولوجيا أو منهجًا فكريًّا عقديًا يدافع عنه المتصارعون بل تجد فقط صراعًا بهدف الصراع والسيطرة، وكأن البشريةَ لا تعيش إلا بالمادة ولأجل المادة!
في تحليل سريع للاعبين على الساحة الدولية وفي منطقتنا المثخنة ببرك الدم نجد التالي:
في روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي أدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في وقت مبكر بُعيد استلامِه لبلده الممزق من بوريس يلتسن أهميةَ وجودِ فكرةٍ وطنية قوية خاصة بالنسبة لحكومة ليست شفافةً وديمقراطيةً تمامًا.
لقد استخدم بوتين رموزًا وشعاراتٍ ومبادئَ من عصور مختلفة من الماضي الروسي والسوفييتي لتعزيز موقعِ الرئاسة في روسيا وجعلِه رمزًا للكرامة الوطنية، وسفكَ في سبيل ذلك الدماء بدأً بالشيشان وحالياً في سوريا وليبيا وربما مستقبلاً في أوكرانيا وآسيا الوسطى!
من أبرز الجوانب التي تم التركيزُ عليها لهذا الغرضِ ثروةَ وسحرَ الإمبراطورية الروسية والبطولةَ والتضحية لتحقيق الانتصارِ في الحرب العالمية الثانية في ظل حكمِ ستالين، والاستقرار النسبي في السبعينيات من القرن الماضي، وتم الربط بينها بشكل انتقائي لتصبحَ مصدرًا للفخر وللوطنية و لِحرف الأنظارِ عن المشاكل العديدة التي يواجهها المواطنُ الروسي في حياته اليومية.
لقد أصبحتِ الحكومةُ الروسية بارعةً في التلاعب بالرسائل الإعلامية لخدمة مصلحتها ولتجنب المقارنات التي ليست في صالحها مع بقية العالم. غالبًا ما يتم التعريف بروسيا على أنها فريدةٌ من نوعها ثقافيًّا وتاريخيًّا ومحاطة بأصحاب النوايا الشريرةِ وهي تقاومُهم بمفردها.
وتُستغلُّ الإنجازاتُ العلمية وخاصة العسكريةَ منها كالصواريخ فوق الصوتية التي تستهدف الأقمار الصناعية والنصرِ في الحرب العالمية الثانية والتراثِ الثقافي بشكل مستمر في الروايات الإعلامية بغرض التسويق لرسالة الاستثناء القومي الروسي في أوساط المواطنين الروس العاديين لحرف انتباهِهم عن المشاكل اليومية التي يواجهونها وعن طبقة الاوليغارشيين الذين يتحكمون بثروة روسيا ومصيرها ومصير من يدورون بفلكها وما أكثرهم في مناطقنا .
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد أسهم التناقضُ في المواقف بعد أحداث 11 سبتمبر في تعميق انعدامِ ثقة الشعب الأمريكي بقياداته وسياسيه، وقد تجسد ذلك في اللحظة التي دخل فيها مؤيدو “ترامب” إلى الكونغرس الأمريكي، وجاء هذا الحدثُ كإعلانٍ عن فشل سياسي ذريع بدأ مع أولى الخطوات الانتقامية التي اختطها “بوش” وإدارتُه بعد أحداث 11 سبتمبر وسفك بها دماءَ الملايين في العراق وافغانستان ، ولم تنته خلال عشرين عامًا وعبر ثلاثة رؤساء.
هذا أمرٌ يثير أسئلة عن الحلول المطلوبةِ لتصحيح مسار الديمقراطية وأساليب الحكم في أمريكا يحملها كثيرٌ من المراقبين، فأغلبيتُهم يشددون على ضرورة الشروعِ بمراجعة حقيقيةٍ وشجاعة لكل ما جرى بعد 11 سبتمبر، وتشخيصِ الأخطاء والسياسات التي أدت إلى وصول أمريكا إلى ما وصلت إليه اليوم من افتراق وانقسام يهددُ وجودَها كأمة، إلى جانب تهديدها الجدّي للسلم العالمي والقيم الإنسانية التي خطها ورسم معالمَها المقاربة الأنجلوسكسونية التي نعيش على وقعها-ومع الاسف-بقواعدها.
بحسب رأي بعض المحللين الأمريكين كانت كلٌّ من الثورة الأمريكية (1791-1765) والحرب الأهلية (1861-1865) ثوراتٍ “مدنية” أيديولوجيةٍ وسياسية بمعنى أنها صراعاتٌ داخلية ،ولكن بالتأكيد كلاهما كانتا بالطبع غيرَ مدنيتين للغاية، بمعنى أنهما كانتا حروبًا عنيفة دمرت عائلاتٍ وبلدات ومقاطعات وحتى ولايات بأكملِها وصنعت جرحاً لَمْ يَندَمِل للآن .. . يسمي بعضُ المحللين الصراعَ الأخير للحرب بين الولايات المتحدة والصين وروسيا وأوروبا، لأسباب سياسية “حربًا مدنية”!
يدعي بعضُ المحللين أن أمريكا تخوض بالفعل “حربًا مدنية”، بمعنى عدم إطلاق النار، مع الصين، التي يُزعم أنها نشرت إستراتيجية “الحروب الثلاث” الخاصة بها والتي تنطوي على تشويه قانوني ونفسي وتشويه للرأي العام. بالطبع هذا لن يكونَ مفاجئًا لمن يقرأ التاريخ فقد شنتِ الولاياتُ المتحدة من قبل صراعًا طويلًا غيرَ إطلاق النار، يُشار إليه عادة باسم الحرب الباردة، ضد الاتحاد السوفيتي. خلال ذاك الصراعِ الذي دام عقودًا ، أطلقت القوتان العظمتان في ذلك الوقتِ النارَ على بعضهما بعضًا بشكل غيرِ مباشر فقط ، في أماكن مثل كوريا وأفغانستان وفيتنام، بينما كانتا تحاولان زعزعةَ استقرارِ بعضهما البعض من خلال التجسس والدعاية والحرب النفسية وما إلى ذلك.
إن الحرب الأهلية العالمية إذا صح التعبيرُ بين القوى المتحكمة بالمشهد، ليست أيضًا غير مسبوقة ولكنها أيضًا ليست مجرد حرب “سياسية أيديولوجية “. لقد كان في الحرب الباردة قواعدُ وتناسبٌ. يبدو الآن على نحو متزايد أن أحد الأطرافِ يريد كلٌّ منها القضاء على الآخر بأي ثمن. والشعوب بإجمعها هي من تدفع الثمن!
كلمة “حرب مدنية” تبدو للمتأمل في المشهد عنوانًا فارغَ المعنى، مثلَ كلمةِ “خدمات إنسانية” التي نشاهدُها بكثرة نتيجة تلك الحربِ المدنية التي تسيل فيها الدماءُ فقط في مناطقنا، حيث نجد مقدم الخدمة ومتلقيها يفقدون شيئًا من إنسانيتهم مع كلِّ خدمة تُقدم وكل لحظة تمر على مأساتهم والعالم يقف متفرجًا!
يبدو أن الحربَ الأهلية العالمية تحرض على البشر بكل أنواعِهم وأجناسهم، وتريد غسيلَ الأدمغة ضد أولئك القادرين على التفكير المستقل، و ضد المدافعين عن الحريات المدنية، من اليسار، واليمين، والوسط. إن الاعترافَ بوجود مثلِ هذا الصراعِ لا يتطلب نظريةَ مؤامرة،بل يتطلب الجرأةَ فقط بالاعتراف بالحوافز الهامشية التي يمتلكُها كلُّ طرف والتي تشبه حوافزَ الرئيس الأمريكي في الفيلم الذي أشرنا له سابقًا. تاريخياً لم يخطط أحدٌ أيضًا للحربين الأهليتين في أمريكا؛ لقد نشأت بشكل عفوي من الظروف والحوافز بطرق معقدة للغاية لدرجة أن المؤرخين لا يزالون يتقاتلون على الشبكات السببية التي أوقعتِ الناسَ والحكوماتِ في شباك قتالٍ مميت. وهنا نتجه في هذا الصراع للقضاء على البشرية جمعاء ولكن بالتدريج ,كما جرتِ العادةُ منذ الحرب الباردة , فجيوشُ المرتزقة والميليشيات الطائفية التي تنتشر في بلادنا خاصة هي أوائلُ أكباش المحرقة , يليها في ذلك أسرابُ المهاجرين التي تغزو أوروبا فتوقد ما أطفأته الحروبُ الدينية الداخلية والحروب الصليبية في العصور الوسطى وتُشعلُ صراعَ الهوية والوطن بين اليمين واليسار في الغرب, واخيرًا حروبُ التكنولوجيا والذكاءُ الاصطناعي، والعملات الرقمية، و الحوسبةُ الكمومية، والتكنولوجيا الحيوية، وأشباهُ الموصلات والأنظمةُ ذاتية الإدارة والمعادن النادرة التي تستعر لإعادة تعريفِ مفهوم الثروة ومن يتحكم بها! وآخرُ المعارك ستكون في إعادة مفهومِ التكاثر البشري. فالسنُّ القانوني لممارسة الجنس بين الدول الأوربية هي الآن 14 عامًا في النمسا وألمانيا، والمجر وإيطاليا والبرتغال,15 عامًا في اليونان، وبولندا والسويد, 16 عامًا في بلجيكا، وهولندا وإسبانيا، وروسيا, 17 عامًا في قبرص، أما في بريطانيا فالسن القانوني لممارسة الجنس هو 16 عامًا. أما السنُّ القانوني للزواج بحسب القانون العالمي المدني فهو 18!
الحرب الأهلية العالمية وفيلم لا تنظرْ للأعلى Don’t look up يذكرني بمشهد قومِ لوطٍ وقد أتاهم ملائكةُ العذاب ليدمروا قريتهم، وهم جاؤوا لوطًا يطلبون الفاحشة في ضيوفه فنزلت بحقهم تلك الآية “لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ”(الحجر-72).