مسيرات في أم الفحم مناهضة للسياسات الإسرائيلية في القدس وغزة (أحمد غرابلي/فرانس برس)
يودع الفلسطينيون في الداخل الفلسطيني، ممن بقوا على أرضهم بعد النكبة، العام 2021 في حال أسوأ بكثير مما كان عليه حالهم في بدايته، وإن كانوا دخلوا العام 2021 في أوج حالة انقسام وتشرذم سياسي وتفاقم الجريمة المنظمة وتعميق الفقر، مقابل مخططات سلطوية متصاعدة للتضييق عليهم ومحاصرتهم.
النكبة مستمرة حتى تحقيق حلم بن غوريون
لا شيء يعكس حقيقة وعمق المخططات الإسرائيلية العنصرية ضد الفلسطينيين في الداخل، والسعي الدؤوب للتضيق عليهم ومصادرة أراضيهم وحشرهم في غيتوهات على أقل مساحة ممكنة، مثل تصريحات وزيرة الداخلية الإسرائيلية، أيليت شاكيد في 21 من ديسمبر/كانون الأول الحالي، لصحيفة غلوبوس: “إذا كنتم لا تعلمون ما يحدث في الجليل والنقب، فلتعلموا أن للدولة مصلحة بإقامة مستوطنات جديدة. لم ننه تحقيق حلم بن غوريون في النقب”. وتعكس هذه التصريحات حقيقة الإجماع الإسرائيلي من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، بوجوب الاستيلاء على كل ما يمكن من أراض، وبناء وتشييد المدن والمستوطنات الإسرائيلية أيضا في النقب والجليل لضمان التهويد وضمان أغلبية يهودية في كل مكان، وهو ما يفسر إصرار نفس الوزيرة على توسيع مدينة حريش، في قلب وادي عارة، كي تسيطر على مساحات أكبر من الأراضي على حساب قرى عربية ومجاورة.
وتنضم تصريحات شاكيد، مع استخدامها لعبارة “إذا كنتم لا تعرفون ما يحدث في النقب”، إلى مسلسل التحريض العنصري والدموي ضد العرب الفلسطيني في النقب، واتهام الدولة ووسائل إعلامها وأحزابها لسكانه الأصليين بالاستيلاء على الأراضي أولا، وتغييب سلطة وحضور سيادة الدولة في النقب، وفي الجليل، وتوظيف الجريمة المستفحلة (بتواطؤ الدولة) في التجمعات والبلدات العربية في الداخل الفلسطيني مع التلميح إلى سهولة انزلاق السلاح غير المرخص بأيدي عناصر جنائية وإجرامية إلى أيادي “للعمل الوطني الفلسطيني وتوجيهه ضد الدولة، في أول فرصة ممكنة”.
ويتصل هذا التحريض بتقارير تواترت عن دراسات وتقديرات وتقييمات للمؤسسة الأمنية لاستخلاص العبر من أحداث “هبة الكرامة” عندما اندلعت تظاهرات واحتجاجات في الداخل الفلسطيني في مايو/أيار الماضي، تضامنا مع حي الشيخ جراح، في القدس، ورفضا للعدوان الإسرائيلي على غزة، خلصت إلى وجوب استعداد الدولة وأجهزتها لحالة مشابهة في حال شنت إسرائيل حربا قادمة على الجبهتين الشمالية والجنوبية أو كل على انفراد.
وفي هذا السياق فقط، أقر قائد وحدة التخطيط اللوجيستي في جيش الاحتلال، الجنرال إيتسيك ترجمان، الشهر الماضي، أن الجيش لا يعتزم نقل قواته وعتاده عبر الطرق التي تمر ببلدات عربية، حتى لا يضطر للانشغال بمحاولات تعرض هذه القوافل للرشق بالحجارة أو عرقلة وصولها لمواقع القتال، ثم قوله إن الجيش أعد طرقا ترابية تلتف على البلدات العربية، وخصص وحدات لتأمين هذه القوافل في حال اضطرت للمرور من البلدات العربية. وترجم الكنيست الإسرائيلي والحكومة هذه التصريحات بإقرار تعديلين على قانون الخدمة الأمنية (العسكرية)، يسمح باستيعاب جنود مباشرة من الجيش لمصلحة السجون لقمع الأسرى الفلسطينيين، ويجيز الثاني نقل وحدات عسكرية في حالات الطوارئ للعمل في المدن والبلدات (وخاصة المدن التاريخية التي تسميها إسرائيل مختلطة، مثل يافا وعكا واللد والرملة وعكا).
تكريس الانقسام السياسي للداخل الفلسطيني
عندما أطل العام 2021، كان المجتمع الفلسطيني في الداخل الفلسطيني في أوج حالة الانقسام الحزبي، بعد أن مضت الحركة الإسلامية الجنوبية، بقيادة عضو الكنيست، منصور عباس، في طريقها نحو شق القائمة المشتركة للأحزاب المشاركة في الانتخابات البرلمانية، الجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي الإسرائيلي، والتجمع الوطني الديمقراطي، والحركة الإسلامية الجنوبية والحركة العربية للتغيير، التي حققت لأول مرة في تاريخ الفلسطينيين في الداخل، أعلى نسبة تمثيل عربي ترجمت بـ15 مقعدا، وحظي فيها خيار الكنيست بأغلبية مشاركة وتصويت تصل إلى 52% من مجمل أصحاب حق الاقتراع العرب في الانتخابات للكنيست الـ23 التي جرت في الثاني من مارس/آذار 2020، فحازت 581,507 أصوات من أصل نحو مليون ومائة ألف مصوت عربي. لكن هذه الحالة “الوحدوية” تصدعت في أقل من عام، والأصح خلال بضعة أشهر. وهكذا مع حلول مارس/ آذار من العام 2021، كانت القائمة المشتركة للأحزاب الأربعة قد تفككت نهائيا ورسميا إلى قائمة مشتركة لكل من التجمع الوطني والجبهة الديمقراطية والحركة العربية للتغيير، والقائمة الموحدة للحركة الإسلامية الجنوبية.
وتجلى الشرخ السياسي بين المجموعتين، في الذهاب للانتخابات في قائمتين منفصلتين، حصلتا مجتمعتين على 10 مقاعد فقط، أي بتراجع التمثيل العربي في قوائم عربية بنسبة الثلث، وذلك بسبب تراجع وعزوف الناخبين الفلسطينيين عن المشاركة في الانتخابات، من أكثر من 580 ألف مصوت للقائمة المشتركة ككل على أقل من 400 ألف صوت للقائمتين بعد الانقسام.
ظلت هذه النتائج محركا لمواصلة التراشق السياسي مع الحركة الإسلامية الجنوبية بزعامة منصور عباس، وانحط العمل السياسي البرلماني في الكنيست إلى “معارك تشريعية” يحاول كل منهما تقديم مشاريع قوانين يعلم مسبقا أن الطرف الآخر سيصوت ضدها واستغلال ذلك لتأنيبه وتوبيخه بالتصويت مع حكومة الاحتلال، كما في حالة منصور عباس والحركة الإسلامية، الذي بلغ ذروته قبل أسبوعين بتصويت حزب عربي لأول مرة مع ثلاثة قوانين لصالح توسيع صلاحيات الشرطة في مداهمة البيوت بدون إذن قضائي، وتعديلين يتيح الأول لمصلحة السجون استيعاب جنود من جيش الاحتلال في صفوفها وتخصيصهم للتعامل مع أسرى الحرية دون السجناء الجنائيين، وآخر يتيح للجيش والشرطة استقدام وحدات عسكرية لداخل البلدات والمدن العربية “لتثبيت الأمن” في حالة حرب قادمة، كاستخلاص للعبر من “هبة الكرامة” التي اندلعت في الداخل الفلسطيني تضامنا مع حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، ومع صمود سكانه أمام محاولات ترحيلهم من بيوتهم لصالح جمعيات استيطانية يهودية.
استفحال الجريمة المنظمة
في المقابل، ظلت الأحزاب المتصارعة على “أدائها” في الكنيست منشغلة بحروبها هذه، فيما كان المجتمع الفلسطيني يئن تحت وطأة تغول الجريمة المنظمة وتفاقم جرائم القتل وسوق القروض السوداء (في ظل سياسة البنوك الإسرائيلية التي ترفض إعطاء قروض للشباب الفلسطيني). وسجلت جرائم القتل هذا العام رقما قياسيا، تجاوز الـ120 جريمة قتل، وسط عجز الطرفين عن تقديم أي حل، وإن كانا تصارعا تحت شعار محاربتها في معسكرين متضادين، ففيما أكدت أحزاب القائمة المشتركة المعارضة والحركات الشعبية والشبابية غير الحزبية، إلى جانب الحركات غير المشاركة في الكنيست (حركة أبناء البلد، وقواعد الحركة الإسلامية الشمالية المحظورة قانونيا) دور المؤسسة الإسرائيلية في تغذية عصابات الإجرام المنظم في المجتمع الفلسطيني، كانت الحركة الإسلامية بقيادة عباس، تنظر وتروج لخطط حكومية وميزانيات للقضاء على الجريمة المنظمة، دون أن تقدم نتائج حقيقية على الأرض باستثناء تصويتها لصالح قانون تقر وتعترف حتى الجمعيات الحقوقية الإسرائيلية أيضا، بخطورته وهو قانون توسيع صلاحيات الشرطة في تفتيش ومداهمة البيوت العربية بحجة البحث عن السلاح غير المرخص، أو أشرطة كاميرات الحراسة في مواقع حدوث الجرائم، دون أن تُفك رموز ولو نسبة بسيطة من هذه الجرائم.
وقد أضعف الشرخ السياسي بين الأحزاب المشاركة في الكنيست، منذ بدايات الانقسام، الحراكات الشعبية غير الحزبية التي نظمت عشرات المظاهرات ضد استفحال الجريمة المنظمة، والتي برزت على نحو خاص ومؤثر في مدينة أم الفحم في مطلع مارس/آذار من العام الحالي، في المظاهرة الجبارة التي شارك فيها عشرات الآلاف، خصوصا في ظل اتباع الحركة الإسلامية خطا مهادنا مع الشرطة وتواطؤها مع الإجرام المنظم، ومحاولات الحركة بزعامة منصور عباس، الادعاء بدور إيجابي للشرطة بالرغم من أن مسؤولين من الشرطة الإسرائيلية اعترفوا في الأشهر الأخيرة بأن كثيرين من رؤساء عصابات الإجرام المنظم متعاونون مع الشرطة الإسرائيلية وأجهزة الأمن المختلفة، مما كان يمنحهم حصانة من الاعتقال والملاحقة.
تفاقم الفقر والبطالة
يشكل الفلسطينيون في الداخل نحو 20% من المواطنين لكنهم يشكلون ضعف نسبتهم من السكان المصنفين فقراء في إسرائيل، إذ تشير المعطيات المتوفرة إلى أن أكثر من 47% من العرب الفلسطينيين في الداخل هم من الفقراء، وأن أكثر من 54% من الأطفال العرب يعيشون تحت خط الفقر، أو في أسر فقيرة. وقد ارتفعت نسبة الفقر في العامين الأخيرين، بشكل كبير أيضا في صفوف الشباب الفلسطينيين، الذين كانوا أكثر شريحة تضررت خلال جائحة الكورونا، لا سيما من تتراوح أعمارهم بين 18-20 عاما، حيث حرم هؤلاء بفعل القوانين الإسرائيلية العنصرية، من الحصول على منح أو مخصصات دفعتها الدولة خلال جائحة الكورونا لمن تم تسريحهم من العمل، بحجة أن مخصصات البطالة تمنح فقط لمن هم فوق جيل الـ21 عاما، وهو ما يستثني عمليا الشبان العرب الذين تخرجوا من المرحلة الثانوية في العامين الأخيرين، مع بدء الإغلاقات في زمن “الكورونا” وارتفاع نسبة البطالة، إذ لا يحق لمن دون الـ20 ولم يعمل على الأقل 18 شهرا متتالية الحصول على منح “الكورونا” (وهي الفئة العمرية التي يخدم فيها الشبان اليهود الإسرائيليون في الجيش) مما زاد من حالة فقر عشرات آلاف الشبان الخريجين في العامين الأخيرين، وهو ما انعكس بالضرورة سلبا على عائلاتهم، ناهيك عن تسريح عشرات آلاف آخرين مع بدء تطبيق إغلاقات الكورونا، في آذار من العام 2020، ورفض استيعابهم في أماكن العمل الإسرائيلية.
المصدر: العربي الجديد