سؤالٌ بسيطٌ لكنَّ إجابتَه معقدةٌ! جال هذا السؤالُ كثيرًا في خاطري وأنا اقرأ بالصدفة في اليوم نفسِهِ ثلاثَ مقالات علمية بشكل متتالٍ:
المقالة الأولى تتحدث عن الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (Max Planck)، الذي يعود له الفضلُ في اكتشاف ثابت بلانك الأشهر في عالَم الفيزياء وميكانيكا الكم.
يقول الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (Max Planck)، في نهاية الفصل الأول من كتابه الرائع “سيرة ذاتية علمية، وأوراق أخرى”:
“لم يولدْ أيُّ رجل،بحق قانوني يعطيه السعادةَ والنجاح والازدهار في الحياة، بالتالي يجب علينا تقبلَ كلِّ قرارٍ من العناية الإلهية، كلِّ ساعةِ سعادة، باعتبارها هديةً غيرَ مكتسبة تفرض علينا التزاما. أما الشيء الوحيد الذي قد ندّعي أنه مِلكُنا بضمانةٍ مطلقة، أعظم خيراً، والذي لا يمكن لأية قوة في العالم أن تأخذَه منّا، وهو ما يمكن أن يعطينا السعادة الدائمة أكثر من أي شيء آخر، هو نزاهة الروح، والذي يتجلى في أداء واجبنا بضمير”.
توصل ماكس بلانك بعد جهد طويل، عبر ما سماه “تخمين موّفق”، إلى معادلة تُعيدُ تشكيلَ كلِّ ذلك التنظير السابق لصيغة رايلي-جيسلوكي تفسير طيف الأشعة الكهرومغناطيسية، لكنه اضطر فيها إلى أن يستخدم ثابتًا وهو عبارة عن رقم ينبغي إضافته للمعادلة كي تتفق الأمور النظرية مع النتائج التجريبية، رقم ما بقيمة (6.62607004 × 10-34 m2 kg /s (, لم يكن يعرف بلاك بعدُ أن هذا الرقم سوف يصبح أحدَ ثوابت الطبيعة الأساسية، إنه الرمز ℏ الأشهر في فصول الفيزياء، والذي يدعى بثابت بلانك.
يقول بلانك عن توتره تجاهَ اكتشافه هذا: “وكان فعلًا يائسًا، كان عليّ الحصول على نتيجة إيجابية تحت أي ظرف من الظروف، وبأي ثمن”، كان هذا الفعل اليائس هو مولد ميكانيكا الكم، أعظم إنجاز للفيزياء في تاريخها، يقول نيلز بور Niels Henrik David Bohr عن عظمة اكتشاف بلانك:
“بالكاد يمكن أن يوجدَ اكتشافٌ آخرُ في تاريخ العِلْم كله قد أنتج هذه النتائج الاستثنائية خلال فترة قصيرة من جيلنا مثل تلك التي نشأت مباشرة من اكتشاف ماكس بلانك للفعل الكمّي الأولي”
المقال الثاني يتحدث عن تطور أدمغتِنا من خلال التجربة والخبرة، حيث كان الاعتقاد السائد يقول بإن الخلايا العصبية هي عبارة عن خلايا نبيلةٍ وتمتلك خاصيةً غايةً في الخطورة، وهي أنها “لا تنقسم ولا تتجدد وما يُفقَدُ منها لا يُعوّض”، لقد كان ذلك أيضًا هو اعتقاد العلماء حتى فترة قصيرة، بأن نموَ الدماغ يتوقف بعد فترة حرجة محددة -السنوات الأولى من العمر- من حياتنا ثم تستقر هكذا طوال العمر.
بسبب ذلك الزعم، كان من المفترض أنه حينما يحدث -لأي سبب- تَلَفٌ في منطقة ما من الدماغ، منطقة نعرف وظيفتها تحديدًا كالبصر والسمع ، فإننا نفقد تلك الوظيفة إلى الأبد، لكن ذلك لا يحدث في الواقع، فالمرضى قادرون على تطوير مجموعة من المهارات الخاصة بتلك المنطقة في بعض الحالات، ثم جاءت الأبحاث الحديثة على الفئران والقرود والبشر لتثبت أن الدماغ يمكنه، طول العمر، أن يصنع وصلات عصبية جديدة، وتدعى هذه الظاهرة باللدونة العصبية (Neuroplasticity) حيث تتمكن الخلايا العصبية من خلالها أن تعوض الدماغ عن إصابة ما وتعدل أنشطتها استجابة للحالات الجديدة أو التغيرات الطارئة في بيئتها.
اصطلاح الـ (Neuroplasticity) لا يعني أن لدينا دماغًا بلاستيكيًّا، لكنه يعني أن الدماغَ مرنٌ بما يكفي، ليتكيف مع الأوضاع القائمة ويعيد تنظيم ذاته لخدمة الوظائف الجديدة باستخدام تلك الآليات.
وخلال عمر الفرد يتم تعزيزُ حزمِ الخلايا العصبية التي تُستخدم بشكل أكبر -عبر التغذية الراجعة الموجبة- بالمزيد من الوصلات والتشابكات العصبية فتصبح أقوى، أما تلك التي لا تستخدم كثيرًا -عبر التغذية الراجعة السالبة- فتنحسر بالتدريج منها الوصلات والتشابكات العصبية ، يشبه الأمر هنا ذلك التعبيرَ الشهيرَ القائل إن “الغني يزداد غِنىً والفقيرَ يزداد فقرًا”، تسمى تلك العملية بتشذيب التشابكات العصبية (Synaptic Pruning).
حينما تُصاب المنطقةُ الخاصة بحاسة البصر على سبيل المثال بالتلف يحدث أن تُحوِّلَ مناطقُ القشرةِ المخية التي كانت تعمل على حاسة البصر إشاراتِها العصبية وتعزز اللدونة العصبية من الوصلات والتشابكات العصبية في منطقة حاسة أخرى، كالسمع أو اللمس مثلا، فتصبح أقوى، وهو ما يفسر السمع المرهف لدى بعض فاقدي البصر.
في الفترة الأخيرة تطورت الادعاءاتُ حول اللدونة العصبية لتشمل أفكارًا تتعلق بتمارين ومساقات عقلية ما يمكن لها أن ترفع من قدرات الذكاء، الذاكرة، القراءة.. إلخ، هناك أيضًا مجموعة أخرى تتحدث عن قدرة الجسد على شفاء ذاته عبر التأمل وترك سبل الغضب، القلق، المثيرات النفسية السيئة ذات العلاقة بالعمل، ومجموعة ثالثة – وتشمل هنا تصريحات لـ مايكل ميرزنتش Michael Merzenich (صاحب أشهر تجارب في هذا المجال)– تتحدث عن تمارينَ جسديةٍ ما قد تكون قادرةً على شفاء الفصام والاكتئاب بنفس القدر كما تفعل الأدوية النفسية!
إذن كيف يتشكل دماغُنا؟ هل عبر الخبرة والتجربة ؟ هل نحن أبناءُ ظروفنا وبيئتنا التي تعرضنا لها في الطفولة فانطبعت (نشاطاتنا/ما ننتبه إليه) على أدمغتنا كفئران مايكل ميرزتش (صاحب أشهر تجارب في هذا المجال)؟ أم نحن أبناء حتميتنا الجينية التي وُلِدْنا بها؟ أم أن الأمر جدلٌ بين الحالتين؟ وما هي الإرادة الحرة؟ وهل يمكن أن يفسرَ ذلك اختلاف تصرفات (الأعراق/الثقافات) البشرية تجاه نفس المواقف؟ تُرى كيف سيكون شكل المستقبل؟ هل سوف نتمكن من تحفيز أدمغتنا لقدراتٍ غايةً في الحدّة يومًا ما لنقل بعد ثلاثمائة سنة مثلًا؟
أما المقال الثالث فيتحدث عن تأثير السلطة على الدماغ البشري حيث وصف المؤرخُ هنري آدامز Henry Brooks Adams السلطةٍ وصفًا مجازيًّا، لا طبيًّا على أنها “نوع من الأورام، ينتهي به الحالُ إلى القضاء على تعاطف الضحايا مع بعضهم بعضًا”. لكنّ هذا الوصفَ لا يختلف كثيرًا عما انتهى إليه حديثًا العالم داكر كلتنر Dacher Keltner، أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا في بركلي، بعد سنوات من التجارب المخبرية والميدانية. فقد اكتشف كلتنر، بعد عقدين من الدراسات، أن سلوكَ الشخصِ المتبوِّئ لمنصب سلطوي، يشبه سلوكَ إنسان يشكو إصابة دماغ رضية، وهو ما يجعله أكثر اندفاعًا، وأقلَّ إدراكًا للمخاطر، وأقل قدرة على رؤية الأشياء من وجهة نظر الآخرين، بدرجة كارثية ( والأمثلة على ذلك لا تحصى من هتلر إلى نابليون و حديثًا صدام).
مؤخرا، تحدث سوكفيندار أوبي Sukhvinder Obhi، عالمُ الأعصاب بجامعة ما كماستر الكندية McMaster University، عن أمر مشابه. لقد درس أوبي الأدمغة، على عكس كلتنر الذي يدرس السلوكيات. وعندما وضع Obhi رؤوس ذوي السلطة وغير ذوي السلطة، أسفل جهاز تحفيز مغناطيسي للدماغ، وجد أن السلطة، في حقيقة الأمر، تعيق عمل الخلايا العصبية المرآتية، التي يعتقد أن تكون حجر الأساس لعملية التعاطف. مما يوفر أساسًا عصبيًّا لما أسماه كلتنر بـ “مفارقة السلطة”: ما إن نحوز السلطة، حتى نفقد بعض القدرات التي ساعدتنا على كسبها.
العِلْم تاريخيًا كانت له قدسية في مجتمعاتنا لكن هذه القدسية انزاحت تدريجياً حتى انحصرت فقط في المؤسسة الدينية التي وقعت بما وقعت به الكنيسة في القرون الوسطى بحصر القدسية في مؤسساتها وإزاحتها عن باقي المؤسسات.
والعجيب أن سقف هذه المؤسسة الدينية لم يصبح العِلْمَ بل تحول إلى سرد بشري متصلب! فأصبحت المؤسسة الدينية حبيسة التاريخ فأوقفت الاجتهاد وهنا تصلب السقف تحت ذرائع مختلفة!
الغرب أضفَى القدسية على العِلْم في حين نزعه المسلمون عنه. نلاحظ إلى الآن أن العلماءَ في الغرب يتصدرون المشهد في الصف الثاني وراء الساسة، وهنا يبدأ حكمُ المؤسسات فالمطبخ الخلفي للقرارات السياسية التي تسيطر على الاقتصاد والمجتمع يأتي من العلماء بينما دور من يصنفون كعلماء في بلادنا هو لإصدار فتاوى للسلطة السياسية على شكل يشبه الهرم المقلوب!
في ثمانينيات القرن الماضي وقبل التحول إلى النيوليبرالية Neoliberalismالتي قادها ريغان وتاتشر ومن خلفهم العالم الاقتصادي ميلتون فريدمان Milton Friedman وشيكاغو بويز Chicago Boys , ,كان يُنظر -في بلادنا- إلى الرداء الأبيض للطبيب ومسطرة الهندسة بشيء من المكانة التقديرية لهذا الرمز،ولكن مع تحرر السوق والخصخصة أصبح في مجتمعاتنا المُهرب والتاجر والمتحالف مع المافيا السياسية الاقتصادية هو من يُلقى عليه تاجُ الاحترام وحتى تاج شبه-القدسية!
بدأً من نهايات القرن السادسَ عشرَ انتهت حصريةُ قدسية العِلْم في الكنيسة وأصبح للجامعات قدسيةٌ ومكانةٌ في القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي أعلى من قدسية العِلْم اللاهوتي، فقراراتُ التحكمِ بصيغة الحياة الدنيا أصبحت تخرج من اوكسفورد وكامبردج…، وكذلك تشكلت منطقتنا العربية والإسلامية من خلال مقاعدِ دراساتِ الشرق والشرق الأدنى في تلك الجامعات!
وتعاني المؤسسات الغربية في هذا الزمن -الذي توَّجهُ قدومُ ترامب للسلطة- من حالة تراجع في قدسية العِلْم ومكانته في صناعة الحياة انعكاسًا واضحًا لسلبية النيوليبرالية بإزاحتها للعِلْم ليكون خادمًا للاقتصاد والمادة وليس العكس! أما في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي لا نعي عنها منذ خُلقنا إلا هرمًا مقلوبًا يضع العِلْم في آخر الصفوف، فنحتاج الى إعادة العِلْم وليس الخرافة والتاريخ – الذي هو أسير بيئته بطبيعته – ليكونَ سقفَ سردِنا البشري ولا يقصد بالسقف هنا سقفُ المؤسسة الدينية فقط بل المؤسسات الحياتية كاملةً فيصبح العِلْم عندها منهج حياة!
في كتابي مشروعي مع الرئيس ذكرت النص التالي عن السرد البشري:
“يجب أن يعطيني السرد البشري الجيد دورًا وأن يوسع آفاقي، ولكن لا يجب أن يكون صحيحًا. على الرغم من أن السرد قد يكون مصنوعًا من البداية إلى النهاية من خيالات وأوهام، إلا أنه يمكن أن يعطيني هوية ويجعلني أشعر أن حياتي ذات معنى. في الواقع، وفقًا للبيانات العلمية التي لدينا، فإن أكثر الروايات التي تنتجها الثقافاتُ والأديان غيرُ السماوية والقبائل المختلفة عبر التاريخ غير صحيحة. كلها اختراع بشري. فلماذا يؤمن الناس بهذه القصص الخيالية؟ أحد الأسباب هو أن هويتهم الشخصية تقوم على السرد. يتم تعليم الناس أن يؤمنوا بالنصب التذكاري والقصص البطولية منذ صغرهم. يسمعون الروايات من آبائهم ومعلميهم وجيرانهم والجمهور العام قبل وقت طويل من حصولهم على الاستقلال العقلي والعاطفي اللازم للتشكيك وتأكيد صحة مثل هذه الروايات. عندما تنضج عقولُهم، يستثمرون الكثير في السرد لدرجة أنهم يصبحون أكثر ميلًا لاستخدام عقولهم لجعل السرد منطقيًا بدلًا من الشك في السرد. معظم الأشخاص الذين يبحثون عن الهوية هم مثل الأطفال الذين يبحثون عن الكنز. أسهل طريق عندهم البحث فيما خبّأه آباؤهم سابقاً ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170].
لا تعتمد هوياتُنا الشخصية على السرد البشري فحسب، بل تعتمد أيضًا مؤسساتُنا الجماعية على هذا السرد. لذلك من المخيف للغاية أن نشك في السرد. في معظم المجتمعات، أولئك الذين يحاولون مثل هذا الشيء مصيرهم إما النفي أو التعرض للاضطهاد. حتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإنه يتطلب شجاعةً كبيرةً للتساؤل عما يشكل سقف المجتمع. لأنه إذا كان السرد خاطئًا حقًا فإن العالم كله الذي نعرفه سيفقد معناه. قوانين الدولة والأعراف الاجتماعية والمؤسسات الاقتصادية أو حتى المدارس والطرق الدينية؛ يمكن للشك في السرد البشري أن يحطم كل شيء.
إن ثقلَ أسطحِها وليس قوةُ أساساتها هي التي تدعم معظم الروايات البشرية.” ……نهاية الاقتباس ….
المقالات الثلاث التي وضعت ملخصها -ليس عبثًا في البداية تنطبق عليها صناعة الصدفة التي ذكرتها في مقالة سابقة فهي تعطينا مجتمعة فكرة أساسية وهي: أننا من الممكن أن نخرج من إدمان السلطة لنطورَ عقولَنا من خلال التجربة والخبرة فنكتشف أسرار الكون التي سبقنا له من وضع سقف مؤسساته ومنهجه العِلْم وأخرج العِلْم من المدارس الدينية الى المدارس الحياتية! هذا لا يعني أننا كمسلمين حاملين للمنهج الرباني الأمثل في إدارة الحياة البشرية أن نفعل المثل بل المثالي لنا أن ندمجَ الدينَ في منهاج الحياة وهذا لا يتأتى إلا إذا وضعنا العِلْم سقفًا لكل مؤسساتنا -والدينية منها بالطبع- وهذا بالضرورة يعني أن السقف متحركٌ شاسعٌ غيرُ متصلبٍ بتاريخٍ أو حدث أو بيئة محيطة، وهذا لن يتأتى إلا بتحويل التاتو الإسلامي (المظهر الديني) إلى تاتو علمي، فنجعل للعالِم مكانةً وسمةً خاصةً به فعلمه سيكون مفتاحَ النجاح والتغيير مجتمعاتنا ومفتاحًا للآخرين في مهمة الاستخلاف في الأرض.