ليس من يحكمون إيران شطارًا بحقّ. ولو أنهم كانوا كذلك لفهموا أنهم سيفشلون في سعيهم إلى استعادة زمنٍ ناضلت شعوب الأرض طوال قرون للتخلص منه، وهو الزمن الذي كانت بعض النظم الإمبراطورية تدمج دولًا وشعوبًا أخرى في كياناتها الذاتية، وتلزمها بمصالحها وخياراتها والرضوخ لسيطرتها النافية لوجودها، كذاتيات تاريخية قائمة بذاتها، لكنها فشلت بمرور الزمن في احتوائها ودمجها ضمن كيانها الخاص، لإخفاقها في كبت هويتها المغايرة، وفي منعها من تصعيد وتوحيد مقاومتها التي تعاظمت، بقدر ما بدد السيد الإمبراطوري قواه في قهرها وقمعها، وحوّلت سياساته سيطرته عليها إلى خطرٍ هدّد كيانه الخاص، الذي اكتشف أكثر فأكثر خضوعه لجدلية أفضت إلى تناقص قدرته على التحكم فيها، من جهة، وربطته بخيارات وممارسات حوّلت صراعه ضد الخارجين عليه، وليسوا من مركزه الإمبراطوري، إلى تهديد جدي ومتعاظم لكيانه الخاص، يقوّض شيئًا فشيئًا سيطرته على من هم خارجه، وعلى حوامل إمبراطوريته الداخلية، ويجعل استمرارها رهنًا بانفكاكه عن الخاضعين له، من جهة أخرى.
أغرى فراغ الساحة العربية السياسي قادةَ طهران بترشيح أنفسهم لاحتلال ما خططوا لاحتلاله في جوارهم العربي، باسم ثورةٍ لا بد أن تكون لهم مصلحة في انتقالها إليه، استجابة لمنطلقات دينية مشتركة، وتطلعات سياسية لا بد أن تكون قراءتها الإيرانية مقبولة لديها، بعد فشل تجارب التحديث العربية: القومية منها والاشتراكية والليبرالية والديمقراطية، وبروز حاجتها إلى من يدعم قضاياها، وخاصة قضية فلسطين والخلاص من الاستبداد، ومَن أكثر من طهران قدرةً على الإفادة من خيبات العرب بأنظمتهم، وهزائمهم أمام أعدائهم، وعلى ملء الفراغ الذي أحدثه غياب المركز المصري، الناصري عنهم، وانخراط دولهم في صراعات بددت القليل من الروابط السياسية والتاريخية التي كانت تجمعهم؟ فإن أمكن اختراقهم بحركة متزامنة من الخارج، عبر تصدير الثورة، ومن الداخل، بالسيطرة على نظمهم أو بلدانهم، من خلال فرز وتنظيم القطاعات المجتمعية الموالية عقديًا لها، وتأهيلها عسكريًا إلى الحد الذي تسيطر معه على دولها ومجتمعاتها، وهو ما فعله “حزب الله” في لبنان، والحوثيون في اليمن، و”الحشد الشعبي” في العراق، فإن إتباع هذه الدول والبلدان بطهران، ودمجها في مركز موحد له نواة قيادية في طهران، يصير ممكنًا وحتميًا على أن تكون مكوناته جزءًا من كيانها السيادي الخاص، الذي لا تفصله عنه هويات وحدود وسيادات فرعية وحقوق خاصة، ولا بد من أن تستخدمه كمركز موحد ومتعدد الأذرع .
هذا المشروع وصل إلى نهايته، بعد أن تناقضت وعوده مع وقائعه، ومورست في أثناء إقامته أشكالٌ من القسر والعسف خدمت نظمًا استبدادية شديدة الشراسة، أو عززت نظم الاستبداد القائمة، وخاصة في سورية الأسدية، حيث غرق الملالي بدماء السوريين إلى ذقونهم، دفاعًا عن ربيبهم المستبد، دون أن يخوضوا، بالمقابل، أي معركة -من أي نوع وحجم كان- لمصلحة فلسطين، عدا المعارك اللفظية والتهريجية التي تحدثت تارة عن “إبادة إسرائيل” في سبع دقائق، وطورًا في خَمس! في حين عملت طهران المستحيل لتقويض وحدة الشعب الفلسطيني الوطنية، ولتغذية وتمويل انقسامات مدمرة في صفوفه، عبر دعم قطاع منه يخوض معاركه ضد السلطة الوطنية بعشرة أضعاف الحدة التي يخص بها “العدو الصهيوني”.
ودخل ذلك المشروع -كمشروع أريدَ له أن يكون تاريخيًا- في حقبة انحدار تشير علامات عديدة إلى أنها قد تصبح في أي وقت حقبة انهيار، من علاماتها اثنتان: الأولى رفضُ من كان يُفترض بهم أن يكونوا حوامل المشروع الإيراني في بلدانهم -عنيت شيعة العراق وإيران، وقسمًا كبيرًا من شيعة لبنان، وأغلبية الشعب السوري الساحقة- لإقامة “محور شيعي”، يخترق بلدان المشرق ويدمجها في إمبراطورية إيران، وهو المحور الذي يتهاوى من الداخل والخارج. والعلامة الثانية تهافت المركز الإيراني ذاته تحت وطأة إنفاق عسكري استنزف موارد الدولة من جهة، وما فُرض عليه من حصار اقتصادي أميركي قوّض قدرته على ضمان حد أدنى من العوائد الضرورية لاستمرار نظام السيطرة الداخلي، فضلًا على ذلك النظام العابر للمشرق، الذي لم يبق من خيار لدى طهران غير الانكفاء على نفسها، إن وجدت ما يكفي من وقت لإعادة النظر في خياراتها، وإقامة شيء من التوازن في سياساتها، التي تتم بدلالة مواقف يمليها الآخرون عليها، ويُرجّح أن لا تنجح قيادة إيران الحالية في بلوغه، في ظل قبضة المتشددين المحكمة على شعبهم، الذين يواجهون خطر السقوط بضربات داخلية يسددها إليهم شعبهم، أو خارجية يتلقونها من واشنطن، بينما يبدو بجلاء فشلهم في إدارة نظامٍ بددوا جميع المقومات الضرورية لاستمراره.
هذه الدورة بلغت طور انحدار، يقف مرشد طهران وحاشيته في الحرس الثوري عاجزين حياله، لذلك يراهنون على جعل ثمنه فادحًا بالنسبة إلى شعب إيران، مثلما كان فادحًا بالنسبة إلى شعب سورية، الأمر الذي سيسرع انفكاك من بقي مواليًا لهم من الإيرانيين عنهم، وسيكشف حجم التناقض بين ما وعدوا المسلمين والعرب به، ويتصل معظمه بنقلهم من جهنم الظلم والاستبداد إلى فردوس المساواة والحرية، لكنه أخضعهم لاستبداد إمبراطوري، لن ينجو من ناره الذين راهنوا عليه لإخماد أنفاس شعوب المنطقة واستعبادها، بعد أن بدأت مداميك إمبراطوريتهم تسقط على رؤوسهم، وانقلبت خطتهم في اختراق الداخلي والخارجي المتزمن لجوارهم العربي، إلى خطة معاكسة. ويُرجح أن يتلازم الانفجار الداخلي مع الضغط الخارجي، وأن يستمر تلازمهما إلى أن يتخلى الواهمون عن أحلامهم، التي تتحول إلى كوابيس، وعن مراكزهم، ويتداعى صرح الإجرام الذي روّع شعوب المنطقة، وشعب إيران، باسم رسالة سماوية لم يترك سبيلًا إلى تشويهها إلا اتّبعه!
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة