على وقع العديد من السياقات الدولية والإقليمية المضطربة في أوكرانيا وتايوان والمغرب العربي الكبير وسورية واليمن والعراق، وانحسار الثورة العربية في دول الربيع، ورغوة الكلام الأميركي حول دعم الديمقراطية، جاءت محادثات ڤيينا الأخيرة بعد مطمطة إيرانية مكشوفة برضى وتوافق أميركي وإسرائيلي فضلاً عن الأوربي والروسي والصيني.
إن المشهد الدولي والاقليمي ركّز ويركّز على ما يمكن اعتباره العدّ العكسي لإحياء الاتفاق النووي مع إيران وتطوير العلاقات الأميركية والأوروبية مع طهران، وما يرافق ذلك من تفاهمات دولية وإقليمية مع اسرائيل؛ وقد يكون العام المقبل مرشحاً كأصعب أعوام المنطقة العربية، لأنّها ستكون في مواجهة مع عدة قضايا خطرة أولها نتائج إعادة التموضع الأميركي في جنوب بحر الصين والمحيط الهادي بعيداً عنها، وثانيها آثار الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران، والفاتورة الباهظة التي سيدفعها الأمن القومي العربي، يعقبها ثالثاً صعود نفوذ قوى إقليمية في مقدمتها إسرائيل على حساب دولها، ورابعاً ظهور تحالفات جديدة لبعض أنظمة هذه المنطقة العربية، بالوقت الذي يتعرّض فيه كلّ من لبنان وسورية والعراق وفلسطين واليمن والسودان والجزائر لضغوط داخلية تهدّد بتفكّك وتحلّل دولها الوطنية، إضافةً لمخاطر تطوّر فيروس كورونا بمتحوله الجديد ’’أوميكرون‘‘ وآثاره السلبية على سلامة واقتصادات دول وشعوب هذه المنطقة.
ففي حالة إيران نووية، من المتوقع أن تسعى دول مثل تركيا ومصر والسعودية لتصبح دولاً نووية في غضون فترة لا تتجاوز العقد من الأعوام، كما العديد من دول العالم الثالث ممن سيبني لنفسه قدرة نووية، وفي مثل هذا الوضع الناشئ الذي وصفه في التسعينات المفكر المرحوم «الياس مرقص»، قبل وفاته، وحذر من أنه (سيظهر سلاح نووي وسماها ’’رمانات نووية‘‘، حتى وإن كانت بدائية في حيازة منظمة أو منظمات إرهابية متطرفة، لتكون خطِراً على المنطقة والعالم كله، وأنه- حسب رأيه- يجب الاستعداد سياسياً لهذه الحالات، وخاصة بما يتعلق بالانتشار النووي في منطقتنا!)؛ على ضوء ذلك إذا ما وصلت إيران إلى دولة بعتبة نووية، فستتمتع بمكانة إقليمية وعالمية محسّنة، وستكون منيعة على التدخل العسكري الخارجي لإسقاط نظامها، وستحظى بحرية عمل مضاعفة للتآمر والعمل الإرهابي النووي في المنطقة كلها، وستكون كمن حقق توازناً استراتيجياً مع العديد من الدول، وستكسب صورة دولة استفزت العالم، وسعت لفرض إرادتها عليه.
يبدو أن إيران ستحصل على مباركة وتصديق الأعضاء الكبار في النادي النووي الدولي، لتدخل رسمياً في الفرع الإقليمي للنادي الذي يضم خمس دول، قد فرضت نفسها نووياً وسُمِحَ لها بالتلاعب على معاهدة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وهي: الهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل، والآن إيران؛ ذلك على وقع قرار الدول الكبرى الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن- الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا- القاضي بمنع قاطع لأي دولة عربية من أن تقترب من اقتناء القدرات النووية العسكرية.
لقد تم تدمير العراق عمداً وبقرار دولي، بعدما ارتكب خطأ التباهي بتطوّر قدراته في ميدان الأسلحة البيولوجية والكيماوية والنووية، وتم تمزيقه حتى في أعقاب تجريده من السلاح المحظور وبعدما كذبت الدول الكبرى لدى تنفيذ القرارات الدولية، فتملّصت من فقرات كتلك التي اعتبرت تجريد العراق من السلاح المحظور جزءاً من الالتزام بمنع أي دولة إقليمية من الحصول على القدرات النووية المحظورة، وارتكبت مصر غلطة الالتزام قبل التيقّن من التزام الدول الأخرى؛ والقرار الدولي كان مُتّخذاً بغض النظر عن امتلاك إسرائيل السلاح النووي، ما دامت “تنفي” ولا تعترف ولا تقرّ به، وهذا ما طُبِّق على الهند وباكستان أيضاً.
قد تدخل إيران نادي الدول “النافِيَة” لامتلاك السلاح النووي، وإسرائيل ستصرخ وتحتج وستصعّد غزواتها السيبرانية ضد المواقع الإيرانية النووية؛ لكن القاسم المشترك بين إيران وإسرائيل هو توافقهما واتفاقهما على منع أي دولة عربية من الوصول الى النادي النووي، والدول الخمس الكبرى تدعمهما في ذلك.
وسوف تظلّ حركة أميركا في المنطقة العربية قويّةً، لكنّها سوف تسعى لتطويع دولها للقبول بآثار وتبعات الاتفاق المقبل مع طهران حال التوصل إليه، وردود فعل إعادة التأهيل الأميركية لإيران؛ وثقة واشنطن بذلك عالية لاعتماد دول المنطقة عليها بسبب ارتباط الجميع بالدولار الأميركي، وبالسلاح الأميركي، وبالتعاون الاستخباري الأميركي، وبالوجود الأميركي المؤثّر في قواعدها الإقليمية المحيطة بالمنطقة العربية فضلاً عن العلاقة مع إسرائيل.
ولسوف يستمر الشدّ والجذب بين مصر والسعودية والإمارات من ناحية، والولايات المتحدة الأميركية من ناحية أخرى، وستسعى القاهرة وأبوظبي والرياض لوضع صياغة جديدة للعلاقات المستقرّة مع واشنطن بعدما قرّرت إدارة الرئيس جو بايدن إحداث تغيير جوهري في شروطها للتعامل معهم، مقابل سعي أميركا بدورها للمزيد من الضغط على هذه العواصم بهدف تطويعها أكثر للقبول بإجراءات وسياسات تمسّ سيادتها، لتثبت أنها أكثر ارتباطاً بتحالفها مع واشنطن لعلها تحصل على تفضيل بمكانتهم الإقليمية والاستراتيجية مع واشنطن بمواجهة الثقل الاستراتيجي لعواصم أخرى خاصة طهران؛ إنه صراع الوجود بين حقوق المؤثّر عربيّاً مقابل الاستراتيجي المؤثّر من غير العرب!
المصدر: اشراق