لا توجد أي مؤشرات على أن المجتمع الإسرائيلي والحكومة ووسائل الإعلام -“الليبرالية” أو اليمينية- ستطور بمفردها الأجسام المضادة الضرورية التي ستعالج مرض العنصرية، والاحتلال العسكري، والفصل العنصري. نعم، ستكون المقاومة الفلسطينية في نهاية المطاف هي التي ستصنع الفارق الحاسم في تحميل إسرائيل المسؤولية.
* *
لأي سبب من الأسباب، ينظُر البعض -خطأً- إلى صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية على أنها ليبرالية وتقدمية، بل وحتى “مؤيدة للفلسطينيين”. وبطبيعة الحال، لا شيء من هذا صحيح. وفي الحقيقة، يروي هذا التوصيف الخاطئ لصحيفة صهيونية ومعادية للفلسطينيين قصة أكبر بكثير عن مدى التشويش الذي تسببه السياسة الإسرائيلية، ومدى ارتباك الكثيرين منا في فهم الخطاب السياسي الإسرائيلي.
في 28 تشرين الثاني (نوفمبر)، اقتحم الرئيس الإسرائيلي المنتخب حديثاً، إسحاق هرتسوغ، المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل الفلسطينية مع مئات الجنود والعديد من المستوطنين اليهود غير الشرعيين، بمن فيهم كل أنواع المتطرفين الإسرائيليين الذين يمكن أن تتخيلهم.
وقد ذكّر المشهد بحادثة مماثلة، حيث اقتحم رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، أرييل شارون، مع آلاف الجنود وضباط الشرطة، مجمع الحرم الشريف في القدس الشرقية المحتلة في أيلول (سبتمبر) 2000. وكان ذلك الحدث بالذات هو الذي أطلق العنان للانتفاضة الفلسطينية الثانية بين الأعوام (2000-2005) التي أدت إلى مصرع الآلاف من الفلسطينيين على يد الاحتلال.
وكانت لفتة هرتسوغ للتضامن مع مستوطني “كريات أربع” مطابقة لمبادرة شارون السابقة، التي صُنعت هي أيضًا لنيل استحسان معسكر المتطرفين اليمينيين المزدهر والنافذ في إسرائيل.
قبل بضعة أشهر فقط، وصفت صحيفة “هآرتس” هرتسوغ بأنه شخص “وسطي، لطيف الكلام”، “بلا دراما”، والذي في بعض الأوقات “بدا وكأنه خارج المكان في ساحة المعركة السياسية الإسرائيلية العاصفة والممزقة”. ووفقا لصحيفة “هآرتس”، فإن هرتسوغ “قد يكون بالضبط ما تحتاجه إسرائيل الآن”.
ولكن، هل هذا هو واقع الحال حقاً؟ لك أن تتعجب من بعض التصريحات التي أدلى بها هرتسوغ أثناء زيارته لموقع قُتل فيه تسعة وعشرون فلسطينيًا على يد متطرف من مستوطنة “كريات أربع”، باروخ غولدشتاين، وحيث قُتل عدد أكبر بكثير من الفلسطينيين برصاص الجنود الإسرائيليين في أعقاب الحادث المأساوي. ولم يقتصر الأمر على احتفال العديد من الإسرائيليين بذكرى غولدشتاين بتشييد مزار يليق بالأبطال والقديسين فحسب، لكن العديد من الذين رافقوا هرتسوغ خلال “الزيارة” الاستفزازية هم أتباع متحمسون لهذا الإرهابي الإسرائيلي اليهودي.
“علينا أن نواصل الحلم بالسلام”، أعلن هرتزوغ أثناء إحياء الليلة الأولى من عيد حانوكا اليهودي داخل مجمع الحرم الإبراهيمي، الذي كان قد تم إفراغه مسبقاً من المصلين المسلمين. وبكل فخر، كما قال، “أدين أي شكل من أشكال الكراهية أو العنف”. وفي الأثناء، كان مئات الجنود الإسرائيليين يروِّعون 35 ألفا من سكان البلدة القديمة في الخليل. هؤلاء الفلسطينيون، الذين يعانون العنف اليومي على أيدي ما يقرب من 800 مستوطن يهودي مسلح في “كريات أربع”، إلى جانب عدد مماثل من الجنود الإسرائيليين، تم حبسهم جميعًا في بيوتهم، وإغلاق متاجرهم، وتجميد حياتهم، وغطيت جدرانهم بالكتابات الغرافيتية العنصرية.
وكما قال الموقع الإخباري الإسرائيلي “مجلة 972+” مشيراً إلى الرئيس الإسرائيلي، “لو أنه سار حول الزاوية فحسب، ربما كان هرتسوغ سيرى الكتابات على الجدران التي تقول، ’اقتلوا العرب بالغاز‘”.
لكن الاحتمالات هي أن هرتسوغ يفهم مسبقاً -وفي الواقع، يدعم- مثل هذه العنصرية؛ فبعد كل شيء، انضم إليه في الزيارة أمثال إلياهو ليبمان، الذي يترأس “مجلس كريات أربع الإقليمي”، وهيليل هورويتز، زعيم المستوطنين اليهود في الخليل. وهذان هما الرجلان اللذان يدعوان إلى التطرف والعنف ضد الفلسطينيين كأمر طبيعي. وإضافة إلى استضافتها قبر ومزار غولدشتاين، تضم مستوطنة “كريات أربع” حديقة تحمل اسم مئير كاهانا، الزعيم الروحي لأكثر المتطرفين عنفاً في إسرائيل.
في خطاب مؤثر ألقاه هورويتز بصحبة هرتسوغ، أعلن زعيم المستوطنين أن اقتحام الرئيس الإسرائيلي العنيف للحرم الإبراهيمي “يذكرنا بأننا لم نأخذ أرض أجانب”. وأتبع ذلك بعبارة: “زيارتك هنا تعزز مهمتنا”.
من وجهة نظر هورويتز وليبمان وأمثالهما، حققت “مهمتهم” نجاحًا عظيماً. فقد تمكنوا من توجيه السياسة الإسرائيلية بالكامل تقريبًا نحو اليمين. وحتى الرئيس “الوسطي لطيف الكلام” نفسه يتبنى الآن بالكامل مهمتهم الشريرة.
ولكن، هل ستعترف “هآرتس” بهذه الحقيقة؟ بأن الخط التحريري “الليبرالي” و”التقدمي” الذي تزعم أنها دافعت عنه لسنوات عديدة قد فشل تمامًا، وعن قصد، في تصوير حقيقة إسرائيل؟
قارِن تصوير “هآرتس” الإيجابي لهرتسوغ بتغطيتها للرئيس الإسرائيلي اليميني السابق، رؤوفين ليتفين. كانت الصحيفة قد انتقدت، محقّة، الأخير في مناسبات مختلفة بسبب خطه السياسي الموالي لليكود ودوره الخلافي الذي أسهم في انقسام مشهد سياسي إسرائيلي ممزق مُسبقاً. ولكن، عندما أعلن ريفلين في تشرين الأول (أكتوبر) 2014 أن “المجتمع الإسرائيلي مريض، ومن واجبنا علاج هذا المرض”، رد عليه كاتب عمود في صحيفة “هآرتس” بانتقاد لاذع، مشيرًا إلى أن “تعليقات ريفلين تضج فعلياً بكراهية اليهود”.
وجاء في المقال: “أولاً، وصف (ريفلين) المجتمع اليهودي بأنه ’مريض‘- مستنسخاً المجازات المعادية للسامية عن اليهود باعتبارهم حاملين للأمراض الثقافية والأيديولوجية. ثم تساءل عما إذا كان اليهود ’بشراً محترمين‘: مشككاً في إنسانيتهم نفسها”.
بطبيعة الحال، فإن مرض “العنف، والعداء، والتنمر والعنصرية”، الذي أشار إليه ريفلين في ذلك الوقت، حقيقي للغاية. وتشمل الأعراض الأخرى لهذا المرض الرهيب أيضًا الاحتلال العسكري، والفصل العنصري، والعنف الهادف إلى الإبادة الجماعية من النوع الذي كثيراً ما يتعرض له قطاع غزة المحاصر.
في حين أن هذا “المرض” الإسرائيلي أصبح معروفًا على مستوى العالم، حيث تصفه منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” والعديد من المنظمات الأخرى بأشد العبارات صدقًا وصرامة، فإن الغالبية العظمى من المجتمع الإسرائيلي، بما في ذلك ممثلوهم ورئيسهم “لطيف الكلام” يتعامون عنه، ويظلون محجوبين عن الحقيقة بغطرستهم، مفتونين بقوتهم العسكرية، ومنتشين بالإذلال والعنف اللذين يتعرض لهما الفلسطينيون، في الخليل وغزة والقدس وفي جميع أنحاء فلسطين المحتلة.
لا توجد أي مؤشرات على أن المجتمع الإسرائيلي والحكومة ووسائل الإعلام -“الليبرالية” أو اليمينية- ستطور بمفردها الأجسام المضادة الضرورية التي ستعالج مرض العنصرية، والاحتلال العسكري، والفصل العنصري. نعم، ستكون المقاومة الفلسطينية في نهاية المطاف هي التي ستصنع الفارق الحاسم في تحميل إسرائيل المسؤولية. لكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا عندما يتخذ المجتمع الدولي موقفًا شجاعًا في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية ودعم مسعى الفلسطينيين إلى الحرية من دون قيد أو شرط.
وسواء أكانت من اليمين، أم اليسار، أم الوسط، ما تزال إسرائيل بكل تياراتها ملتزمة بتأكيد تفوقها العسكري وعنصريتها واحتلالها العسكري أكثر من أي وقت مضى. وكلما كنا أسرع إلى فهم هذه الحقيقة، وتوقفنا عن الاعتقاد الواهم بأن التغيير في إسرائيل سيحدث من الداخل، دنا أكثر ذلك الوقت الذي يحقق فيه الشعب الفلسطيني أخيراً العدالة التي يحتاجها ويستحقها.
*صحفي ومحرر موقع “ذا بالستاين كرونيكل”. وهو مؤلف لخمسة كتب، آخرها هو “هذي السلاسل سوف تُكسر: قصص فلسطينية عن النضال والتحدي في السجون الإسرائيلية” These Chains Will Be Broken: Palestinian Stories of Struggle and Defiance in Israeli Prisons، (مطبعة كلاريتي، أتلانتا). وهو زميل بحث أول غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية في جامعة الزعيم في إسطنبول.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: On ‘Gassing the Arabs’ and Other Diseases: Is Israel a ‘Sick Society’?
المصدر: (كاونتربنش) /الغد الأردنية