خمسة بيانات مشتركة للسعودية مع الدول الخمس لمجلس التعاون الخليجي، تجمع بينها، من جهة، رغبة خليجية في تطوير التعاون الدفاعي والاقتصادي والاستثماري لرفع مستواه ووتيرته بتحفيز القطاعين العام والخاص، وتشير، من جهة أخرى، الى إرادة في استكمال الوحدة الاقتصادية لضمان مصالح مجلس التعاون ومكتسباته و”تجنيبه الصراعات الإقليمية والدولية”، فضلاً عن تلبية تطلّعات مواطنيه. في المقابل، تطمح البيانات لـ”بلورة سياسة خارجية موحّدة وفاعلة” ظهرت مؤشّراتها في المواقف المثبتة من سبع قضايا عربية ساخنة ومتفاعلة حالياً، بالإضافة الى الوضع في أفغانستان.
وعموماً، يُفهم من جولة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، عشية القمّة الخليجية الثانية والأربعين، أن الرياض تريد استكمال مسار المصالحات الذي أقرّ في القمّة السابقة في العُلا، والذهاب أبعد في تحقيقه، فلا يُسمح لأي خلافات بأن تعرقل المصالح الاقتصادية.
ثمة فوارق بسيطة في ما يتعلّق بالبلدان العربية المأزومة، وليس كلّها، تدلّ الى اهتمامات خاصة لدى هذه العاصمة الخليجية وتلك. لكن البيانات المشتركة أظهرت ما يمكن اعتباره توافقاً خليجياً حيال مختلف القضايا. فالمواقف واحدة بالنسبة الى القضية الفلسطينية (مرجعية المبادرة العربية للسلام)، والأزمة اليمنية (حل سياسي شامل وفقاً للمرجعيات الثلاث المعروفة، فضلاً عن المبادرة السعودية)، والعراق (ترحيب بالعملية الانتخابية وتمّنٍ بتشكيل حكومة تواصل العمل للأمن والاستقرار والتنمية)، والسودان (ترحيب بالتفاهمات الأخيرة بين العسكريين ورئيس الحكومة)، وسوريا وليبيا (ترجيح الحلول السياسية وإنهاء المعاناة الإنسانية).
أما في ما يخصّ لبنان فيظهر بعض من التعديل، إذ اعتُمدت الصيغة السعودية – الفرنسية التي دعت الى الإصلاحات الشاملة المطلوبة، مركّزةً على “حصر السلاح بالمؤسسات الشرعية” و”ألّا يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابية [أو حاضنةً للتنظيمات والجماعات التي تستهدف أمن المنطقة واستقرارها كحزب الله الإرهابي]، أو مصدراً لآفة المخدّرات المهدّدة لسلامة المجتمعات في المنطقة والعالم”، كما وردت في البيان مع الإمارات. وفي هذا البيان نفسه، ورد أيضاً “وقف التدخّلات والمشاريع الإقليمية التي تهدّد وحدة سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها”، وإشارة الى ضرورة “خروج المرتزقة والقوات الأجنبية” من ليبيا، كذلك التنديد في بند أفغانستان بـ”أعمال تستهدف تجنيد اللاجئين الأفغان في مناطق الصراع المختلفة”.
تشير النقطة الأخيرة الى تجنيد إيراني للاجئين، وتُعتبر ميليشيا “فاطميون” نموذجه الأبرز في سوريا، حيث يجري توطين عناصر منها وتجنيسهم مع عائلاتهم، خصوصاً في الشمال الشرقي. غير أن دول الخليج تتبنّى صيغةً موحّدةً تختصر مواقفها من الخلاف الأكبر مع إيران، إذ تؤكّد “أهمية التعاون والتعامل جدّياً وبفاعلية مع الملف النووي والصاروخي لإيران بمكوّناته وتداعياته كافة، وبما يُسهم في تحقيق الأمن والاستقرار” إقليمياً ودولياً. كما تشدّد على “مبادئ حُسن الجوار واحترام القرارات الأممية والشرعية الدولية، وتجنيب المنطقة كل الأنشطة (والتدخّلات) المزعزعة للاستقرار”. ويضيف البيان السعودي – الإماراتي دعوةً الى “الأطراف المعنية (في مفاوضات فيينا، بما فيها إيران) بمراعاة مصالح دول المنطقة وأمنها واستقرارها”.
على رغم أن هذه الصيغة بالغة الدبلوماسية والبديهية، ولا توصد أبواب الحوار، إلا أن إيران لاقتها بموقفها الاستعلائي التقليدي، بعدما التقطت الإشارات المباشرة وغير المباشرة الى أنشطتها في اليمن ولبنان، كما في سوريا والعراق، كذلك الرسالة في شأن برنامجيها النووي والصاروخي. بل إنها استشعرت في جولة الأمير محمد بن سلمان والبيانات المشتركة ما يعاكس الانطباع الذي تحاول نشره وتعميمه بأن دول الخليج منقسمة حيالها، أو بينها وبين السعودية. ويظهر الاستعلاء في “نصح الجيران” في هذه الدول بـ”التصرّف بنضج وعقلانية في تصريحاتهم وكلامهم، بمقدار ما ينبغي أن يركّزوا على تصحيح سياساتهم”، كما قال الناطق باسم الخارجية الإيرانية، علماً بأن إبراهيم رئيسي يكرّر في كل مناسبة أن “تصحيح” العلاقة مع الجيران من أولويات حكومته. وليس لمن يريد أن “يُصحّح” أن يُستفَزّ حين يذكّره الجيران بأنه زرع أزمات في الإقليم ومطلوبٌ منه أن يساهم في حلّها بالتعاون معهم، وليس بدعوتهم الى قبول الأمر الواقع الذي فرضه ويسعى الى إدامته.
تنعقد القمة الخليجية المقبلة عند منعطف نهاية العلاقة الاستراتيجية مع “الحليف” الأميركي الذي يتخفّف من التزاماته في المنطقة – وهي لم تكن مجانية في أي حال – وبداية الانفتاح الاستراتيجي على الدول الإقليمية، تركيا وإيران وإسرائيل. ولعل الهدف الأول لهذه القمة تحقّق في جولة ولي العهد السعودي، إذ ثبّتت أولوية تماسك مجلس التعاون الخليجي بالعلاقات التاريخية بين دوله والمصالح الاقتصادية التي تربط بينها ويمكن تعميقها وتطويرها. وبالتالي فإن مبدأ “تصفير المشكلات”، على صعوبته، يمكن أن يسود داخل مجلس التعاون بوتيرة سريعة وسلسة، لأن وحدة مواقف دوله تجعله صالحاً للتطبيق مع دول الإقليم كافةً. ولا داعي للعودة الى فكرة “الاتحاد”، كما طُرحت سابقاً، بل الأَولى أن يُصار الى تأكيد المفاهيم التي تأسس عليها المجلس وتفعيل أطر عمله الحالية وتطويرها، للوصول عملياً الى الحال الوحدوية التي توجب على الدول الإقليمية الثلاث أخذها في الاعتبار. أما الحال الراهنة فلا توحي بوجود “ندّية” خليجية استراتيجية، ولا “ندّية” عربية استطراداً، تجاه تلك الدول.
ستبقى منطقة الخليج موضع استهداف، كما كانت دائماً، لكن الجديد أنها للمرّة الأولى منذ عقود طويلة أمام تحدّي تأكيد الهوية والاعتماد على الذات، فلديها القدرات الاقتصادية والدفاعية من جهة، و”الانسحاب” الأميركي يمنحها فرصة تاريخية من جهة أخرى، فضلاً عن كونها حالياً صاحبة اليد العليا في قيادة الشأن العربي، ومهما فعلت إيران وتركيا وإسرائيل، فإنها لن تستطيع تجاوز الدور الخليجي. لكن فاعلية هذا الدور ستكون رهن تحرّك دول الخليج بحدٍّ أقصى من التنسيق والتوافق على قاعدة احترام مصالح بعضها بعضاً. معروف أن ثمة سياسات متفرّقة أقدمت عليها هذه الدولة وتلك في سياق تعاملها مع الظروف المتقلّبة، أو بحثاً عن أدوار وتمايزات خاصة، بل إن ثمة اجتهادات وتحفّظات توحي بوجود تناقضات داخل مجلس التعاون، لكن كل ذلك يمكن أن يكون أكثر جدوى متى وضع في إطار المصلحة الخليجية المشتركة. هذه المصلحة أساسية وحيوية، ليس فقط لاستقرار الخليج وأمنه، بل أيضاً للعالم العربي عموماً، إذ لا بديل من الدور الخليجي في حلّ نزاعات الدول العربية السبع المأزومة والتدخّلات الدولية والإقليمية فيها.
المصدر: النهار العربي