كان من حسن حظ سكان اللاذقية أن قصف مينائها، قبل يومين، لم يؤد إلى الدمار الهائل الذي أصاب بيروت في آب 2020، ووصف الانفجار حينها بأنه يشبه انفجاراً نووياً صغيراً. نرى في الحادثين حزب الله وإيران، وتضاف إليهما إسرائيل في الثاني.
إسرائيل واضحة في أنها لن تسمح بتمركز إيران وتوابعها في سوريا، ولا بتمرير الأسلحة إلى حزب الله عبر الأراضي السورية. بعد الهجوم الصاروخي الأخير تكون إسرائيل قد أضافت البحر السوري أيضاً إلى سلة أهدافها الحربية. كذلك هي واضحة بشأن تدخلها في الصراع السوري بقصر ذلك على الأهداف الإيرانية ـ الحزبلاهية، فهي غير معنية إذن بضرب أهداف تابعة للنظام السوري بالذات، وذلك لأن خيارها واضح بشأنه: أن يبقى على ضعفه المكشوف، أفضل لإسرائيل من سقوطه وفتح الباب أمام المجهول.
نحو 300 طن من نترات الأمونيوم خزنها حزب الله في مرفأ بيروت قبل سنوات، وأدى انفجارها، بالتضافر مع الفساد الحكومي وانسداد أفق ثورة تشرين الأول 2019، إلى «نهاية لبنان» كما يعبر كثير من اللبنانيين منذ ذلك الوقت، على ما في هذا التعبير من تهويل مفهوم ومشروع. قيل إن نترات الأمونيوم تلك كانت مخصصة كمادة أولية لتصنيع المزيد من البراميل المتفجرة التي دمرت نصف العمران في سوريا وقتلت مئات آلاف المدنيين. فأدى الإهمال «البيروقراطي» لحزب الله إلى حدوث الانفجار، فكانت «ذخيرة» البراميل الأسدية من نصيب سكان بيروت.
الجاني، حزب الله، بدلاً من الاتعاظ من مجزرة المرفأ هذه أو انكسار شوكته بالمعنى الأخلاقي، يستقوي على القضاء اللبناني لإبعاد القاضي المكلف بالتحقيق في الجريمة. بل بلغ به الأمر أن يعمل بروفا مصغرة لبداية حرب أهلية جديدة في بيروت ولبنان، فقط لوقف التحقيق القضائي الجاري، ثم لجأ إلى لعبته المفضلة في تعطيل تشكيل الحكومة في ابتزاز لوقف التحقيق إياه.
أما قصف ميناء اللاذقية الذي قام به الطيران الإسرائيلي من البحر، كما تلمّح صحيفة يديعوت أحرونوت، فقد استهدف حاويات فيها أسلحة إيرانية معدة للنقل إلى حزب الله في لبنان «بينها وسائل دفاع جوي» كما تفيد الصحيفة.
مذهل كم الطاقة والموارد والاهتمام التي توظفها إيران وصنيعها اللبناني في وسائل التدمير والقتل والخراب! نترات أمونيوم بآلاف الأطنان… أسلحة… متفجرات… مرتزقة… اغتيالات… استعداد دائم لخوض الحروب الأهلية، أو الانغماس فيها فعلاً، في سوريا واليمن والعراق ولبنان… مع نبرة عالية مهددة منذرة بالويل لكل من يعترض على هذا الخراب العام الذي ينتج عن أنشطتهما. ويتطاير البصاق من فم «قائد المقاومة» وهو يتوعد إسرائيل في كل مناسبة، لكن إجرامه يطال الجميع باستثناء إسرائيل. «طريق القدس» يمر في بيروت وحلب ودمشق وحمص ودير الزور، لكنه لا يتجه جنوباً على الإطلاق، كأن سيد المقاومة يمشي على خطا كريستوف كولومبس الذي اتجه، من شواطئ البرتغال غرباً بهدف الوصول إلى الهند في الشرق.
ليس اكتشافاً جديداً هذا الكلام عن المفارقة الفاجعة بين ادعاءات «محور الممانعة» وأعماله الإجرامية بحق شعوب المنطقة. ولكن من المحتمل أن مرور الزمن وتراكم الجرائم، من اغتيال حسين مروة ومهدي عامل إلى قتل المدنيين السوريين طوال السنوات السابقة، مروراً باغتيالات رجال السياسة والثقافة في لبنان وتفجير مرفأ بيروت، وابتزاز اللبنانيين الدائم بسلاحه… من المحتمل أنه أدى إلى انكشاف كامل لأي غطاء ديماغوجي من نوع الممانعة والمقاومة، ليس بالنسبة لخصوم إيران وحزب الله وعصابة الأسد، بل كذلك لدى القواعد الاجتماعية لهذه القوى.
في لبنان ظهر هذا جلياً حين هتف متظاهرو حزب الله في الشوارع «شيعة! شيعة!» في عودة صريحة إلى حقيقة الممانعة المزعومة التي هي ممانعة لأي حياة طبيعية، لا لإسرائيل أو غيرها من الشياطين المزعومة. انكشاف الدور الحقيقي لمحور الممانعة هذا ليس مما يدعو للتفاؤل، لأنه يكشف في الوقت نفسه عن عمق الانقسامات الاجتماعية في كل دولة من الدول المبتلية بهذا المحور. كانت ثورة 2019 في لبنان محاولة شجاعة لتجاوز هذه الانقسامات، لكنها كانت محكومة بالفشل بسببها، أو بسبب الثنائي الشيعي وحلفائه.
أما في سوريا فالوضع أكثر تعقيداً وضبابية. لا أحد يمكنه الجزم بمدى اتساع القاعدة الاجتماعية للنظام، أو هل بقي منها شيء بعد سيطرته على مساحة واسعة من الأراضي السورية منذ بداية التدخل العسكري الروسي، وبعد تفاقم شروط الحياة بصورة مخيفة في هذه المناطق. لكنه، في كل الأحوال، ما زال قادراً على تجنيد الرجال للقتال في حروبه التي لا يمكن أن تنتهي، وما زال يتمتع بمساندة طبقة مستفيدة من بقائه في مختلف مجالات النشاط (أمراء حرب، تجار، فنانون ومثقفون، بيروقراطية الأجهزة الإدارية وغيرها). ولكن بصرف النظر عن الضبابية في معرفة حجم الولاء الاجتماعي للنظام، السوريون منقسمون بعمق على أسس سياسية وطائفية وقومية، وفي الارتهان لقوى أجنبية، فضلاً عن الانقسام الجغرافي بين مختلف دويلات الأمر الواقع والمهاجر في أنحاء العالم.
كل هذه الانقسامات المكشوفة لا تمنع مختلف القوى من الاستمرار في مزاعم أيديولوجية بلا أي رصيد من الواقع. أي أن انكشاف الغطاء الأيديولوجي حتى في نظر الكتل الاجتماعية المستهدفة به، لا يؤدي إلى توقف الفاعلين السياسيين عن استخدامه كأداة حشد، وتبرير، واستقطاب.
المصدر: القدس العربي