ضياع الثورة السورية..بين السياسيين والعسكر

العقيد عبد الجبار العكيدي

لا يمكن التفريق بين الحرب والسياسة، فالسياسة كما يقول المؤرخ والكاتب الفرنسي أرنست رينان: “حرب باردة والحرب سياسة ساخنة”. وبالتالي فان الحرب تمثل ذروة الصراع السياسي وأداة من أدواته، والصراع بكل أشكاله، ومنها الصراع العنيف (الحرب) بدون سياسة مجرد عبث، إذ أن السياسة هي من ترسم مسارات الحرب وتحصل النتائج لتصنع المكاسب.

بالنظر الى المسارين السياسي والعسكري في الثورة السورية، نجد أن الانطلاقة العفوية للثورة في ربيع عام 2011، وعدم خضوعها لقيادة مركزية، وغياب قوى سياسية على الأرض قادرة على توجيه الحراك الثوري، ترك الثورة تحت سيطرة العفوية والعمل الارتجالي، وكان استخدام النظام للقوة العسكرية المفرطة في التصدي للحراك السلمي ومجابهة المتظاهرين بالعنف من اليوم الأول، العامل الأساسي في خيار الثوار الاضطراري بالانتقال الى حمل السلاح كحالة دفاع عن النفس، وحماية أنفسهم بالدرجة الأولى. وقد أدى استمرار الثورة دون قيادة حقيقية ميدانية إلى أن يكون نشوء مجموعات مسلحة ضمن الحراك الثوري سهل وسريع جداً.

عندما تشكل أول كيان سياسي للثورة، وهو المجلس الوطني السوري، في بداية تشرين/أكتوبرأكتوبر 2011، كانت مشكلته الأساسية عدم مقدرته على مد جسور تواصل  حقيقية بينه وبين الحراك العسكري الذي بدأ يتصاعد، مما جعل هذا الحراك معزولاً إلى حد كبير عن الكيانات السياسية، وبقي المجلس عاجزاً عن إقامة أي شكل من اشكال التنسيق مع الحراك العسكري في الداخل لعدة أسباب، كان أهمها، أنه على الرغم من انحياز أعضاء المجلس منذ البداية للثورة، وكان لكثير منهم تاريخ عريق في مقارعة نظام الاستبداد في دمشق خلال حكم الأسدين الأب والابن، ألا أن المجلس لم يأتِ بإرادة ثورية، إنما كان نتاج توافقات دولية وإقليمية، بما يسمى آنذاك “أصدقاء الشعب السوري”، وكان لتواجد مقره في مدينة إسطنبول بعيداً عن الساحة الثورية، بالغ الأثر في زعزعة ثقة  الثوار به.

بالإضافة الى ذلك، كان لدى بعض أعضاء المجلس وغيره من القوى السياسية المعارضة شكل من التعالي النخبوي الذي أثّر بدوره على التواصل بين هذه القوة وبين الثوار في الداخل، إلى جانب تعويلهم على التدخل الخارجي لإسقاط النظام، إلى درجة أن بلغ الوهم ببعضهم حدّ الاعتقاد انه خلال فترة قصيرة سيكونون على رأس السلطة في دمشق، أسوة بالمجلس الانتقالي الليبي، ولعل هذا السلوك جعل الفجوة تكبر وتتسع بين السياسي والعسكري,

عندما تشكّل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2012، سار الجسم الجديد على نفس النهج، فانشغل بصراعات بينية بين كتله السياسية، وبناء تحالفات دولية يغلب عليها الطابع المصلحي الشخصي أو الحزبي، بينما كانت القوى العسكرية الثورية تشهد التطور والنمو السريع، وتحقيق الانتصارات الميدانية على الأرض في مواجهة آلة النظام العسكرية ، ما جعلها تشعر بنشوة تلك الانتصارات، وعِظم القوة التي أصبحت تمتلكها، لدرجة أصبح بعض قادة الفصائل يفكرون أنهم الأحق في القيادة من السياسيين “القابعين في فنادق إسطنبول”.

ما كرس هذا الواقع كان رفض الائتلاف ضم ممثلين للقوى العسكرية التي كانت مجتمعة في مدينة أنطاليا التركية، في بداية كانون الأول/ديسمبر 2012، بهدف تشكيل هيئة الأركان ومجلس القيادة العسكرية العليا للجيش الحر (مجلس الثلاثين)، رغم أن الائتلاف ضمّ فيما بعد ما سُمي بكتلة الأركان، ألا أنه كان خياراً لخدمه مصالح انتخابية، عمقت الفجوة أكثر.

في بداية تحول الصراع في سوريا إلى العسكرة الشاملة، كانت الحرب بين فصائل ثورية وطنية اضطرت لحمل السلاح للدفاع عن المتظاهرين السلميين، وبين قوات النظام العسكرية والأمنية والتشبيحية. أي ضمن محددات سورية ذات طابع سوري، ولكن ما لبث أن تعقد المشهد وأصبح مركباً بتدخل قوى أخرى تحمل أجندات غير وطنية، وإيديولوجيات عابرة للمسألة السورية، بعيدة عن مطالب الشعب الذي انتفض لنيل حريته والانتقال الى دولة المواطنة والقانون، من خلال التغيير السياسي.

في غفلة من الجميع (العسكريين والسياسيين)، كان نجم التنظيمات والفصائل المتشددة ينمو ويتصاعد بسرعة، ما أجبر فصائل الجيش الحر على الدخول في مزاودات دينية معها، كان من تجلياتها إطلاق تسميات ومصطلحات عمقت الانقسام مع الائتلاف، فانتشرت مقولة “ثوار الخنادق وثوار الفنادق”، لكن الأكثر أهمية حدث مع إعلان فصائل عسكرية في حلب في بيان مصور، في 20 تشرين الثاني 2012، رفض الائتلاف، وإعلان دولة إسلامية، وبعدها بأيام تم تسمية معركة تحرير كلية المشاة في حلب “معركة ثوار الخنادق” في رسالة واضحة لمن يعتبرونهم ثوار الفنادق.

بالنظر إلى كل العملية السياسية في سوريا، منذ خطة النقاط الست التي وضعها المبعوث الدولي كوفي عنان، ولغاية المفاوضات الجارية حالياً على مسار اللجنة الدستورية سنجد أمامنا حقيقتين أساسيتين:

الأولى، اختلاف طبيعة الصراع العسكري وتحولاته على الأرض، عن تحولات العملية السياسية طيلة تلك الفترة. فلم تكن الجهود الدولية لوقف جرائم النظام بحق الشعب السوري ذات أولوية بالنسبة للمجتمع الدولي، الذي أدار العملية السياسية دون ممارسة أي ضغوط حقيقية على النظام لإجباره على ذلك أو الجلوس الى طاولة المفاوضات بشكل جدي.

الحقيقة الثانية، أنه بعد التدخل الإيراني والروسي بدأ يتغير شكل الصراع العسكري على الأرض ويأخذ طابع الصراع الإقليمي والدولي، وتم استخدام المعارضة والنظام وحتى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، من أجل إدارة خلافات وتوافقات الدول المتداخلة بشكل مباشر في القضية السورية، فكان مسار أستانة بداية العام 2017، الذي شكّل منعطفاً حاسماً في سيرورة الثورة السورية، من حيث قدرة هذا المسار على احتواء كل أشكال المقاومة المسلحة لدى المعارضة، وعكس بشكل واضح مصالح واعتبارات الدول الأساسية المتدخلة، أكثر من أن يكون مساراً يعكس إرادة الأطراف المشاركة في الصراع على الصعيد السوري.

وكان قد سبق هذا المسار التحكم بالعمل العسكري وتوجيهه من خلال الدعم الخارجي العسكري المقدم للفصائل العسكرية من غرفتي عمليات (الموم والموك)، والذي كان لأغراض أخرى ليس من بينها إسقاط النظام، وبالتالي لم تعد القوى السورية المشاركة في الصراع العسكري على الأرض هي من تحدد شكل ونوعية هذا الصراع، مما يبين حجم الفجوة التي اتسعت وتعمقت ما بين المسارين السياسي للقضية السورية والعسكري متعدد الأبعاد، والذي أصبحت معه التبدلات في موازين القوى على الأرض تعكس نقاط الربح والخسارة للدول المشاركة في هذا الصراع، فيما بقيت العملية السياسية والتفاوضية تفتقد إلى أي تأثير على المسار العسكري وتجذف  في بحر آخر لا يمت للواقع على الأرض بأي صلة، وكأننا امام مسارين منفصلين لا رابط بينهما إلا ضمن الخطاب الشكلاني للمجتمع الدولي.

بقي الفصل بين المسارين قائماً ولكن هذه المرة كان بفعل السياسة الروسية التي استطاعت من خلال مسار أستانة احتواء الفصائل العسكرية، بفضل تحالفاتها مع الدول الراعية لذاك المسار، ومنذ بداية هذا المسار أصبحت الكيانات العسكرية المنضوية ضمنه تخضع خضوعاً كاملاً لمقتضيات هذا المسار وبذلك أصبح دورها وظيفياً لا يختلف عن الدور الوظيفي الذي تؤديه الكيانات السياسية.

في حالة الثورة السورية التي نتجت عن فعل جماهيري، كان منتظراً من النخب السياسية والقيادات العسكرية أن تراكم الجهود الثورية بكل أنساقها الجماهيرية والعملياتية، وتحولها إلى فعل موحد ومنظم وموجه للوصول إلى الغايات التي قامت من أجلها الثورة، والتي تمثل طموح كل سوري بإسقاط النظام وإقامة دولة العدل والقانون، ولكن ما أصاب الثورة في مقتل كان الافتراق بين المسارين السياسي والعسكري مبكراً، منذ اللحظة التي فشل فيها ساسة المجلس الوطني في إقناع قوى الثورة المسلحة بأنفسهم وبمجلسهم، وصولاً إلى مسار اللجنة الدستورية الذي تجاهل القائمون عليه رفض جمهور الثورة له ومطالبتهم بوقف جولاته العبثية، والانتقال الى تطبيق القرارات الدولية التي تفضي الى الانتقال السياسي عبر هيئة حكم انتقالي.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى