من “الاتحاد السوفيتي” إلى “روسيا الاتحادية”، لا يلحظ المرء تغيُّراً سياسياً جوهرياً في مُقارَبة تلك البلاد وسياستها للقضايا الداخلية والخارجية.
اليوم تدّعي انتقالها إلى رحاب الديمقراطية؛ ولكن الواقع يقول: إنه كما كانت الدكتاتورية نهجاً في السابق، هي اليوم ممارسةً مغلَّفةً بمجلس للدمَى، وإعلام يقول كل شيء يخرج من رئتي بوتين ومن يعمل عنده. فمن يقول له “لا”، لا يختلف مصيره عمّن يقول “لا” لبشار الأسد أو لدكتاتور كوريا الشمالية.
روسيا بوتين وماكينتها الإعلامية تصوّر الموقف الروسي سلطوياً وشعبياً تجاه ما يحدث في سورية نسخة عن تصويره من قِبل سياسيّي ومخابرات وشبيحة منظومة بشار الأسد.
فبالنسبة لآلة إعلام بوتين والجهات الروسية المسؤولة عن السياسة والدعاية والرأي، كما يُرى ويُسمَع في تصريحاتهم: “نظام بشار الأسد شرعي”؛ “يقاوم الإرهاب والمؤامرة الأمريكية”؛ و “لا بديل له”؛ و”روسيا تقاتل الإرهاب في سورية، وتحديداً داعش”؛ وتساعد “الشرعية”؛ ولا تقبل أن يتدخل الخارج بالشؤون السورية؛ لأن نية الخارج استعمارية تقسيمية تدميرية؛ و”الفيتو الذي استخدمته روسيا مرة تِلْوَ الأخرى في مجلس الأمن، لم يكن إلا لإحباط المخططات الإمبريالية للتدخل في الشؤون السورية واستهداف شرعية حكومة الجمهورية العربية السورية”.
أما المعارضة بالنسبة لهم؛ فإن لم تكن “مجموعات إرهابية”، فهي “عناصر مشتتة من أدوات تشغلها قوى خارجية. أما الشعب السوري؛ فروسيا هي التي “تساعده بتخليصه من الإرهاب؛ وتقدّم له الإغاثة؛ وتجري «المصالحات»؛ وهي التي تعقد له مؤتمرات لحل سياسي، ولعودة اللاجئين، وعلى حسابها الخاص”.
بناء على هذه الرؤية المنفصمة، وعلى هذه السَّرْدِيَّات “الغُوبلِزِيَّة” المُطَعَّمة بالوقاحة؛ لا بد من الوقوف على سَرْدِيَّة تتناقض تماماً مع رؤية الروس والنظام لمجمل الصراع في سورية.
تلك السَّرْدِيَّة لا ترى في الوجود الروسي في سورية إلا احتلالاً؛ ولا ترى في إعلان بوتين تجربته مئات أصناف السلاح في الساحة السورية وعليها إلا تصرفاً إجرامياً بحق سورية وشعبها؛ وتعتقد أن استهداف روسيا للإرهاب المتمثل بداعش لم يزد عن 3% من حِمَم النار التي أسقطتها على سورية، والنسبة الباقية كانت على مدنيين سوريين، وقد يكون آخِرها منذ ساعات في الشمال السوري؛ وأن “فيتوهات” بوتين في مجلس الأمن لم تكن إلا لحماية إجرام النظام؛ وأن كل مساعيه لإعادة تكرير منظومة إجرامية، ليس إلا لمصالح خاصة، واحتقار لسورية والسوريين.
تناقُض السرديات والمسلكيات هذه ساهم بمُفاقَمة تعقيدات القضية السورية؛ فالروس الذين تصوَّروا بأن يدهم هي العليا في هذه القضية، وجدوا أن عليهم إرضاء ألف جهةٍ وجهةٍ لتحقيق هدفهم.
والمُفارَقة أن الطرف الأصعب والأخطر بين كل تلك الجهات ليس إلا إيران، حليفتهم وشريكتهم في الهدف الأسمى لهم في سورية، وهو الإبقاء على “النظام”، حتى ولو في حالة موت سريري. فرغم ترحيب إيران ببعض الانفتاح الذي تسعى روسيا لتحقيقه لهذا النظام في محيطه؛ إلا أنها تعرف أن ذلك مشروط بحصار إيران أو خروجها من سورية.
والفاعل الأساس وراء هذه التحركات ليس إلا حليفها الروسي على الأرض السورية؛ حيث إن الأسد يستحيل أن يطلب منها ذلك.
ودليل إيران القاطع على ذلك، ارتفاع منسوب الغارات الإسرائيلية مؤخراً على بعض تمركزات ميليشيات إيران في سورية، إثر اللقاء الأخير لرئيس وزراء إسرائيل الجديد وبوتين.
التناقض الصارخ الذي ساهم المساهمة الأكبر فيما آلت الأمور إليه في سورية هو هذا التحالف بين قاطع طرق “أزعر” طَمُوح وخَبِيث حاقِد مُجرم.
والأمر الطبيعي أن يكون الشك وعدم الثقة هو النسيج الصانع لهذه العلاقة التي ستصل إلى النهاية الحتمية.
ومن هنا يستحيل أن تكون يد روسيا هي العليا في سورية مع الوجود الإيراني؛ ويستحيل على الملالي أن ينجزوا مخططهم، ويد روسيا هي العليا. فما هو طيّب المذاق لأحدهما، سُمٌّ زُعاف للآخر. لقد باتت إيران تستشعر أن الخطر الأكبر على مشروعها في المنطقة لن يكون إلا روسي الصناعة والتدبير؛ فهل نشهد صحوة من نوع ما أو تغيّراً دراماتيكياً ينقل القضية السورية من حال إلى حال، في وقت تعرف موسكو أكثر من غيرها أن النظام وإيران واحد؛ وذهاب أحدهما أوتوماتيكياً يعني ذهاب الآخر؟!
صحيح أن روسيا فعلت ما فعلت عسكرياً في سورية، وحمت “النظام” في المحفل الدولي سياسياً، وسوّقت سَرْدِيّات متناقضة تُجافي حقيقة وجوهر الصراع في سورية؛ ولكن إيران، أيديولوجياً وديموغرافياً واقتصادياً، أوصلت الأمور للإفقار والمخدرات؛ بحيث أضحت أمنية مَن في الداخل السوري الخروج من مكان ليس له غيره؛ فإن أكملت روسيا ما تتضح معالمه كقرار بفك هذا الترابط غير المقدس، فستحدث القفزة الدراماتيكية في القضية السورية.
وبذا تكون روسيا قطعت الطريق على ما تتصوره تدخُّلاً أمريكياً معطِّلاً، وأرضت إسرائيل التي تطمح لعلاقة متميزة معها، وأراحت دول الخليج وأشعرتهم بشيء من الطمأنينة، واقتربت من منجز سياسي تتطلع إليه، حتى ولو أخذ بطريقه منظومة استبدادية، طالما قالت إنها ليست في سورية من أجلها.
المصدر: نداء بوست