“تخلي” واشنطن عن حلفائها العرب مترجرج

وليد فارس

أتت خسارة فرجينيا للحزب الديمقراطي كإنذار لفريق بايدن من الناخب الأميركي.

كتبت “نيويورك تايمز” أن حلفاء أميركا العرب قلقون من تخلي واشنطن عنهم في وجه إيران، ويعملون على إيجاد سياسات بديلة لحماية أنفسهم، ترتكز على التراجع والتخلي عن الصدام مع إيران، جاء ذلك في مقال نشرته هيلاين كوبر، مندوبة البنتاغون للصحيفة نفسها حول خطاب وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في المنامة في المؤتمر الأمني الدولي، حيث كان يطمئن العرب على ثبات الإدارة في الدفاع عن الحلفاء، وذكر المقال كإثبات أن الإمارات “تطرّي خطابها تجاه إيران”، كما ذكر خبراء في مواقع إخبارية عدة أن انفتاح أبو ظبي على دمشق، أو الحوار بين السعودية وإيران عبر العراق، هي “إثباتات” أن العرب “يحمون أنفسهم بالهرولة لمد الجسور مع المحور الإيراني”، ويعلل أنصار الاتفاق النووي الإيراني عبر مقالات، كتلك في “نيويورك تايمز”، أن القلق العربي من تخلي إدارة جو بايدن عن حلفائها سيدفع بالحكومات العربية لنوع من الاستسلام التدريجي للأمر الواقع الذي تفرضه واشنطن.

لكن “نيويورك تايمز”، والخبراء، لم يُعلموا قراءهم أن التحالف العربي ليس بهذه السذاجة ولا بهذه البساطة، وأنه يفهم ما هو الواقع، وما هي “البروباغندا” الإيرانية، وأهم من ذلك، ما هي تعقيدات السياسة الأميركية والإقليمية. ما لم تشير إليه الصحيفة مثلاً، هو تعاظم المشاريع الدفاعية بين الإمارات وإسرائيل، والتي تحسب في خانة التوازن الاستراتيجي للمنطقة مع إيران، وما لم تشر إليه الصحيفة أيضاً، هو تقدم قوات التحالف، بقيادة السعودية على محاور المجابهة مع الميليشيات المدعومة من طهران في اليمن، والمناورات المشتركة بين دول التحالف من الولايات المتحدة، إلى فرنسا وإسرائيل واليونان وغيرها، لذلك يمكن قراءة ما ينشره جزء من الإعلام الأميركي كضغط نفسي على التحالف، أي نوع من “تهبيط جدران” بسيكولوجي، لا يرتكز كلياً على الواقع.، إذاً، يأتي السؤال الكبير ومشتقاته: هل قد تتخلى واشنطن عن حلفائها في الشرق الأوسط لصالح الاتفاق النووي، هكذا وبكل بساطة؟ وتأتي أسئلة بعد ذلك: ماذا ستفعل المنطقة إذا حصل ذلك؟ وماذا قد يمنع واشنطن من ذلك؟ ما هي السيناريوهات الممكنة، ولو نظرياً؟

أجندة “لوبي التخلي”

أسئلة معقدة يصعب الرد عليها من دون تعمق في معادلات المنطقة وأروقة واشنطن، بالتلخيص، نعود على ما كتبناه سابقاً وحاضرنا حوله لدى مؤسسات العلاقات الخارجية والأمن القومي لسنوات، وهو أن اللوبي الإيراني ولوبي الاتفاق النووي قد التحما لإنشاء “لوبي التخلي”، أي الضغط المستمر لكي تتخلى واشنطن عن كل حلفائها في الشرق الأوسط، الذين يقفون حاجزاً أمام تحقيق أهداف النظام الإيراني في المنطقة، وهم عملياً التحالف العربي بقيادة السعودية، وإسرائيل، والمعارضات والمقاومات العربية والمشرقية ضد طهران. وهذه الأجندة التي تتمول بطريقة أو أخرى من مصالح الاتفاق النووي، قد باشرت بضغطها الأكبر منذ أن فتح الرئيس السابق باراك حسين أوباما خطاً مع الخامنئي في يونيو (حزيران) 2009، تحول في ما بعد إلى جسر أوصل الطرفين إلى “اتفاق نووي” حرر أكثر من 150 مليار دولار للنظام في طهران، ما وفّر قدرات أكبر لإيران بأن توسع نشاط “اللوبي” عالمياً، ما يفسر شعور التحالف العربي ومعارضات السيطرة الإيرانية بأن نفوذاً أكبر بات يتصاعد في واشنطن للتخلي عن “الحلفاء” في المنطقة لصالح طهران.

الحلفاء قلقون

“الشعور بالتخلي” عبّر عنه مثقفون، وصحافيون، وكتاب، ومسؤولون، وسياسيون، ونشطاء عبر المنطقة، من دول الخليج، والعراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، بالإضافة إلى المعارضة الإيرانية، ولكن الحكومات امتنعت عن التعبير عن انتقاد علني أو تململ، لأسباب دبلوماسية وللحفاظ على قنوات التواصل مع واشنطن ولتجنبها الدخول إلى النقاشات الداخلية الأميركية، وأيضاً بأمل أن تتغير هذه السياسة مع الوقت.

مؤشرات التخلي

وبدأت المنطقة تلمس رياح التخلي لصالح إيران منذ يونيو (حزيران) 2009 بعد رسالة أوباما إلى خامنئي التي فتحت الحوار بين إدارته والنظام، وجاءت في الشهر نفسه الذي خطب به الرئيس الأميركي وقتها في القاهرة فاتحاً الحوار مع “الإخوان”، ما أكد أن “التكويع” الأميركي كان استراتيجياً في المنطقة، وبدأت المؤشرات تمطر لسنوات، بدءاً بعدم وقوف واشنطن فوراً مع السعودية عندما بدأت حرب الحوثيين على المملكة، وتصاعد ضغط اللوبي على الرياض في واشنطن، وكذلك، تمكّن المؤيدون للوبي من التأثير في ملفات أخرى في المنطقة، ومنها: تصاعد الانتقادات الأميركية للبحرين والإمارات داخلياً، ومن ثم السماح للميليشيات المؤيدة لإيران أن تسيطر على العراق، واستعداد الإدارة عبر كلينتون، وكيري، وبيلوسي، لتعويم نظام الأسد، أما حيال لبنان، فالسياسة الأميركية تحت أوباما، وكأنها كانت ساكتة عن سيطرة “حزب الله” على البلاد وقابلة بـ “الستاتيكو”، وكأن الأمر طبيعي على الرغم من القرار الأممي 1559 الداعي لتجريد سلاح الحزب.

المؤشرات تتراجع

مع انتخاب دونالد ترمب، بدأت إشارات التغيير في السياسة السابقة تتراكم. من إعلان الرئيس أنه سينسحب من الاتفاق النووي، صعوداً إلى وضع عقوبات كثيفة على النظامين الإيراني والسوري، والميليشيات الإيرانية في العراق ولبنان، إلى الانسحاب من الاتفاق وإنهاء تمويل النظام، وصولاً إلى نشر قوات ضاربة في المنطقة، إلى الرد على اعتداءات هذه الميليشيات في العراق، بما فيها عملية تصفية اللواء قاسم سليماني، القائد السابق لفيلق القدس، ووضع الحوثيين على لائحة الإرهاب، وربما الأهم استراتيجياً على الصعيد السياسي، تأليف تحالف دولي لمواجهة وعزل إيران، انطلق من مؤتمر “وارسو” في فبراير (شباط) 2019.

شعرت المنطقة، ولا سيما بعد قمة الرياض في يونيو 2017 أن واشنطن باتت باتجاه مغاير، بل متناقض مع سياسة أوباما تجاه إيران، واعتبر كثيرون أن هذا التغيير ينهي سياسة “التخلي” الأميركية بشكل حاسم ويستبدلها بسياسة التضامن، ووعدت إدارة ترمب بأنها ستكمل مسيرة عزل طهران بعد إعادة انتخابها، إلا أن أزمة الانتخابات الطويلة في نهاية خريف 2020 أدت إلى دخول جو بايدن البيت الأبيض.

ذبذبة 2021

إدارة بايدن وعدت الداخل الأميركي والمنطقة خلال الحملة الانتخابية، وأول أشهر من حياتها أنها لن تكون إدارة ثالثة لأوباما على صعيد السياسة الخارجية، بالتالي ليس بالضرورة أن تعود إلى الاتفاق النووي، أو إعادة الشراكة مع “الإخوان”، أو التخلي عن التحالف العربي، أو السماح للميليشيات الإيرانية باستكمال السيطرة على أربع دول عربية. وعلى هذا الأساس تواصلت الإدارة مع التحالف العربي وإسرائيل، في جو من “عدم التخلي” والتنسيق، أضف إلى ذلك رسائل دعم عسكري “للشركاء” في المنطقة عبر زيارات لوزيري الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي. على مائدة الإعلام والدبلوماسية العامة، الأجواء “تميل إلى التضامن”، ولكن في البعد الأعمق، أي عملياً، الأمور لا تزال “أوبامية” بمعنى أن التزام الإدارة الحالية بأهداف فريق عمل إدارة أوباما، بالشراكة مع طهران، لا يزال هو هو، بل يضيف البعض، أكثر ميلاً إلى تنفيذ الاتفاق، ولو من دون تغيير الميزان مع إيران، وهذا الواقع يبدو واضحاً من التطورات التالية:

أولاً، رفع الحوثيين عن لائحة الإرهاب وعدم معالجة بطاريات إطلاق الصواريخ البالستية ضد مناطق في اليمن والعمق السعودي، دعوة من اللوبي الإيراني للإدارة لعدم بيع ذخائر متقدمة للمملكة، وضغط من واشنطن على الرياض لكي تتخلى عن الحسم العسكري ضد الحوثيين، وناقضت هذه السياسة، سياسة ترمب، ولكنها عادت لتقترب من سياسة أوباما.

ثانياً، التهيئة للانسحاب من العراق من دون فكفكة “الميليشيات الإيرانية”، ما يعني التخلي عن المعارضة العراقية ضد إيران، بمن فيهم الشيعة الليبراليون، والسنة والأكراد والأقليات.

ثالثاً، عدم المس بـ “الستاتيكو” في لبنان، وعدم السعي لتنفيذ القرار 1559 لنزع سلاح الميليشيات الإيرانية، ما يعني تخلياً عن المعارضة ضد “حزب الله” عملياً.

رابعاً، وعلى الرغم من الكلام عن “مساوئ الاعتداءات الحوثية”، تبقى سياسة بايدن حيال اليمن في إطار “حوار متوازن بين الحوثيين والشرعية” من دون ضغط فعلي على تلك الميليشيات لتوقف هجماتها والانسحاب من العاصمة.

خامساً، تهيئة افتراضية لعودة التطبيع مع نظام الأسد.

سادسا وأخيراً، عدم دعم المعارضة الإيرانية بمختلف مكوناتها القومية والسياسية، الداخلية والخارجية، ما يعني التخلي عنها لصالح المفاوضات مع النظام.

أسباب التذبذب

عندما تُسأل، تنفي الإدارة أنها “تتخلى عن الحلفاء في المنطقة”، وتشير إلى مواقفها العلنية المتمسكة بحماية المنطقة، إلا أن الوقائع تذهب في اتجاه آخر، وهو وضع العودة إلى الاتفاق قبل الالتزام المطلق بالأمن القومي للشركاء، وهذه كانت مبادئ فريق أوباما لثماني سنوات، ولكن هناك فارق بين خطاب إدارتي بايدن وأوباما في هذا الخصوص، فالإدارة الحالية يبدو وكأنها تركز أكثر على نفي صفة “التخلي” عن سياستها، وتضع جهداً لإقناع الحلفاء بأنها جادة، وهناك أسباب استراتيجية لذلك، الإدارة ترى أن حلفاءها في المنطقة يتصرفون استراتيجياً وباستقلالية عن سياستها.

فالسعودية والتحالف مستمران بمواجهة الحوثيين من دون هوادة في اليمن، بخاصة في الأسابيع الماضية، ويقومون بذلك من دون دعم واشنطن، وإسرائيل تضرب الحرس الثوري في سوريا والعراق، وتستعد لاحتمال ضرب إيران نفسها، على الرغم من ضغط واشنطن عليها كي لا تستهدف الأراضي الإيرانية، ويرى البيت الأبيض أن مقاومة ميدانية لـ “حزب الله” قد بدأت في لبنان، والمعارضات العراقية مستمرة ضد “الحشد”، والمعارضة السورية متمسكة بمطلبها بتغيير النظام، والأكراد يبنون كياناتهم، والأقليات ترفع صوتها في الغرب، وأهم تطور مستمر هو تصعيد المعارضات الإيرانية لانتفاضاتها في الداخل.

بكلام ملخص، الإدارة ذاهبة إلى التسوية مع النظام الإيراني، وكل المنطقة تعبئ صفوفها لمقاومته، الأمر ليس مريحاً للرئيس بايدن وأنصاره في الكونغرس على أبواب الحملات السياسية لانتخابات الكونغرس التي ستنطلق بعد أسابيع، وأتت خسارة فرجينيا للحزب الديمقراطي كإنذار لفريق بايدن من الناخب الأميركي. المسألة دقيقة والأكثرية قد تذهب للجمهوريين، لذلك نرى تذبذباً في الموقف من الشرق الأوسط، لأن أية حسابات خاطئة في الخارج قد تطيح بالأكثرية التشريعية في الداخل.

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى