“المعلقة الأخيرة على جدار الجبِّ العتيق”

بسام شلبي

أنا يوسفُ يا أبي

إخواتي لم يقتلوني

وأنا من ألقيتُ نفسيَ في الجبّْ

أنا يوسفُ يا أبي

إخوتي لم يقتلوني

وكلّ ما تراه على قميصي

تزويرٌ.. وضربٌ من كذِبْ

إخوتي لم يدفعوني

ولم يتركونِ للذئبِ وحيداً

بل أنا من سوّلتْ لي نفسيَ أمراً

وسوّلتْ لي نفسيَ حلماً

تراءى أمام ناظريَّ واقتربْ

لما انشقت الشمسُ والقمر

وانجلتْ من سمائيَ السُحبْ

إخوتي لم يقتلوني

إخوتي لم يدفعوني

ولم يقنعوني..

وذهبوا يرتعون ويلعبون

يراقبونني من بعْدٍ عن كثبْ

و أنا أصرخُ.. أصرخُ

وحيداً في غياباتِ الجبّْ

مرَّتْ بي كلُّ السيّارةِ قاطبةً

و ألقى كلُّ واردهم دلْوَهُ

صاح: يا بشرايَ..ثم انسحبْ

باعوني بثمنٍ بخسٍ

كلماتٍ مصفوفاتٍ..

ومؤتمراتٍ معدوداتٍ..

وجلدوني طويلاً

ببياناتٍ و أشعارٍ.. وخُطَبْ

أوسعوني إجلالاً ومدحاً

قالوا: أنا أجمل شهيدٍ في الكونِ

و أرهف جريح في الكونِ..

أعذب أسيرٍ..

و أشرف فتاةٍ تُغتصَبْ

وغلّقن كل الأبوابِ

و راودنني عن نفسيَ

وقطّعن أيديَّ إكباراً

و قالوا: معاذ اللهُ

أن يخرج من هذا الخطب

أنا يوسف يا أبي

إخوتي لم يسمعوني

من وراء جدران السجنِ

ولم يصدّقوني

بأنّي رأيتُ الأرضَ تسجدُ لي

والكوكبَ و النجومَ والشُهُبْ

وأني رأيتُ ما لم ترى عينٌ

وسمعتُ ما لم تسمعه أذنٌ

وما لم يخطر على بال بشر

وأني رأيتُ الشمسَ والقمرَ

مني تقتربْ

ومني تضطربْ

و أني سمعتُ صراخيَ:

ربي.. اجعلني على خرائطِ الأرضِ

إني قويٌ مكين

وأنّي أبدع ما صنعتَ

و أجمل ما صنعتَ

و أنبل ما خلقتَ

سنابلُ القمحِ تنبتُ من تحت جلدي

وسبلاتُ القطن  فوق رأسي

وعينايَ زيتونتان

لا شرقيتان ولا غربيتان

تضيءُ ولو لم تمسسهما نارٌ

وعلى شفاهي تدلّتْ

عناقيدُ العنبْ

فترى الناس سكارى

وما هم بسكارى

فيا نار كوني برداً وسلاماً

فأنا المخلوق من نورٍ

لا يخيفه هذا اللهبْ

ولا يرهبه زبانيتها

ولا يثنيه أبو لهبْ

أنا يوسف يا أبي

إخوتي لم ينقذونيولم تشتفِ بعدُ حمّالةَ الحطبْ

تمثّل بجثتي عبثاً

وتلوك كبدي حقداً

وكيداً.. و غضبْ

لم يبقى في جسدي

موضع إصبعٍ لم ينله جرحٌ

ولم يبقى موضع أنملةٍ

في قلبي لم تُصَبْ

أنا يوسف يا أبي

أنا خليلكَ.. وأنا كليمكَ

أنا كلمتك.. ورؤياك.. ومُصطفاكَ

أنا فقيدك الذي ذهب

فهل ابيضّتْ عيناك من بعدي

وهل اسودّتْ دنياك من بعدي

وهل مازال  متسعٌ لصبرٍ جميل

أو صبرٍ قليل

قميصيَ قدَّ من قُبلٍ

وقدًّ من دُبرٍ

ومن كل حَدْبٍ وصوبْ

فاجمع أشلائي

والقي عليَّ صبركَ

قبل أن أن يرتدَّ إليك بصركَ

أفلا ترى دمي..

أفلا ترى دمعي..

أفلا ترى وجعي..

يمتدُّ سبعاً عِجافاً

يأكلنَ سبعةَ آلافٍ

خُضرٍ.. وبيضٍ وحُمْر

وسبعة آلاف حرفٍ

اخترعتُها و حفرتها فوق الصخر

في زمن الصمت الرهيب

وحفظتها عن ظهر قلبٍ

عصراً بعد عصر

على سبعِ قراءاتٍ

وسبعينَ مذهباً

فلم يضقْ بها الحِلمُ

ولم يضق بها الصدر

أنا يوسف يا أبي

فإذا خرجتُ من الجبِّ يوماً

فلا تثريب على كل الذئاب

التي نهشت قميصيَ ظلما

ولا تثريب على كل الأكف

التي قاتلت من أجل قميصي ثأرا

والأكف التي تاجرت بقميصيَ

والأكف التي راودت قميصي

كيداً..  رغبةً.. أو حباً جمّا

لا تثريب على إخوتي..

من نأى بالنفسِ

أو أمرَتهُ بالسوءِ..

ومن أظهر غير الذي ابطن

ومن للصمت قد أدمن

وأصَمَّ الآذانَ

وأغلق العينَ والفمَ

لا تثريب اليوم..

لا حقد.. لا عتبا ولا لوما

أنا يوسف يا أبي

رَوْحَكَ الذي يئِسَ منه الكافرون

وبلغوا منه اليوم سُقما

فأوف وعدك لي

و آتن حكما وعلما وحكمة

إنك انت مُحقق الرؤيا

ومصدق النبوأة

فأَتِمَّ عليَّ النعمة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى