حين يتعلق الأمر بوثيقة سياسية لا يمكن المرور ببساطة على مسألة ادخال مصطلحات جديدة تبدو في الظاهر وكأنها مجرد توصيف واقعي يسعى ليكون حياديا ومفتوحا، فالسياسة فعل واع وغائي، وادخال مصطلح جديد والترويج له هو في الحقيقة فعل سياسي، ومسألة صياغة الموضوعات السياسية تصبح لاحقاً مقدمة لتحديد الأرضية التي يتم فوقها النشاط السياسي، كما قد تكون محاولة لفرض أجندة محددة وتمريرها كأمر مسلم به.
يحق لنا التساؤل: ماذا يقصد اعلان دمشق في اعادة طرح مصطلح (مكونات الشعب السوري) الذي لقي سابقاً انتقاداً واسعاً حين أدرج للمرة الأولى في وثيقة الاعلان الأصلية، حيث جاء في البيان الأخير بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لإعلان دمشق ما يلي: (..وتوافقوا جميعاً على مبادئ وآليات…تبدأ إقامة النظام الديمقراطي الوطني.. لإنقاذ مجتمعنا من أزماته. والاعتراف بكافة قوى وفعاليات ومكونات المجتمع السوري واحترام تعدديته الاثنية والدينية..).
تظهر قراءة الفقرة السابقة ارتباطاً بين (الاعتراف بمكونات المجتمع السوري) و (احترام تعدديته الاثنية والدينية) وكأن العبارة الثانية جاءت خصيصاً لشرح وتوضيح العبارة الأولى أي أن الوثيقة تريد القول الاعتراف بالمكونات الاثنية والدينية للمجتمع السوري، لكن هل المسألة هنا هي مجرد الاعتراف وكأن أحدا ينكر تلك الحقيقة الديمغرافية الموجودة في سورية كما هي موجودة في كل بلاد العالم ودوله !
من الواضح أن الأمر ليس بهذه البساطة – ولو كان هكذا لكان أمراً لا معنى له – بل هي دعوة للاعتراف بالتعبيرات السياسية لتلك المكونات وهنا مربط الفرس.
اذن الاعتراف بالتعبيرات السياسية (للمكونات الاثنية والدينية للمجتمع السوري)، فمن هي تلك المكونات في المجتمع السوري حتى لا نكون نتحدث عن أشباح؟
المكونات الاثنية توحي بتخفيف لوقع مصطلح المكونات العرقية والمقصود هنا هو الأكراد وبدرجة أقل السريان الآشوريون.
الأكثر مدعاة للحيرة هي المكونات الدينية فما المقصود بذلك تحديدا؟ هل هي دعوة للعرب السوريين المسيحيين للانتظام في هيئات سياسية – دينية لأول مرة في تاريخهم الحديث! أم هي تعبير مخفف عن الاعتراف بالتعبيرات السياسية – المذهبية؟ أم ان الوثيقة لا تعرف عما تتحدث؟
على أية حال إذا أردنا قراءة تلك المسألة في سياقها السياسي الواقعي آخذين بالاعتبار أن ذلك التعبير المشؤوم (مكونات المجتمع الاثنية والدينية) لم يظهر للوجود سوى بعد احتلال العراق في سياق وضع أمريكا لخطة الطريق نحو تفتيت العراق، لحق لنا النظر بكثير من التشاؤم لمجرد وضعه ضمن أجندة اعلان دمشق. والاستغراب من الاصرار على استعماله بعد الانتقاد الواسع له أول مرة ظهر فيها.
بالنسبة للأكراد لابد من التمييز بين حالتين: حالة المظالم التي لحقت بقسم منهم والمتمثلة بمسألة الحرمان من الجنسية وكذلك عدم تمكينهم من استعمال لغتهم وثقافتهم وحرمان مناطقهم من الخدمات والفقر الذي يضرب تلك المناطق وهي مطالب محقة لابد لكل عربي – سوري من الاعتراف بها والنضال لرفع تلك المظالم جنبا الى جنب مع الأخوة الأكراد من خلال التغيير الوطني – الديمقراطي.
وحالة أخرى تتمثل في سعي بعض النخب القومية – الليبرالية الكردية (اليسارية سابقاً) للركوب على المظالم السابقة واستخدامها رافعة للوصول لأهداف أخرى تحاول التأسيس لكيان كردي عبر دعاوى لا تستند لحقائق تاريخية ولا ديمغرافية، مستقوية بالحملة الأمريكية ومتمفصلة مع الاستراتيجية الأمريكية للمنطقة، ومستغلة ضعف المعارضة لانتزاع الاعتراف ب (قضية قومية كردية) تنتهي (بحق تقرير المصير!).
أما التعبيرات السياسية للمكونات الدينية فمن الصعب فهمها دون النظر اليها باعتبارها اشارة خجولة للتعبيرات السياسية المذهبية، وهذا يعني ببساطة فتح الباب أمام اصطفافات سياسية مذهبية غير مسبوقة مشابهة للوضع في العراق.
من وجهة النظر الوطنية – الديمقراطية لا يوجد مبرر واحد يسوغ ادخال هذا المصطلح المشؤوم في الحياة السياسية السورية، فالديمقراطية – الوطنية (وليس الديمقراطية – الطائفية) هي الطريق لرفع المظالم عن اخوتنا الأكراد، وهي أيضا الطريق لتجاوز الحساسيات الطائفية نحو الأمام نحو مجتمع مدني لمواطنين أحرار متساوين أما الديمقراطية – الطائفية التي تستند للتعبيرات السياسية للمكونات الدينية والعرقية فهي الوصفة المضمونة لتكريس الانقسامات العمودية في المجتمع ومنحها الشرعية ودفعها للانبعاث والتجذر، وكأن التجربة العراقية ومآس الحرب الأهلية اللبنانية ليست كافية لأخذ العظة والدرس.
الديمقراطية – الطائفية هي بوجه من الوجوه انتكاسة عن الأهداف الديمقراطية وتنكر لمسألة دولة المواطنة والقانون، لقد أصبح واضحاً أن سورية على مفترق طرق مصيري فإما ان تنزلق نحو تكوينات سياسية عرقية وطائفية تدفعها لمصير مشابه للعراق، أو أن ترتفع بوعيها ووطنيتها المشهودين نحو استعادة ديمقراطية الخمسينات، ديمقراطية وطنية حقيقية تفتح الطريق أمام معالجة كل الحساسيات والمظالم السابقة، ولا تجعل من البلاد رهينة لها.
المصدر: صفحة الراحل الكبير الأستاذ نجيب ددم رحمه الله
تاريخ كتابة المقال
29 أكتوبر 2006