في كتابه “لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر” الصادر عام 2018، يشرح الدكتور عبدالخالق عبدالله بإسهاب مدعّم بالحجة والبيان، كيف باتت منطقة الخليج قوة قائدة لتطورات المنطقة. ولا نحتاج الكثير لتبيان الدور الذي لعبته دول مجلس التعاون (وخصوصاً بعضها) في ساحات عربية شهدت تحوّلات جذرية في العقد الأخير، حتى أن مقاربة تلك التحولات وقفت وراء الانقسام الخليجي الذي أنهته قمة العُلا في كانون الثاني (يناير) من هذا العام.
و “اللحظة” وفق الأكاديمي والباحث الإماراتي ليست بالضرورة ترفاً، بل هي حاجة ترتبط بنضج منطقة الخليج وترقي طموحاتها، وهي بالأساس حاجة تتعلق بالأمن الاستراتيجي الذاتي والجماعي لدولها. بات الأمر يتطلب سياسة خارجية ذات دينامية حيوية فاعلة تحوّل بلدان المنطقة إلى صُنّاع سياسة إقليمية ودولية لا مستهلكين لسياسات تصنّع في الخارج. ولئن يستعر جدل بشأن حجم هذه “اللحظة” ونجاعة قوتها ونفوذها، غير أن الثابت أن سياسات، لا سيما تلك التي انتهجتها دول مثل السعودية والإمارات وقطر، تغيرت على نحو انقلابي لا تشبه تلك التي اعتمدت في ظل الحرب الباردة وصراع الأنظمة داخل العالم العربي ما بين ملكية وجمهورية وتنافس الايديولوجيات المحافظة والتقدمية المحلية والمستوردة.
صحيح أن عبدالخالق عبدالله تكلم عن “لحظة” بما يعيد لبحثه التموضع داخل سياقات الموضوعية والعقل، فإن بلاداً عربية، شاهدنا مثالاً لها في لبنان، ما زالت لم تنتبه إلى هذه “اللحظة” وما زالت لم تعترف لهذا الخليج بالواجهات الصاخبة التي أفرج عنها، ليس فقط في إدارته لمسائل التنمية والاقتصاد والسياسة، بل في نظرة “الإقليم” الخليجي الصغير إلى “الإقليم” العربي الكبير، كما في تمدد حدود الأمن الخليجي إلى أقاصي آسيا والغرب، بحيث تتم مقاربة العالم بصفته جبهات متعددة وجب الصمود فيها وتذليل تحدياتها.
في الحالة اللبنانية درَج البلد على التعامل مع دول الخليج بصفتها ثابتاً فيما العوامل المحيطة كلها لا تتوقف عن التحوّل. ولئن يتفاجأ لبنان بموقف القطيعة الدبلوماسية التي اتخذتها بعض الدول الخليجية، فذلك أن السعودية وحلفاءها بقيت ثابتة في تعاملاتها مع لبنان على الرغم من سلوك فصائلي معادٍ انتشر في لبنان، خصوصاً منذ قيام الظاهرة الإيرانية في المنطقة عام 1979، فيما الإجراءات الأخيرة تعتبر تحولاً جذرياً لافتاً لم يعهده اللبنانيون.
تحمّل الخليجيون أعمال خطف وتهديد مورست ضدهم في لبنان، كما تلقوا بذهول حملات إعلامية تحريضية قاسية شنّها أمين عام “حزب الله”، وراقبوا تحرّك “حزب الله” الناشط لزعزعة الاستقرار في الكويت (خلية العبدلي مثالاً) والبحرين والسعودية والإمارات، ناهيك بدور الحزب الفتّاك في تدريب الحوثيين وتسليحهم والإشراف على هجماتهم الصاروخية ضد السعودية أولاً وترويع كل الخليج تالياً. ومع ذلك أبقت السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي صلات الوصل الرسمي والاقتصادي المعتاد مع لبنان، كما لو أن السلوك اللبناني أمر من واقع لبنان الذي يجب القبول بقدره.
رعت السعودية عام 1989 في مدينة الطائف في غرب المملكة الاتفاق الشهير الذي حمل اسم المدينة والذي انتهت بموجبة الحرب الأهلية في لبنان (1975 – 1990). لم يجد اللبنانيون في الهمّة السعودية حدثاً لافتاً، ذلك أن تدخل الرياض السياسي والمالي لطالما كان داعماً للبنان والسلم الداخلي ورافداً لازدهار البلد. بدا الاتفاق حينها خلاصة شراكة بين الرياض ودمشق تتأسس على علاقة متينة بين العاصمتين وعلى علاقة شخصية لاحقاً كانت تربط ولي العهد السعودي عبدالله بن عبد العزيز بالرئيس السوري حافظ الأسد.
وفي عاديات الرعاية السعودية للبنان ظهر رفيق الحريري بصفته يمثّل توافقاً مستمراً سعودياً – سورياً لإدارة مصالح البلدين وصون شراكتهما. ويُحكى أنه في مرحلة التوتر الشديد بين النظام السوري بقيادة بشّار الأسد وبين الحريري، أوصى العاهل السعودي الرئيس السوري برعاية وحماية “ولدنا”. وحين اغتيل الحريري في شباط (فبراير) 2005 استشاط غضب الرياض من “خيانة” شريكها. غير أن العاديات السعودية أملت في 9 كانون الأول (ديسمبر) 2009 ضغوطاً مورست على سعد الحريري لزيارة دمشق والمبيت في قصر المهاجرين، وقيام العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز باصطحاب الأسد إلى بيروت في 30 تموز (يوليو) 2010. وهنا أيضاً لم يجد اللبنانيون في السياسة السعودية ما هو مفاجئ صاعق، بل على العكس وجدوا في تلك السياسة دليلاً على الاستمرار في هذا الثابت في وقت أطاح المتحوّل بـ”ولدنا”.
السلوك السعودي الخليجي الراهن تجاه لبنان هو السلوك العادي الذي تنتهجه الدول التي تتعرض للضرر من قبل دول أخرى. ولئن تدّعي بعض القيادات السياسية والحكومية صدمتها من الإجراءات التي اتخذت بحق بيروت، فذلك أن منظومة السياسة في لبنان لم تقرأ بعد “اللحظة” التي تمر بها دول الخليج برمتها.
لم تستطع تلك المنظومة البليدة أن تستوعب أسلوب الحكم في السعودية منذ اعتلاء الملك سلمان بن عبدالعزيز سدّة العرش وما يعدُ به ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من طموحات تتعلق بمستقبل السعودية ودورها ووظيفتها في المنطقة والعالم. لم يكن منطقياً أن يتدفق السياح الخليجيون إلى لبنان وتُضخّ الاستثمارات الخليجية داخل أوردة الاقتصاد اللبناني وتُمنح المنظومة الخليجية لبنان شبكات الأمان السياسي والمالي في وقت تحوّلت بيروت إلى قاعدة تصدّر المؤامرات والمخدرات والصواريخ المهدِّدة لعيش الخليجيين في بلدانهم.
تتمدد “لحظة” الخليج صوب لبنان. باتت لعلاقات الخليج مع لبنان حسابات الربح والخسارة. لم يقل وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أن هناك أزمة مع لبنان، بل أن “التعامل مع لبنان وحكومته الحالية أمر غير مفيد وغير مجدٍ”. ويتبرّع الحدث اللبناني للخليجيين بمناسبة لتأكيد تلك المصالحة التي تمت في العُلا والتي تتعزز، منذ أوائل هذا العام، يوماً بعد يوم بما يكثف “اللحظة” الخليجية. أتى التضامن مع السعودية جماعياً سواء في سحب البعثات الدبلوماسية أم في التصريح بإدانة الاداء اللبناني تجاه الرياض أم بالتعبير عن الأسف من تدهور تلك العلاقات التاريخية بين لبنان والخليج. على هذا استفاق لبنان كل لبنان على “لحظة” اقتحمت يومياتهم ولم تعد همّاً إقليمياً بعيداً من رتابة “اللحظات” اللبنانية التي تتدحرج نزولاً من الكارثة إلى مشارف العدم.
المصدر: النهار العربي