الديموقراطية التوافقية والاستئثار بالحكم في العراق

فاروق يوسف

لن يتمكن الفائزون في الانتخابات العراقية الأخيرة من تشكيل حكومة أغلبية. وفي المقابل فإن الخاسرين لن يذهبوا إلى المعارضة. فما من شيء اسمه المعارضة في معادلات النظام السياسي العراقي. هناك اختراع عراقي اسمه “الكتلة الأكبر”. ذلك الكيان تم اختراعه عام 2010. يومها هُزم الفائزون الذين يقودهم إياد علاوي فيما استعاد نوري المالكي منصبه بالرغم من أن قائمته لم تكن هي الأولى في تسلسل الفائزين.

تلك وصفة ستكون القاعدة القانونية لإفشال نتائج أي انتخابات، بغض النظر عن مستوى نزاهتها ومدى الإقبال الشعبي على المشاركة في الاقتراع. ذلك ما يعني أن تلك النتائج ستذهب إلى الأرشيف من أجل أن يحتفظ النظام السياسي بتوازنه المقبول الذي يضمن استمرار مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية، التي هي في حقيقتها محاصصة بين الأحزاب التي تحتكر من دون غيرها تمثيل ما سُمي في الدستور العراقي بمكونات الشعب العراقي الأساسية “الشيعة والعرب السنة والأكراد”.

يكفي أن تحصل أية كتلة حزبية على عدد من المقاعد في مجلس النواب لكي تجد الطريق أمامها سالكة لتكون جزءاً من تحالف سياسي تتشكل من خلاله الكتلة النيابية الأكبر التي تضطلع بمهمة اختيار، بل وتعيين رئيس الحكومة المقبلة والتصويت بالإيجاب على وزراء تلك الحكومة. ولأن مجلس النواب، بسبب خضوعه لمبدأ المحاصصة، قد انحرف عن دوره في التشريع والرقابة فإن الانتساب الصوري إلى الكتلة الأكبر يجلب الكثير من المنافع الشخصية للنواب الذين سيكون لهم نفوذ في مفاصل الدولة المختلفة بحيث يُفسح لهم المجال ليكونوا جزءاً من مناقصات وهمية إما بصفة وسطاء أو باعتبارهم شركاء. ذلك وحده يشكل سبباً مقنعاً لتخلي الكثيرين عن كتلهم الحزبية التي تقف خارج قوسي الكتلة النيابية الأكبر، ناهيك بالمستقلين الذين ينزعون ثيابهم المستقلة ليرتدوا أزياء حزبية لأربع سنوات آتية.

وإذا ما كان الزعماء الشيعة يدعون بين حين وآخر إلى وحدة “البيت الشيعي” مخافة أن يقع قتال شيعي – شيعي فإن الكتلة الأكبر غالباً ما تنبذ أطرافاً شيعية خارج دائرتها.

كان مقتدى الصدر الذي فاز تياره بالمرتبة الأولى في الانتخابات الأخيرة أكثر الداعين إلى تماسك البيت الشيعي الذي تعود فكرته إلى السياسي والاقتصادي الراحل أحمد الجلبي. غير أنه (أي مقتدى) كان يقف دائماً خارج ذلك البيت. بعيداً منه وليس على عتباته. يبدو التناقض واضحاً، غير أنه يعكس وضعاً هو في حقيقته ليس من صنع الصدر أو تياره بل هو يعكس وجهة نظر التحالف القائم بين الأحزاب الموالية لإيران والمؤسسة الدينية في النجف. لذلك فإن الموقف المشاغب الذي يتخذه الصدر بين حين وآخر لم يحرمه من امتيازاته التي تجعله يقف في مقدم صفوف الفاسدين، بل وهبه إضافة إلى ذلك صفة المعارض الوطني التي استطاع من خلالها استقطاب تعاطف ملايين العراقيين الذين لا يزال الكثير منهم يعتقد أن “ابا هاشم” – وهي كنيته – هو الخيار الشيعي الوحيد الممكن على مستوى الوطنية تحت شعار “العراق أولاً”. وهو شعار أشبه بالقناع.

ولست هنا في مجال الإنكار لحقيقة أن مقتدى الصدر من خلال تياره قد دعا إلى إنهاء الهيمنة الإيرانية، ولكنه اُستقبل في ما بعد في قم بحفاوة لا مثيل لها. ما يُحسب للصدر حقاً أنه كان على تماس بالشارع بعكس السياسيين الشيعة الآخرين الذين إما تحصنوا بأبراجهم العاجية كما فعل نوري المالكي أو تمترسوا وراء خنادق “الحشد الشعبي” كما فعل هادي العامري. ولهذا لم تهتز شعبيته وهو ما كشفت عنه نتائج الانتخابات التي فرضت على ممثلي إيران المباشرين الاعتراف بهزيمتهم. غير أن تلك الهزيمة لن تؤدي إلى أن يتحول مقتدى الصدر إلى صانع حكومات. تلك صفة سيحتفظ الصدر بجزء من متعتها. وهو أمر ضروري بالنسبة الى الأحزاب التي لا يمكنها الاستغناء عن الواجهة الصدرية التي ستظل بمثابة السد الذي يحمي النظام في مواجهة أي احتجاجات جديدة متوقعة.

من كل ما مضى يمكنني القول إن الطبقة السياسية العراقية نجحت في أن تفلت من استحقاقات الديموقراطية الصارمة وبلورت نوعاً من الهدنة بين فرقائها الذين لا يجمع بينهم شيء سوى المنفعة من إمكان استمرار نظام المحاصصة. وبسبب جنوح ذلك النظام إلى إضفاء بعد استعراضي زائف على سلوكه من خلال استعمال المفاهيم السياسية الفارغة من معانيها فقد صارت “الديموقراطية التوافقية” عنواناً لتلك الهدنة. فأفراد الطبقة السياسية في العراق يعتبرون وجودهم في السلطة واحدة من ثمار الديموقراطية في كل الأحوال. إن اتفقوا أو اختلفوا فإنهم ديموقراطيون.

من طريق التوافق في ما بينهم على أساس تقاسم المغانم فإنهم يستأثرون بالحكم ويطيحون أبسط مستلزمات تنفيذ الاستحقاقات القانونية التي تعبّر عن نفسها في العراق من خلال وجه واحد من وجوهها هو الانتخابات. ويمكن هنا القول إن ما يُشاع عن الديموقراطية التوافقية في العراق إنما هو تعبير عن انفراد الأحزاب الطائفية والعرقية نفسها بالسلطة واحتكارها العملية السياسية، ما يمنع إدخال أي تعديلات إصلاحية على النظام السياسي الذي يجدد نفسه بنفسه من طريق الحذف والإضافة في حدود ضيقة.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى