صدمة تلقوها من الناخبين الذين قرروا إبعاد الموالين لإيران من صناعة القرار السياسي في البلاد. فقد مرت بضعة أيام ونتائج الانتخابات التشريعية المبكرة في العراق ما زالت بين الموافق والرافض لها، مع أن جل المشاركين فيها من الطبقة السياسية ودوائرها والمستفيدين منها، أما عموم الشعب فقد قاطعها جراء يأسه مما خبره من الدورات الأربع الماضية، إذ يسير به الحال من سيئ إلى أسوأ في المجالات الخدماتية والصحية والتعليمية والاقتصادية كافة… إلى آخره.
وعلى الرغم من تقدم مقتدى الصدر بحصوله على 73 مقعداً، لكن منافسيه في “إطار التنسيق” وعلى رأسهم نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي، لم ترق لهم النتائج، والسبب الواضح لا يتعلق بخسارتهم في صناديق الاقتراع وحسب، إذ حصلوا على 51 مقعداً من أصل 329، بل يتصل أيضاً بالصدمة التي تلقوها من الناخبين الذين قرروا إبعاد الموالين لإيران من صناعة القرار السياسي العراقي.
ولكن الصدر جزء رئيس من هذا التكوين السياسي الجاري منذ 18 سنة، فما الذي تغير؟ تسريبات الأخبار تشير إلى أن قرار تحجيم هيمنة إيران على الشأن العراقي تستوجب دعم طرف يتجاوب في التنفيذ، ويبدو أن مقتدى الصدر يسير في هذا الاتجاه، وأن تصريح السفير الأميركي السابق في بغداد دوغلاس سيليمان يدل على ذلك، إذ يقول إن “علاقتنا مع العراق في المرحلة المقبلة تعتمد على توجيهات الصدر التي تم الاتفاق عليها في واشنطن مع جعفر الصدر (سفير العراق في لندن وابن عم مقتدى) قبل أشهر عدة مقابل تسلم مقتدى الصدر رئاسة الوزراء”.
وإذا كان كذلك، فماذا سيكون رد فعل إيران؟ وكيف ستتعامل مع القرارات الرسمية المتوقعة، خصوصاً ما يتعلق بحل قوات “الحشد الشعبي” ومحاسبة قتلة المتظاهرين السلميين ومقاضاة الفاسدين وغيرها؟
على ما يبدو أن الموقف الإيراني لا خيار له غير التعامل مع هذا المتغير القادم لأسباب داخلية وخارجية، منها أن رئيس فيلق القدس إسماعيل قاآني ليس بقوة سلفه الإرهابي قاسم سليماني، والتصاعد المتواصل بالرفض الشعبي ضد إيران وازدياد المشاريع العربية داخل العراق، لا سيما مع السعودية ثم الأردن ومصر، لذلك ستحاول طهران تخفيف خسائرها بأقل قدر ممكن، مع الإبقاء على حال الضغط التي تمارسها عبر الفصائل المسلحة الولائية، وترك باب الاحتمالات مفتوحاً.
ومن أخطر هذه الاحتمالات تصادم شيعي – شيعي، إذ لا بد من إزاحة طرف لطرف آخر، خصوصاً أن نفوذ المالكي ما زال مؤثراً في مؤسسات الدولة، ويسعى الآن إلى إعادة “تحالف البناء” بغية تشكيل كتلة نيابية واسعة تصل إلى 85 مقعداً من أجل نيل رئاسة الوزراء لدورة ثالثة، وكذلك استفحال متعاظم لفصائل الحشد التي لن تنحل بقرار سياسي بل بعمل ميداني، وفي المقابل مرجعية النجف سحبت فصائلها الأربعة من “الحشد الشعبي” الذي توجد فيه “سرايا السلام” التابعة لمقتدى الصدر.
ومع أن هذه الصورة توحي باحتمال هذا التصادم، إذ تدعمها الاغتيالات والاعتراضات التي جرت فوراً بعد الانتخابات، فعلى سبيل الذكر تم في بغداد تصفية القيادي في “عصائب أهل الحق” حسين الخفاجي التابع لقيس الخزعلي، واغتيال حميد المحلاوي المعاون الأول لهادي العامري، والعثور على جثة اللواء سلمان غضبان الشهواني، المنسوب للفوج الرئاسي، وكلام آمر لواء 41 “الحشد الشعبي” أبو ظافر الزيادي أن “أي يد تمتد إلى سلاح المقاومة سنقطعها، هناك خط أحمر لا أحد يتجرأ أن ينظر إليه”، وأعلن المتحدث باسم “كتائب حزب الله” أبو علي العسكري في بيان له أن “ما حصل في الانتخابات يمثل أكبر عملية احتيال والتفاف على الشعب العراقي في التاريخ الحديث”، كما صدر بيان من القوى الموالية لإيران (تحالف الفتح ودولة القانون والائتلاف) جاء فيه، “نعلن طعننا بما أعلن من نتائج وعدم قبولنا بها، وسنتخذ الإجراءات المتاحة كلها لمنع التلاعب بأصوات الناخبين”، ولكن قد لا يحدث أكثر من هذا المستوى المألوف بين هذه القوى الطائفية.
ومن هذا السرد المتعلق بالسؤال الذي طرحناه في رأس المقالة، نود القول إنه لا أحد من المخلصين العراقيين والعرب والشرفاء حول العالم إلا ويتطلع أن يستقر العراق لتستقر المنطقة، بيد أن الآلية الجديدة لا توحي بنجاعة الحل، فإذا قررت إدارة جو بايدن التعامل مع مقتدى الصدر في مرحلة (2021-2025)، فإن بايدن نفسه الذي تولى ملف العراق عندما كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، يعلم أن الصدر له يد طولى بما جرى في تأجيج نار الفتنة الطائفية والقتل على الهوية ما بين 2006-2007، كما أن سلسلة تناقضات مقتدى السياسية لم تنقطع، وله ضلع أساس في تصفية ساحات الاعتصامات المدنية وقتل المتظاهرين السلميين في بغداد والنجف وذي قار وبابل والقادسية وباقي المحافظات العراقية بين عامي 2020-2021.
وإذا كانت الإدارة الأميركية ترمي إلى التعامل مع قوى سياسية معينة في العراق، فالأجدر بها أيضاً أن تنظر إلى حق الشعب وتحترم إرادته، لا سيما بعد تصريحات بعثتي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي عن عزوف هائل للمواطنين عن المشاركة في الانتخابات، وتلكؤ المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بحسم نتائج الأصوات، التي أشارت إلى نسبة 41 في المئة، بينما تقارير ميدانية تشير إلى أن النتائج الحقيقية لا تزيد على 15 في المئة، أي أن نتائج هذه الانتخابات أسوأ من السابقة في عام 2018.
وبذلك ستستمر هذه الطبقة السياسية بحكم الشعب عبر ديمقراطية مزيفة مسنودة من الخارج.
ونستشف من هذا الوضع الحالي وما سيتمخض عنه خلال الأشهر القليلة المقبلة في تشكيل الحكومة، أن استنباط المستقبل السياسي للعراق وفق نظرية ابن خلدون التي اعتمدها علم الاجتماع الحديث، أن الأحداث والوقائع التي تجري في الزمن الحاضر لها ما يشابهها من أحداث ووقائع جرت في الزمن الماضي وفي المكان نفسه، فإنه يمكننا أن نتنبأ بها، وبما أن تشكيل الحكومات السابقة جرى على أسس المحاصصة الطائفية والسياسية، والعملية السياسية والدستور من مخلفات المحتل الأميركي، فإن مستقبل العراق السياسي لن يخرج من عنق الزجاجة وسيستمر وضعه متردياً مضطرباً طالما كانت هذه العملية السياسية ودستورها وطبقتها مرتبطة بقوى الخارج على حساب الداخل.
إن خروج العراق من عنق الزجاجة يتم من خلال أبنائه الغيارى وحسب، الذين قدموا التضحيات وما زالوا، وما امتناع سوادهم الأعظم من المشاركة في الانتخابات إلا خطوة راسخة أخرى نحو هذا الخروج، واستعادة وطنهم المسلوب من تلك الإرادات الخارجية، ومهما طال الزمن أو قصر فالمستقبل لهم، وفق حقائق التاريخ والنظرة العلمية.
المصدر: اندبندنت عربية