ليس صحيحاً أن طهران لا تريد الاتفاق النووي. وليس صحيحاً أنها لا تنوي العودة إلى مفاوضات فيينا. وليس صحيحاً أن تعيين شخصيات معادية للاتفاق داخل إدارتها الجديدة (لا سيما علي باقري كني، كبير المفاوضين) يهدف إلى إسقاط الصفقة التي أبرمتها إدارة الرئيس باراك أوباما في واشنطن مع إدارة الرئيس حسن روحاني في طهران. وللتذكير والتأكيد، ليس صحيحاً أن مرشد الثورة علي خامنئي والحرس الثوري كانا يكرهان الاتفاق، لا بل لم يكن هذا الاتفاق ليرى النور لولا “بركة” الولي الفقيه ودعم ذراعه “الثورية” الضاربة.
ربحت إيران كثيراً في فيينا عام 2015. أبرمت وحدها، بصفتها دولة معترفاً بحجمها وقدراتها ونووية طموحاتها، اتفاقاً مع كل المجتمع الدولي متمثّلاً بمجموعة الخمسة زائداً واحداً. بدا وزير الخارجية آنذاك محمد جواد ظريف فرحاً منتشياً يحيط به نظراؤه من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين. أفرجت تلك الصورة عن “نصر” لإيران، ذلك أن الاتفاق في فيينا اعترف بها شريكاً مع الكبار في صناعة العالم.
عند الإعلان عن التوصل إلى ذلك الاتفاق، خرج الإيرانيون عفوياً يحتفلون بالأمر بصفته سبيلاً لتطبيع علاقات البلد مع العالم. بعضهم لم يتردد في إظهار الودّ للولايات المتحدة، معتبرين، وهم على حقّ، أن الصفقة الدولية الشكل هي في الأساس والأصل صفقة بين طهران وواشنطن جرى طبخها وإنضاجها بعناية وتريث في مسقط. لم يتأخر أوباما كثيراً في تأكيد هذه الفرضية. أفاض في التعبير عن إعجابه بإيران، وجاهر بانتقاده لدول الخليج ناصحاً السعودية بمشاركة المنطقة مع إيران، وفق “عقيدته” الشهيرة. (عنوان سلسلة مقابلات أجراها الصحافي الأميركي جيفري غولدبرغ نشرها في مقالة في “ذي أتلانتيك” الأميركية في آذار / مارس 2016).
اعتبرت طهران أن الاتفاق يعكس خضوع المجتمع الدولي لـ”الحقيقة” الإيرانية، وقبولاً بالجمهورية الإسلامية طبيعة وسلوكاً ومنهج حكم. وفي التأسيس على هذا الاتفاق، وسّعت طهران من شبكات نفوذها العدائي في المنطقة، بحيث بدا الأمر وكأنه يحظى برعاية المجموعة الدولية نفسها التي رعت صفقة فيينا. برّدت إدارة أوباما أي سخونة من شأنها استفزاز الطرف الإيراني، سواء بوأد ملفات التحقيق الخاصة بشبكات التمويل والإجرام التابعة لإيران في أميركا اللاتينية، أم برفع اليد الأميركية أو تخفيفها عن ملفات المنطقة، بحيث بات إعلان إيران سطوتها على أربع عواصم عربية منطقياً بديهياً يتّسق مع سياق ما نتج من فيينا.
صوّرت إيران اتفاق فيينا لتيارها “الممانع” في المنطقة منّة تكرّمت بها وتضحية قامت بها من أجل تعزيز السلم الدولي. وكثيراً ما أظهرت منابر إيرانية، بما في ذلك منبر المرشد نفسه، وربما لتصفية حساب داخلي مع الثنائي روحاني – ظريف، تبرماً من هذا الاتفاق الذي أذعن الثنائي له. ومع ذلك، وحين قدَّم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب فرصة ذهبية لطهران عام 2018 بقرار الانسحاب من الاتفاق، لم تُقدِم إيران ولا مرشدها على انتهاز هذه “الخيانة” الأميركية للانسحاب من “اتفاق الإذعان” وإسقاط الصفقة نهائياً.
والحال أن إيران الراغبة في الاتفاق تتدلل من دون أم تقنع أحداً. تبدو إدارة الرئيس إبراهيم رئيسي متشددة في الشكل مربكة في السياسة، وفق وصف علي رضا كريمي رئيس تحرير صحيفة “أفتاب زاده” الإصلاحية. يؤكد رئيس الجمهورية في 18 تشرين الأول (أكتوبر) أن بلاده “جادة” في العودة إلى المفاوضات. غير أن حكومة طهران تبدو معنية فقط بإظهار اختلافها الصوري عن إدارة روحاني – ظريف لهذا الملف.
قدم وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان في 17 تشرين الأول (أكتوبر) في جلسة مغلقة أمام البرلمان رؤية الحكومة لإحياء الاتفاق. نقل برلمانيون عن الوزير أن طهران تؤيد “العودة التدريجية” إلى الاتفاق، وهو ما عابه المحافظون على روحاني في الأشهر الأخيرة لولايته. ونقلت وسائل الإعلام المحلية عن الوزير أن المفاوضات ستستأنف في بروكسل (وليس فيينا) مع الأوروبيين في 21 من هذا الشهر، فنفت بروكسل الأمر.
تحتاج إيران إلى هذا الاتفاق. وليس صحيحاً أن الصفقة التاريخية مع الصين والخيار الشرقي والالتحاق بمنظمة شنغهاي الذي هللت له تهليلاً مبالغاً ومفرطاً يوفّر بدائل من “جوائز” فيينا. باتت طهران تدرك أنه حتى خيار الشرق مشروط من هذا الشرق بالذات باتفاقها مع ذاك الغرب لرفع موانعه عنها وعنه لتعبيد سبل التعاون والتبادل والتطبيع الكامل في السياسة والاقتصاد. وعلى هذا يمكن تفهّم بكين وتشجيعها الدائم لطهران للعودة على عجل إلى فيينا، وحماسة روسيا ومندوبها في فيينا لإنجاح المفاوضات.
حتى أن ما تسرّب من مطالعة عبد اللهيان البرلمانية عن رغبة في التفاوض من النقطة التي انسحب منها ترامب قبل 3 أعوام، أي العودة بالمفاوضات إلى المربع الأول، يتناقض مع تغريدة المندوب الروسي لدى المنظمات الدولية في فيينا ميخائيل أوليانوف على “تويتر” في 12 تشرين الأول بوجوب بدء المحادثات من حيث توقفت، لأنه تم إحراز “تقدم كبير ومفيد جداً” في الجولات الست من المفاوضات.
إيران تريد اتفاقاً في فيينا. تريده أن لا يكون انقلاباً على ذلك الموقّع في المدينةنفسها قبل ست سنوات. تريده أن يكون تقنياً محصوراً بالبرنامج النووي، لا يتمدد إلى برنامجها للصواريخ البالستية، ولا يتناول سلوكها الذي يوصف بأنه “مهدد للاستقرار” في المنطقة. وتريده أن يكون حاسماً في رفع كل العقوبات الأميركية منذ أوباما حتى جو بايدن. ووفق ذلك تستعد طهران بدأب يومي لاستحقاق المفاوضات من خلال مراكمة أوراق تُظهرها كل يوم وتتسابق وسائل الإعلام في العالم على تسليط الضوء عليها.
تستمتع طهران بالتقارير الإسرائيلية والأميركية والدولية المستقلة التي تجمع على قرب إيران من إنتاج قنبلتها النووية. لا تنفي طهران هذه الفرضية، لا بل إنها تخفي عن المنظمة الدولية للطاقة الذرية صور كاميرات المراقبة الراصدة لأنشطتها النووية خلال الأشهر الأخيرة، وتجاهر باستمرارها بتخصيب اليورانيوم بنسبة 60 في المئة غير البعيدة عن نسبة 90 في المئة الضرورية لإنتاج القنبلة. وفي استعدادها للعودة إلى فيينا، تبلّغ إيران العالم أنها تمتلك 100 ألف مقاتل في لبنان (وفق ما أعلن الأمين العام لحزب الله)، وأن ميليشياتها رافضة لنتائج الانتخابات في العراق، وستبقى شوكة في حلق أي مآلات سياسية تنتج منها، وأن ميليشياتها عازمة من دون كلل على إسقاط مأرب في اليمن.
تبلّغ طهران العالم أنها تمتلك مفاتيح أساسية لهذا المجتمع الدولي الذي يهندس سياسات له في المنطقة. ووفق الاستعدادات نفسها للعودة الى المفاوضات، تكاد طهران تعلن كل يوم أن حوارها مع الرياض إيجابي ويتقدم بنجاح، حتى لو رأى وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أن تسريع إيران أنشطتها النووية يُدخل العالم في مرحلة بالغة الخطورة. لا يهمّ ما يُثار من ضجيج، فهي تستدرج دائماً هذا الضجيج من ضمن عدّة شغل باتت رتيبة في السعي الدؤوب الى سوق كل الدروب نحو فيينا.
المصدر: النهار العربي