رسم الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله في 11 تشرين الأول/أكتوبر الحالي «خريطة الطريق» لتنفيذ أمر إقالة المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار المتهم بالاستنسابية. قال إن على مجلس القضاء الأعلى أن يجدَ حلاً، وإنْ كان لا يُريد، فالمطلوب من مجلس الوزراء أن يحلَّ هذا الموضوع لأن لا إمكانية أن يُكمل بهذه الطريقة، خصوصاً في الأيام القليلة المقبلة. المطلوب إزاحة البيطار عن ملف التحقيق وهو الذي أصدر مذكرة توقيف بحق وزير المالية الأسبق النائب علي حسن خليل والمعاون السياسي لرئيس حركة «أمل» نبيه بري، والذي يتربّع على عرش رئاسة البرلمان منذ عقود ثلاثة، ويلاحق وزيراً حركياً آخر هو وزير الأشغال العامة الأسبق النائب غازي زعيتر، وحليفاً لـ»الحزب» هو يوسف فنيانوس الوزير السابق للأشغال أيضاً، ومعهما رئيس حكومة «محور إيران» حسان دياب، والذي كان – قبل وقت قصير من حصول التفجير – يودُّ أن يزورَ العنبر «رقم 12» لتسجيل بطولات اكتشاف نيترات الأمونيوم، لكن كلمة السر جاءته بالعدول.
والأهم أن البيطار يطلب من وزير الداخلية الموافقة على ملاحقة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم «صندوق أسرار الحزب» في استباحة الدولة والمؤسسات وأفعاله غير المشروعة خارج الحدود، وهو المرشح لتبوُّء موقع الرئاسة الثانية مستقبلاً. بالطبع، فإن المحقق العدلي لا يُلاحق هؤلاء فحسب، بل هناك أيضاً المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا المحسوب على رئيس الجمهورية، والذي يرفض مجلس الدفاع الأعلى إعطاء الإذن بملاحقته، وكذلك هناك وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق الذي كان سيستمع إليه وإلى زميله زعيتر يوم «حرب الطيونة» المصغّرة.
وفق «خريطة طريق» نصر الله، تعذَّر الحل على يد مجلس القضاء الأعلى الذي زاره منسّق الارتباط في «الحزب» وفيق صفا، فانتقلت المهمة إلى جلسة مجلس الوزراء، التي كانت برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون، «الحليف» الذي أسهم في عزل لبنان عن محيطه العربي، والحالم بـ»حلف الأقليات» وبإيصال صهره جبران باسيل إلى سدّة الرئاسة الأولى خلفاً له. ما كان عون قادراً على تلبية مطلب نصر الله. أولاً، لأن التوقيت دقيق وحسّاس على أبواب انتخابات نيابية يُريد منها باسيل الحفاظ على الكتلة المسيحية الأكبر التي يُنافسه عليها رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، كورقة في معركة انتخابات رئاسة الجمهورية في وجه الجميع. وثانياً، لأن العين الأمريكية على «الصهر» المُصاب بعقوبات أمريكية، ولا بدَّ من تقديم حسن سلوك سياسي بالحد الأدنى علَّ العصا الغليظة تُرفع عن حامل الإرث العوني. وثالثاً، لأن المجتمع الدولي، المعوَّل عليه أن يمدَّ خشبة النجاة للبنان، ينتظر إصلاحات تُقوّي هيبة الدولة لا خطوات تقوّضها.
إزاء الواقع المأزوم، كان لا بدَّ من «7 أيار» جديدة، غير أن «غزوة عين الرمانة» جاءت مغايرة لـ»غزوة بيروت». هناك انطلقت شرارة الحرب الأهلية، ورُفعت خطوط التماس بين المسيحيين والمسلمين، وعلى جانبيها لا يزال يتمترس الطرفان حتى في أيام السلم، فالذاكرة أساساً ما زالت غير نقيّة، وتُـرَاكم في طياتها سيرة استقواء وهيمنة وسيرة إحباط وتهميش.
في 7 أيار/مايو 2008 وقفت بيروت عارية، حيث انكفأ الجيش عن الدفاع عن أبناء المدينة، لا بل انسحب فاتحاً الطريق أمام جحافل ميليشيا «الثنائي الشيعي» لدخولها وفرض «اتفاق الدوحة» كملحق لـ»اتفاق الطائف». قيل يومها إن «غزوة بيروت ما كانت لتحدث لولا حصول اختلال في موازين القوى الإقليمية»، رغم أن مرحلة 2005 – 2008 امتلأت بدماء شهداء «ثورة الأرز» على خلفية الترهيب للإطاحة بالمحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
شكّلت «غزوة بيروت» تاريخاً مفصلياً في حياة لبنان بتداعياته السياسية والأمنية التي لا تزال مستمرة حتى اليوم. وقعت البلاد أكثر فأكثر في قبضة محور إيران ترهيباً وترغيباً. جاءت «غزوة عين الرمانة» أو «حرب الطيونة» في 14 تشرين الأول/اكتوبر لتخطَّ تاريخاً جديداً لا يزال من المبكر التنبؤ بما ستؤول إليه من نتائج وتداعيات. تفاجأت ميليشيا «حزب الله – حركة أمل» بحجم الاستعداد على المقلب الآخر، فثمة خبرة قتالية طفت إلى السطح، وظهر القناصة الذين أوقعوا «مجزرة» في صفوف «الغزاة» (سبعة قتلى وعشرات الجرحى). «غزوة 7 أيار» كانت «نُزهة» معبّدة الطريق، لكن الحال تغيّرت في «غزوة 14 تشرين» التي كان مرسوماً لها أن تفعل فعلها الترهيبي على القرار السياسي لعون، وأن تُوجّه رسالة لجعجع الذي يرى «حزب الله» أنه لا يزال خارج دائرة التطويع النهائي التي دخلها زعيما السُّنة والدروز سعد الحريري ووليد جنبلاط.
الصورة: الجيش اللبناني في الطيونة
ستكون «القوات اللبنانية» ورئيسها في عين العاصفة منذ اليوم. فـ»اختبار 14 تشرين» صعبٌ بنتائجه على «حزب الله» الذي يُريد من حلفائه «مواقف واضحة من حزب القوات الذي يعمل لصالح الأمريكي وجهات عربية تريد أخذ البلد إلى الفتنة» بحسب رئيس المجلس التنفيذي للحزب هاشم صفي الدين، الذي يُريد أيضاً من الأجهزة الأمنية والقضائية «تحمُّل المسؤولية وجلب المجرمين إلى العدالة» موجهاً تهديداً جديداً «بأن أي تلكؤ بهذا الأمر سيُعتبر شراكة بسفك الدماء البريئة».
دخلت البلاد في فصل آخر من الأزمات. رفع «الثنائي الشيعي» كارت التعطيل في وجه حكومة نجيب ميقاتي، بعدما وضع مطلب إقالة البيطار بنداً أول في مجلس الوزراء الذي سيبقى معلقاً إن لم تحل قضية البيطار. وإذا تجرّأ ميقاتي على الدعوة لمجلس الوزراء، فسيستقيلون، ليسقطوا الميثاقية عن الحكومة كما فعلوا في حكومة فؤاد السنيورة عام 2006. وزاد «حزب الله» بند تطويق جعجع، الذي يرى متابعون أنه خرج رابحاً من «اختبار الطيونة» أمام بيئته السياسية والبيئة المسيحية التي قدّم نفسه حامياً لها إن تخاذل الجيش اللبناني عن القيام بدوره، ولا شك أنه سيحصد نتائج الاختبار في صندوق الاقتراع في الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها في 27 آذار/مارس 2022. ويذهب هؤلاء إلى اعتبار أن الرجل بات يحظى أكثر بحماية دولية، وأنه أسقط ما كان يُحضَّر له من خلال ربط نيترات البقاع بنترات المرفأ، تكراراً لسيناريو تفجير كنيسة «سيدة النجاة» التي ألصقت به لتُسقط عنه مفاعيل العفو العام وليمضي في السجن أحد عشر عاماً في جرائم سياسية نُسبت إليه، رغم تبرئته من تهمة تفجير الكنيسة.
يحصل كل ذلك، فيما يقف زعيم «تيار المستقبل» متفرجاً ومعه يقف زعيم «المختارة» على ضفة النهر، متوجسيَّن من التقدّم المتنامي لحليف الأمس في حساباتهم السياسية للمرحلة المقبلة، ومنتظرين لما ستسفر عنه نتائج المواجهة في الإقليم، والتي دخل فيها لبنان كساحة ناشطة في لعبة عضّ الأصابع وتسجيل الأهداف في خضم عملية ترتيب أوراق المنطقة المنطلقة من أن الانسحاب الأمريكي منها محقّق.
تحوّل البيطار عنواناً لانكسار «حزب الله» أو لانتصاره في الداخل وامتداداً لانتصار محوره، لكنه أيضاً سيكون عنواناً لسقوط آخر حصون الدولة اللبنانية، أو بداية تدعيمها.
المصدر: القدس العربي