من المعروف أن العلاقات الفرنسية – الجزائرية اهتزت أكثر من مرّة منذ استقلال الجزائر عام 1962، ولكن سرعان ما كانت فطيمة تعود إلى عاداتها القديمة، إذ لم تقدر الجزائر على فكّ ارتباطها بفرنسا اقتصادياً ولغوياً وثقافياً ورسم مصيرها وتقريره بنفسها في علاقتها بدول المنظومة الأوروبية التي يبلغ حجم التبادل التجاري معها نحو 45 مليار دولار سنوياً بما في ذلك 10.50 مليار دولار مع فرنسا وحدها.
ينبغي التذكير بأن الجزائر وفرنسا وصلتا إلى حافة الصدام الحقيقي بعد إعلان الرئيس الراحل هواري بومدين في 24 شباط (فبراير) 1971، وأمام المسؤولين النقابيين في الاتحاد العام للعمال الجزائريين، قراره تأميم صناعة المحروقات، ولكن الإدارة الفرنسية تعاملت حينذاك مع الأمر الواقع ولم تلجأ إلى استخدام الضغوط أو القوة المادية أو المعنوية لإجبار الجزائر على التراجع عن قرارها.
رغم عدم تعافي العلاقات الجزائرية – الفرنسية، فإن القوات العسكرية الفرنسية نفذت تفجيراً نووياً في الصحراء الجزائرية في عهد الحكومة الجزائرية الموقتة في 18 آذار (مارس) 1962، ثم في عهد حكم الرئيس الراحل العقيد هواري بومدين بتاريخ 16 شباط (فبراير) 1966 ولكن هذا الأخير لم يحرك ساكناً في ذلك الوقت ولو في شكل احتجاج عابر. وفي هذا الخصوص نجد أجيال مرحلة الاستقلال تلحّ في طرح هذا السؤال الدرامي المركب في السر وفي العلن: هل هناك بنود سرية لاتفاقيات إيفيان لا يعرفها الشعب الجزائري تسمح لفرنسا بتفجير القنابل النووية في الجزائر، وإذا كان الجواب لا فلماذا لم تتدخل الحكومة الجزائرية الموقتة إذاً لتعارض وتندد بالانفجارات النووية في الجزائر في 18 آذار (مارس) 1962، ولماذا لم يمنع هواري بومدين في 16 شباط (فبراير) 1966 تلك التجارب النووية الإجرامية، علماً أنه كان رئيساً ووزيراً للدفاع الوطني قبل ذلك الوقت وبعده، أي من 20/06/1965 لغاية 1978؟
وهنا نتساءل هل يمكن أن يتغير الموقف هذه المرة بعد منع الجزائر الطائرات الحربية الفرنسية من عبور أجوائها مباشرة إلى دولة مالي ومنطقة دول الساحل الأخرى بعد سماحها لها بذلك منذ عام 2013؟
وفي هذا الخصوص يميل المراقبون السياسيون إلى القول، تعقيباً على التراشق الإعلامي المتبادل بسبب التشدد الفرنسي في منح الجزائريين تأشيرات الدخول إلى فرنسا وجراء تشكيك الرئيس ماكرون في وجود الدولة الجزائرية قبل الاحتلال الفرنسي ومنع الجزائر الطيران الحربي الفرنسي من استخدام الأجواء الجزائرية لمراقبة منطقة الساحل والصحراء، إن ما يحدث لن يتجاوز كونه مجرد طقوس استعراضية موقتة للإستهلاك السياسي في الساحتين السياسيتين الفرنسية والجزائرية على حد سواء. ويضيف هؤلاء المراقبون أن الرئيس الفرنسي ماكرون يحتاج إلى هذا النوع من جرعات الاستعراض تمهيداً للانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة التي سيخوضها أمام منافسين يمينيين شرسين تعودوا على استخدام ورقة الهجرة غير الشرعية والجالية المغاربية وتعقيدات ميراث العلاقة الكولونيالية في الانتخابات الفرنسية.
وفي هذا السياق، يؤكد هؤلاء المراقبون أن النظام الجزائري يحتاج أيضاً إلى هذه الطقوس ليظهر أمام الرأي العام الوطني الجزائري بمظهر المقاوم للضغوط الفرنسية بهدف تشغيل ماكينة الروح الوطنية لكسب تعاطف المواطنين الجزائريين، وبخاصة أولئك الذين لا يزالون غير راضين عن أداء النظام الحاكم للتغلب على تعقيدات الوضع الجزائري المتردي على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟
من الواضح أن الرئيس الفرنسي تعمّد إثارة قضية الهوية الجزائرية بمثل هذا العنف الرمزي غير المسؤول كما تجاوز الحدود الدبلوماسية عند تشكيكه في وجود الدولة الجزائرية قبل الاحتلال الفرنسي، ويرى قطاع من المؤرخين الجزائريين أن الرئيس ماكرون يسعى من وراء هذا التشكيك إلى تذكير عامة الجزائريين بقول الشخصية التاريخية الجزائرية فرحات عباس الذي نفى بدوره وجود الهوية الجزائرية وذلك قبل أن يولد الرئيس ماكرون بسنوات طويلة.
ويعني أيضاً أن استغلال ماكرون مثل هذا الانكار، غير المؤسس تاريخياً، للدولة الجزائرية قبل الاحتلال الفرنسي أنه يريد نفخ النرجسية الفرنسية بواسطة اعتبار فرنسا صانعة الدولة الجزائرية كما يفهم منه أنه يريد مخاطبة ودعم جهة جزائرية معروفة تعتبر تاريخ الجزائر المكتوب حتى الآن إما إنتقائياً أو مشوهاً أو تجزيئياً زائفاً.
وفي الواقع فإن عدم توافق وجهات نظر النظام الجزائري والحكومات الفرنسية المتعاقبة حول تصفية ملف “الذاكرة التاريخية” بالتراضي ليس بالأمر الغريب في التقاليد التاريخية الاستعمارية، اذ إن تجارب التاريخ الكولونيالي برمته تبين بوضوح أن الشعوب التي تعرضت للاستعمار الكلاسيكي على نحو خاص كانت ولا تزال إلى يومنا تختلف جذرياً مع القوى الاستعمارية حول مضامين التجربة الاستعمارية الدرامية ومن النادر أن نجد ما يخالف هذا في مشهد العلاقات الدولية ما بعد الكولونيالية.
ولكن تنبغي الإشارة إلى أخطاء الجزائر في تعاملها مع فرنسا بخصوص ملف “الذاكرة الاستعمارية”، منذ 1830 إلى عام 1962، ويتلخص الخطأ الأول في تخليها بعد الاستقلال عن النخب الفكرية والإعلامية والسياسية الفرنسية التي وقفت بنضالاتها المعروفة إلى جانب حركة التحرر الوطني الجزائري فكرياً وسياسياً ومادياً، ولقد أدى هذا التخلي إلى فقدان الجزائر دعم هؤلاء ومؤازرتهم حقها في الكتابة الحقيقية لتاريخ الاستعمار الفرنسي فضلاً عن فشل الجزائر جراء ذلك التخلي في جمع قوى تلك النخب الفرنسية وتشكيل لوبي جزائري في الساحة الفرنسية.
أما الخطأ الثاني فيتمثل في حصر السلطات الجزائرية تصفية ملف “الذاكرة التاريخية الجزائرية – الفرنسية” في النطاق الرسمي، ولقد لعب هذا دوراً سلبياً في تجميد هذا الملف داخل نفق الدائرة السياسية الضيقة الأمر الذي كرّس تأخير ترميم هذه الذاكرة على مستوى العمق الشعبي الجزائري والفرنسي معاً وذلك بواسطة تنشيط وتفعيل آليات حديثة مثل الحوارات في أطر المراكز الثقافية والفكرية والمنابر الإعلامية الجادة، والندوات، والجمعيات الثقافية والتاريخية والفنية وهلم جرا، والعمل على تأهيل هذه الأطر والفاعليات لتحريك المجتمع المدني الجزائري بما في ذلك الجالية الوطنية المقيمة في فرنسا بصفة دائمة من أجل إقامة حوار صريح ومتحضر وإنساني مع الشعب الفرنسي ونخبه الفكرية ومجتمعه المدني.
أما في ما يتعلق بالخلاف الناشب في هذه الأيام بين باريس والجزائر حول تقليص إدارة الرئيس ماكرون حصة الجزائريين من تأشيرات الدخول الى فرنسا إلى النصف أسوة بمواطني المغرب، فتنبغي الإشارة بسرعة إلى عدم تفعيل السلطات الجزائرية وثيقة “اتفاقيات إفيان” الموقعة بين الجزائر وفرنسا تمهيداً لإستقلال الجزائر، والتي لم تعدّل أو تغيّر حتى الآن برضا الجانبين. بحسب هذه الوثيقة، يحق للجزائريين الدخول إلى الأراضي الفرنسية من دون تأشيرة السلطات الفرنسية، ومن الواضح أن فرنسا تنكرت للبند الذي ينص على ذلك في وثيقة هذه الاتفاقيات. وفي هذا الشأن بالذات يتساءل المراقبون المختصون في العلاقات الجزائرية – الفرنسية عن سبب تقاعس الحكومات الجزائرية المتعاقبة عن إجراء حوار رسمي مع فرنسا قصد ثنيها عن تراجعها الانتقائي والفردي عن البند الذي ينص على حرية تنقل المواطنين الجزائريين من الجزائر إلى الأراضي الفرنسية والإبقاء فقط على ما تبقى من البنود التي تخدم مصالحها الاقتصادية والثقافية واللغوية في الجزائر.
ويرى هؤلاء المراقبون أن هذا التقاعس الجزائري هو الذي حال دون التفاوض الجزائري – الفرنسي حول إيجاد حلّ مقبول لهذه المشكلة، علماً أن الجزائر تعمل بدورها بآلية فرض التأشيرة على الرعايا الفرنسيين الأصليين وعلى ذوي الأصول الأجنبية الحاصلين على الجنسية الفرنسية والحاملين جواز السفر الفرنسي كما حدث، مثلاً، للمغني الشهير، اليهودي الجزائري الأصل والفرنسي الجنسية أنريكو ماسياس الذي منع من دخول الجزائر في عهد الرئيس الراحل بوتفليقة.
إلى جانب ما تقدم، فإن الجانب الفرنسي يبرر خفض نسبة التأشيرات للجزائريين بعدم تعاون السلطات القنصلية الجزائرية في فرنسا مع المصالح الفرنسية المختصة في محاربة الهجرة غير الشرعية التي يساهم في تعقيدها آلاف الزوار الجزائريين الرافضين مغادرة التراب الفرنسي بعد انتهاء المدة القانونية لزيارتهم السياحية أو التجارية أو العائلية.
وفي هذا الصدد يتساءل المراقبون السياسيون الجزائريون: هل ستعود العلاقات الجزائرية – الفرنسية إلى وضعها الطبيعي بعد تسوية مشكل “التأشيرات”، علماً أن وسائل الإعلام الجزائرية متفائلة، اذ نقلت عن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان تصريحاته التي أكد فيها أن بلاده ستسحب قرار تشديد منح التأشيرات للجزائريين بعد حل أزمة المهاجرين غير الشرعيين وأنه سيتم التراجع عنه بعد تسوية ملف التصاريح القنصلية للمهاجرين، أم أن كدمات الذاكرة التاريخية ستجر البلدين إلى فضاء مجهول لا أحد يتكهن بما سيحدث فيه؟.
المصدر: النهار العربي