لم يعتد العراقيون اكتشاف عمليات “تدخل” في الانتخابات البرلمانية بالمعنى الذي عبّرت عنه الكلمة إبان أزمة الانتخابات الأميركية عام 2016، حين نُشِرَت اتهامات بضلوع شركات وجماعات ضغط خارجية في التدخل بغية التأثير في النتائج. فغاية الأمر في العراق، أن تقوم دولة أو منظمة بتمويل وسائل إعلام وحملات انتخابية لمصلحة مرشحين، بطرق مفضوحة، أو أن يقوم سلاح الجماعات “ما فوق الرسمية” بتهديد المرشحين أو اغتيالهم، أو أن تُستخدم موارد الدولة في شراء الأصوات، وتلك هي الأنماط السائدة للتدخل في الانتخابات العراقية خلال التجارب الماضية، أما الانتخابات المقبلة فربما تكون قد شهدت (حتى قبل إجرائها) إحدى أكبر وأخطر عمليات “التدخل” ووفق نمط غير معهود، كما هي الحال في ما سُمّي بـ”مؤتمر أربيل للتطبيع مع إسرائيل”.
“حكومة الإقليم كانت تعلم”
إن كان ثمّة ما تفاخر به حكومة إقليم كردستان العراق في أربيل – إلى جانب ارتفاع مستوى الخدمات نسبياً عن بقية المحافظات – فهو “القبضة الأمنية” الشديدة التي لا تغادر أي حركة تدور في الإقليم. ومنذ سنوات، تعتمد حكومة الإقليم نظاماً أمنياً مشدداً، حيث يستجوب جهاز الأمن “آسايش” الوافدين من غير الكرد في جلسات مطوّلة قبل السماح لهم بالإقامة، والحديث هنا عن عموم المواطنين العراقيين، وليس كبار الشخصيات، الذين يوضعون تحت مجهر أكثر دقة، ويتم تدقيق سلوكياتهم واتجاهاتهم السياسية بعمق. وفي جلسات الاستجواب التي يخضع لها الوافدون، أسئلة عن كل صغيرة وكبيرة، من بينها أسئلة مخالفة للقانون، كالسؤال عمّا إذا كان المتقدم بطلب الإقامة سنياً أم شيعياً، وما إذا كان والداه من السنّة أم من الشيعة، إلى جانب عشرات الأسئلة التي “تنبش” الوافد وعائلته، وتتجاوز التقاليد العراقية التي تحرّم الأسئلة الطائفية، وهو ما يجري في الإقليم بذريعة “فرض الأمن”.
ولم يسبق أن قالت السلطات الأمنية في كردستان العراق إنها لا تعرف شيئاً عن فعالية تُقام على أرضها، باستثناء البيان الغريب الذي قالت فيه وزارة داخلية الإقليم إن مؤتمراً بحجم وحساسية قضية التطبيع مع إسرائيل “عُقد من دون علم حكومة الإقليم وموافقته ومشاركته”.
ولم يتفاعل العراقيون، لا سيما مواطني الإقليم من الكرد، مع ادعاء السلطات عدم معرفتها بأمر المؤتمر، كما في مقالة للسياسي الكردي شوان داوودي، قال فيه ما نصه: “ككردي فإن أكثر ما يلفت انتباهي هو التوضيحان الصادران من وزارة داخلية الإقليم ورئاسة الإقليم بخصوص عدم علمهما بالمؤتمر، في الوقت الذي أعلنت فيه وسائل إعلام إسرائيلية أن الآسايش الكردية هي التي قامت بحماية المؤتمر (..)، فإذا كانت رئاسة الإقليم وحكومة الإقليم وسلطات أربيل لم تكن على علم بعقد المؤتمر (وأنا لا أعتقد ذلك)، فإن هذا الأمر يضع أمن الإقليم وكيانه وجماهير شعب كردستان أمام مخاوف كبيرة، وهذه فضيحة كبيرة للكرد تتطلب رداً من سلطات الإقليم”.
مصادر محلية عليمة في حكومة الإقليم أكدت علمها بعقد المؤتمر، على عكس المُعلن في البيانات الرسمية، وفي تصريح آخر – نقلته الشرق الأوسط – أكد مصدر مطلع أن “المنظّم قدم بالفعل طلباً مسبقاً إلى جهاز الأمن في الإقليم”.
وتتهاوى فرضية “عدم علم سلطات إقليم كردستان بشأن المؤتمر” أمام التصريحات الصحافية التي أطلقها منظم المؤتمر جوزيف براودي، والتي نفى فيها أن يكون المؤتمر قد عُقد فجأةً، بل أكد أن “التحضيرات للمؤتمر أخذت وقتاً طويلاً”. من دون أن ترد داخلية الإقليم. (التصريح خاص لإندبندنت عربية).
“طوق نجاة للمُفلس الأبرز”
ولم يجد أيٌّ من المراقبين صعوبةً في رسم عشرات إشارات الاستفهام حول توقيت المؤتمر، قبل نحو أسبوعين من موعد الانتخابات العراقية، بخاصة أن الطبقة السياسية العراقية لا تخفي مخاوفها من انخفاض “فاضح” في نسب المشاركة، وهو ما دعا المفوضية المستقلة للانتخابات ـ على سبيل المثال ـ إلى إعلان مكافأة مالية لكل عراقي يتسلم بطاقته الانتخابية من المستودعات المملوءة بملايين البطاقات التي لا يريد أصحابها تسلمها.
ويمكن إيجاز أزمة الأحزاب السياسية، والشيعية منها على وجه الخصوص، في أن موعد الانتخابات اقترب في ظل حالة من الإفلاس السياسي الكامل على مستوى البرامج الانتخابية، فالقوى السياسية خرجت للتّو من مواجهة أكبر احتجاجات عرفها العراق الجديد، وقد فرغت من تنفيذ أوسع مجزرة بحق المتظاهرين، ساهمت فيها معظم القوى التي تطالب الناخبين الآن بالأصوات، وبينما كانت تفترض تلك القوى أن تتمكن حكومة مصطفى الكاظمي من تصفير المشكلات، وتهيئة الأجواء لموعد الانتخابات المبكرة، فإن كل ما تمكنت منه حكومة الكاظمي هو تهيئة “موعد الانتخابات” دون “أجوائها”، فالاحتقان ما زال عند مستواه، وإجراءات القصاص من القتلة لم تتقدم، ويشعر معظم المتظاهرين، سواء الجرحى أم الذين اضطروا إلى مغادرة مدنهم، أن ثورتهم هُزمت بالقتل والتشريد، وهو ما دفع مؤشرات “الإحباط واللامبالاة بالانتخابات إلى ذروتها”، كما في القراءة الأخيرة لوكالة “فرانس برس” التي جاءت معاكسة لما يؤكده رئيس الحكومة العراقية ومسؤولو مفوضية الانتخابات ومبعوثة الأمم المتحدة وبقية الجهات المرتبطة ببرامجها.
على رأس قائمة “البرامج المُفلسة” يتربع برنامج “الكتلة الصدرية” التابعة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، فالرجل الذي تلقى سلسلة ضربات موجعة تمثلت بحريقَي مستشفيي بغداد والناصرية، وانهيار الطاقة الكهربائية، وما تبع ذلك من تحميل الصدر المسؤولية لجهة هيمنة تياره على وزارتي الكهرباء والصحة، لم يجد إلا سبيل “التخويف من البعبع الإسرائيلي القادم” شعاراً لحث ناخبيه على المشاركة في انتخاب كتلته.
وبسبب سأم الناخبين من الشعارات السابقة التي رفعتها كتلته، كشعاره السابق “حكومة خدمات لا أزمات”، فقد أسس الصدر حملته الحالية على “مناهضة التطبيع”، لكن الشعار لم يجد سوقاً رائجة حتى لدى أتباع التيار الصدري، لسببين، أولهما استبعاد العراقيين عموماً إمكان إبرام اتفاقية تطبيع بين العراق وإسرائيل، بخاصة أن العراق محكوم بنظام برلماني، وشارع متفاعل، وبالتالي، لم يأتِ التخويف الذي حرص عليه الصدر خلال الأشهر الماضية بنتائج ملموسة، والثاني أن ما يتصدر الهموم الرئيسية للمواطنين هي القضايا الخدمية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالوزارات التي كانت تديرها كتلة الصدر إدارة غير مباشرة لسنوات طويلة.
وتضيق دائرة الطموح أمام الصدر، بالنظر إلى ما جاء في تقرير مطوّل أعدته “فايننشال تايمز” البريطانية، جاء فيه أن “أعمال البلطجة التي مارسها أتباع الصدر خلال الفترة الماضية ضد المتظاهرين قد تؤدي إلى خسائر انتخابية، وتقلل من فرص الصدر في الفوز فوزاً واسعاً”.
الغريم التاريخي للصدر، زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، كان من أوائل المرتابين من قصة مؤتمر أربيل وتوقيته، وقد أصدر بياناً قال فيه بوضوح إن “انعقاد هذا المؤتمر في هذا التوقيت عشية الانتخابات المبكرة لم يأتِ عبثاً، بل جاء ليخلط الأوراق”.
ويأتي المؤتمر بتوقيته وحيثياته المريبة، كما لو أنه طوق نجاة أُعِد خصوصاً لإنقاذ حملة الصدر الانتخابية المتداعية، لكن السؤال الذي ستفرضه المُعطيات هنا: “مَن قدّم الهدية”؟
يمتد تاريخ “تبادل الغزل السياسي” بين الصدر ودوائر غربية، إلى بضع سنوات، وتحمل بعض الإشارات الغربية بصمات “لوبي” صدري يعمل على تحسين العلاقات بين التيار والغرب، بعيداً من الخطابات المعلنة لزعيم التيار التي تغلب عليها شعارات مناهضة الغرب و”المقاومة”.
من الفعاليات القليلة المُعلنة، زيارات أجراها مسؤولون في التيار الصدري لعواصم أوروبية، كما في زيارتي رئيس كتلة الصدر آنذاك للعاصمة الألمانية برلين عامَي 2016، و2017، وحديثه إلى معهد (ACD) الذي سيتبين لاحقاً أنه معني بشؤون السلام مع إسرائيل، وأن مسؤوليه أجروا زيارة معلنة للعاصمة الإسرائيلية تل أبيب عام 2012، والتقوا الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز ووزير الخارجية أفيغادور ليبرمان.
في نيسان (أبريل) 2020، نشرت مجلة “إيكونوميست” البريطانية تقريرها الذائع الصيت، الذي تحدث عن “تقارب بين الصدر والسياسة الأميركية”، وفي حزيران (يونيو)، نشرت وكالة “رويترز” تقريراً يدور في الفلك ذاته، “الصدر والغرب” وقد كرر التقرير بين سطوره حديثاً عن أن الصدر قد يفوز بالأغلبية، من دون دليل على ذلك، كما نقلت الوكالة عن دبلوماسيين غربيين إنهم “يفضلون التعامل مع حكومة يهيمن عليها الصدر، على التعامل مع خصومه الشيعة”.
أواخر حزيران الماضي، زار الباحث الأميركي (ك.ب) بغداد، وأجرى سلسلة لقاءات غير مُعلنة مع كبار السياسيين ومسؤولي الدولة، لغرض تقييم الأوضاع قبل الانتخابات، والاستماع إلى مطالب المحتجين الذين طالبوا بإجراء انتخابات حقيقية، في أجواء طبيعية، وانتقدوا دور الصدر في الفساد وقمع المتظاهرين، لكن (ك.ب) خلُص في النهاية إلى أن “السياسة الأميركية تتفق في نقاط عدةمع مقتدى الصدر، وأنه لا يرى إصرار المتظاهرين على المسار الثوري فكرة سديدة”.
ومع اقتراب موعد الانتخابات، تصاعدت اللهجة الداعمة للصدر في وسائل الإعلام الغربية، كما في حديث كبيرة محللي العراق لدى مجموعة الأزمات الدولية لهيب هيجل: “لقد تحسنت العلاقة بين الصدر والغرب تحسناً ملحوظاً خلال السنوات القليلة الماضية، ويُنظر إليه بتزايد على أنه بديل وطني وعازل محتمل ضد الأحزاب الأكثر ميلاً لإيران”، وهو ما كرره السفير الأميركي السابق لدى بغداد دوغلاس سيليمان في حزيران الماضي، واصفاً الصدر بـ”أحد الكوابح الرئيسة أمام التوسع الإيراني في العراق”.
وكثيراً ما قام الصدر بـ”رد التحايا” وعزز – عبر تصريحاته – الاتجاه الغربي المتنامي، الذي يعتبره “رجلاً يُمكن الاعتماد عليه لمواجهة إيران في العراق”، فقد انتقد مرات عدة عمليات “فصائل المقاومة” وحذّر من تحويلها “مقاولة”، وهاجم قادتها كما لو أنه يُرسل “أوراق اعتماد”. وفي المقابل، حظي الصدر بما يُشبه الحصانة لدى الصحافيين والباحثين الغربيين، وتم تجاهل الفظائع التي ارتكبتها جماعته خلال تظاهرات تشرين وما بعدها، مقابل التركيز على الجرائم التي تقوم بها الأطراف الأخرى.
الصدر خارج العقوبات الأميركيّة!
خلال الأعوام الأربع الماضية، اجتاحت موجة عقوبات أميركية طيفاً كبيراً من السياسيين أو المؤسسات العراقية، وشملت شخصيات قد تكون أقل تورطاً من الصدر بمسببات تلك العقوبات، مثل شبل الزيدي زعيم فصيل “كتائب الإمام علي”، وقيس الخزعلي زعيم حركة “عصائب أهل الحق” ولم توفر العقوبات حتى مسؤولين حكوميين ما زالوا على رأس وظائفهم، كرئيس هيئة “الحشد الشعبي” فالح الفياض.
أما الصدر، فعلاوةً على إغراق الإعلام الغربي بالترويج له كشريك ممتاز، فقد حظي أيضاً بالاستثناء من العقوبات الأميركية التي لم تستثنِ كما سبق، صغار الزعامات أو كباراً أو المسؤولين العراقيين، وبدا الصدر وكأنه مُستند إلى “ركن شديد” وهو يمنّي أتباعه بحصد منصب رئاسة الوزراء من دون اكتراث لقائمة الانتهاكات الإنسانية الجسيمة التي تورط بها أتباعه، ليس على مدى السنوات الأولى لنشاط جماعاته المسلحة فحسب، بل أيضاً خلال العامين الماضيين.
تصريح الأعرجي عن “التطبيع من النجف”
أواخر تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، اهتز الرأي العام العراقي على وقع تصريح للقيادي السابق في التيار الصدري الذي شغل مناصب حساسة، بهاء الأعرجي، حين تحدث عن أن “العراق مهيأ للتطبيع، وأن هذا القرار يُمكن أن يصدر من النجف وليس من العاصمة بغداد”، القسم الثاني من التصريح كان أكثر وقعاً، فالنجف التي ترمز دينياً إلى المرجعية الشيعية، ترمز سياسياً في العادة إلى مقر زعيم التيار الصدري. وعاد الأعرجي تحت ضغط حملة شعواء قادها أنصار التيار إلى إعلان أنه لم يكن يقصد مقتدى الصدر بتصريحه، غير أنه أكد أيضاً أنه ليس نادماً أو متراجعاً عن تصريحه.
“اجتماع لندن قد لا يكون مثيراً للسخرية”
في غمرة احتجاجات تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2019، تسلل نبأ تعيين محمد جعفر الصدر، سفيراً للعراق في المملكة المتحدة، لم يكن لدى البلاد الغارقة في مستنقع دماء، الوقت الكافي لمناقشة أبعاد القرار وخلفيته، أو سبب اختيار الصدر تعيين أحد مقربيه في عاصمة الضباب، وقد حظي الخبر بقسط من السخرية على صفحات التواصل الاجتماعي، وانتقاد تناقض “شعارات المقاومة مع السعي للحصول على منصب دبلوماسي في بريطانيا”.
بقيت نشاطات جعفر الصدر في لندن، نادرةً إن لم تكن منعدمة، باستثناء لقاء مُعلَن جمعه مع ممثل إقليم كردستان في لندن، كاروان طاهر، في 6 أيلول (سبتمبر) الجاري، أي قبل 18 يوماً من عقد مؤتمر أربيل في 24 أيلول.
وقد تعرّض اللقاء الثنائي هو الآخر إلى موجة سخرية، بخاصة أن السفارة اكتفت ببضعة أسطر مكتوبة بلغة تقليدية لتفسير سبب اللقاء، ولم يكن مفهوماً معنى أن يلتقي سفير أحد أعضاء بعثته الدبلوماسية، ثم يُعلن اللقاء وكأنه لقاء بين ممثلي دولتين، لكن بعدما تفجّرت قصة مؤتمر أربيل، لم يعد مُستبعداً أن يكون اللقاء جزءاً من التحضيرات، وبالنظر إلى تصريح منظم مؤتمر أربيل جوزيف براودي، الذي أكد أن التحضيرات استغرقت وقتاً طويلاً، ربما كان لدى ممثل الإقليم ما يقوله لجعفر الصدر في لقاء السادس من أيلول.
وتزداد الشكوك، في وجود عمل مُنسّق، مع ملاحظة “اللهجة الباردة” التي احتواها رد فعل مقتدى الصدر على المؤتمر، فالرجل الذي ملأ صفحات حسابه الشخصي على “تويتر” بأشد الكلمات وأحياناً أقبحها ضد المتظاهرين، ونفذ أنصاره اعتداءات عديدة ضد المتظاهرين بدعوى أنهم عملاء تطبيعيون! كتب نصاً مقتضباً طالب فيه أربيل “بمنع تجمعات كهذه” من دون أي مساس بشخص رئيس الحزب الديموقراطي مسعود بارزاني، أو حكومة الإقليم، وقد ختم تصريحه بأنه “سيؤجل رده على المؤتمر إلى ما بعد تحقيق حزبه الأغلبية البرلمانية وحسم ملف رئاسة الوزراء”، وهو المسعى الذي لا يخفى أن الصدر خطط طيلة الأشهر الماضية لتحقيقه عبر عمل مشترك مع الحزب الديموقراطي الكردستاني في أربيل.
“ضريبة واطئة الكلفة”
لقد قامت جهة معروفة بتنظيم المؤتمر، واستغرقت وقتاً طويلاً، وحددت الزمان قبل المكان، واستدعت مئات الأشخاص الى حضور المؤتمر، كان معظمهم وجهاء عشائريين بخبرات سياسية شبه معدومة. وباستثناء عدد محدود من المنظمين الرئيسيين، خرج معظم المشاركين ببيانات أكدوا فيها أنهم تعرضوا للخديعة، وأنهم لم يُبلّغوا بحقيقة المؤتمر، وعلى الأرجح كانوا صادقين في دعواهم.
قالت سلطات إقليم كردستان إنها تفكر بإبعاد المشاركين في مؤتمر التطبيع، وسيكون مفهوماً أن تُقدّم السلطات “كبش فداء” عبر طرد بضع عشرات من الوجهاء العشائريين الذين غُرّر بهم، لكن حكومة الإقليم لم تعلن حتى اللحظة، أي إجراءات بحق منظم المؤتمر جوزيف براودي، كما لم يرد ذكر اسمه في أيٍ من بيانات سلطات الإقليم التي زعمت فيها صدمتها بعقد المؤتمر.
ساهمت قصة مؤتمر أربيل بالفعل في سد مواطن الإفلاس في البرنامج الانتخابي للكتلة الصدرية، رغم أن جميع المشاركين في “مهرجان شتم التطبيع” يعرفون أن المؤتمر الذي وصفه زعيم قبائل شمّر، بـ”السخيف” يستحق هذا الوصف، وأن المشاركين في المؤتمر شخصيات من الصف الخامس أو حتى التاسع.
“التوقيت الشيعي.. والترحيب الإسرائيلي”
لا يمكن التردد في اعتبار توقيت المؤتمر، انتخابياً صرفاً، لكن قضية الانتخابات لا تتعلق بما يجري على الساحة الداخلية لإقليم كردستان، فحصص وجماهير الأحزاب الكردية المعدودة تبدو محسومة سلفاً، وهامش التغيير المُحتمل ضئيل للغاية، على عكس واقع الحال في الساحتين الشيعية والسنية، حيث الاحتمالات مفتوحة، والقائمة التي حصدت في الانتخابات الماضية 50 مقعداً قد تضاعف حصتها أو تفقد نصفها، تبعاً لحوادث “اللحظات الأخيرة” كما في مؤتمر أربيل.
وقد سبق أن تأثرت مخرجات العملية السياسية بـ”حوادث اللحظة الأخيرة”، فرئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي الذي كان الأعلى حظاً في حصد ولاية ثانية بعد انتخابات عام 2018، سرعان ما أطاحته تظاهرات واسعة اندلعت في محافظة البصرة، كما أن سلَفه نوري المالكي الذي كان يعد العدّة لنيل ولاية ثالثة بعد انتخابات عام 2014، خسر حظوظه بعد سقوط الموصل بيد تنظيم “داعش”، ثم عاد ليخسر نحو ثلثي مقاعد كتلته في الانتخابات اللاحقة.
وفي غياب التنافس على أساس البرامج الانتخابية، يمكن اعتبار “حوادث الوقت بدل الضائع” أحد أهم العوامل في التأثير في نتائج الانتخابات ومخرجاتها.
وساهم رد الفعل الرسمي الإسرائيلي وعلى أعلى المستويات، بـ”النفخ” في مؤتمر أربيل، فقد سارع وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد إلى إصدار تعليق اعتبر فيه ما حدث “باعثاً للأمل”، ليُتبعه رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت بتعليق في السياق ذاته، ومن الصعوبة بمكان، اعتبار القرار الإسرائيلي التعامل مع المؤتمر الملتبس، قراراً لا يأخذ في الحسبان تداعيات ذلك التعامل على مؤشرات الانتخابات العراقية، بخاصة مع اتضاح هوية البرامج الانتخابية للأطراف الشيعية، فالفصائل الموالية لإيران مباشرة، اعتمدت فكرة تغيير أسمائها وادعاء تقديم وجوه جديدة، كما في تغيير اسم “كتائب حزب الله” إلى حركة “حقوق”، أما الجناح الآخر من الأحزاب المتصلة بإيران، متمثلاً بتحالف الفتح، فقد اعتمد تصعيد الاستقطاب الطائفي وإغراء الناخبين بتوظيف المزيد ضمن هيئة الحشد الشعبي و”طرد الاحتلال”، كما اعتمدت دعاية “دولة القانون” بزعامة نوري المالكي ـ غير البعيد عن طهران ـ على مزاعم استعادة الدولة من الانفلات، في إشارة مبطنة إلى سلوكيات التيار الصدري. وبوضوح، فإن تحالف الصدر، هو الجهة الوحيدة التي أسست دعايتها على “التخويف من إسرائيل”، وبالتالي كانت الأكثر تكسباً من قصة المؤتمر والدعم الإسرائيلي الرسمي له، وبما لا يُمكن أن يخفى على صانع القرار في تل أبيب.
خراب يحقّق “مصالح” مشتركة
على المقلب الآخر، أي من جهة الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، لم يعد سراً وجود رغبة واضحة في تشكيل تحالف وثيق مع الصدر، وبما يحقق مصالح استراتيجية للحزب الحاكم في الإقليم، فزيادة حظوظ الميليشيات الشيعية والمتشددين تغذي التباين الذي تحرص أربيل على استعراضه أمام المحيط والعالم بين مناطق سيطرة الإقليم، وبقية مناطق العراق، ومن المتوقع أن يتسبب توسيع نفوذ حزب الصدر وبقية الميليشيات في مناطق السلطة الاتحادية العراقية بازدياد طرد المستثمرين وتفشي الأتاوات وتقييد الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان والاغتيالات وعمليات الاختطاف، وهي حزمة “المصائب” التي ساهمت طيلة نحو عقدين بظهور الإقليم بمظهره المتميّز الوهّاج وسط فوضى الميليشيات أسفل “الخط 36”.
وقد سبق أن جرّب الطرفان (الصدر وبارزاني) إبرام هذا الحلف عام 2013، الذي يحقق لكل منهما هدفه، لكن المحاولة فشلت، أما في الانتخابات الحالية، فإن الطرفين سبق أن كثفا الاستعدادات، وعقدا أكثر من 10 لقاءات خلال فترة وجيزة، في مؤشر على وجود تفاهمٍ عميق يجري التحضير له ـ سبقت مناقشته في مقالة سابقة ـ يتضمن “اعتبار الصدر المرجع السیاسي الوحید للقرار الشیعي، مقابل أن یتعامل الصدریون مع مسعود بارزاني بوصفه المرجع السیاسي الوحید للقرار الکردي”.
سلطة “المياومة”.. والتجارب المريرة
لكن، وكعادة ساسة العراق منذ بدء تجربتهم الجديدة بعد عام 2003، فإن الطابع الغالب على سلوكهم السياسي يعتمد “المياومة”، أي تأمين وجبة اليوم، من دون التفكير بالغد، فالتيار الذي يؤسس خطابه على مناهضة “بعبع وهمي” عنوانه “التطبيع”، يستهدف حصد أكبر عدد ممكن من المقاعد، من دون أن يفكر بما سيفعله إزاء حاجة ملايين الناخبين المُفترضين للخدمات وفرص العمل والأمن، برغم أن التيار ذاته سبق أن جرّب الاستحواذ على مقدّرات أهم الوزارات من دون أن يحقق شيئاً، بل أصبح استحواذه مأخذاً يدفع ضريبته. والحزب الذي يرفع شعارات “طرد الاحتلال” من قواعد لا يكاد يراها العراقيون حتى على الخريطة، لا يعرف أي بضاعة سيبيع إذا خلت تلك القواعد بالفعل، رغم أن العراق سبق أن “طرد الاحتلال” بالفعل في كانون الأول (ديسمبر) 2011، ثم دخل في فوضى سياسية وأمنية كلفته تخلفاً وتراجعاً لا يقل وطأة عن نكبة احتلال الكويت.
إن سيل التقارير والتصريحات الغربية التي تدفقت فجأة خلال العام الماضي، وركزت على ضرورة تسليم زمام الأمور في العراق إلى الصدر، واللقاءات التي عقدها قادة بارزون في التيار مع مسؤولين غربيين، والظروف والتوقيت “المشبوه” لمؤتمر أربيل، ومستوى التفاعل الإسرائيلي، وطبيعة رد الصدر، قد ترسم مجتمعةً ملامح أكبر عملية تدخل في الانتخابات العراقية، تستند إلى تحقيق مصالح دولية وإقليمية، عبوراً فوق تطلعات العراقيين بدولة مُحترمة لا يتم تسليم مفاتيحها إلى جماعات متورطة بالدماء والفساد، على غرار تجربة “طالبان”، وقبل إجراء أي تسويات مجتمعية أو شروع بمسيرة عدالة انتقالية وإعادة تأهيل للأحزاب والشخصيات المتورطة.
ويستشعر العراقيون قبل غيرهم رائحة المخططات وأساليب تسويقها، لأنها ليست المرة الأولى التي قد يدفعون فيها ثمن “وصفة معلّبة” يهبط بها عليهم صنّاع قرار في واشنطن أو لندن أو غيرهما، لا يفهمون معنى أن تتحول البلاد مجدداً إلى حقلٍ لتجربة طامح جديد بعرش العراق.
المصدر: النهار العربي