بعيداً عن زخم العواطف إثر رحيل شخصٍ مؤثّر في تاريخ بلده، سواءً بالسلب أو الإيجاب، هنالك ما يستدعي الوقوف من غير الدارج والمعروف في تاريخ الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة، على أنّ نُبقي ما هو شائع ومتداول للكثير من نقاط التزوّد بالمعلومات في الشبكات العنكبوتيّة والفضائيّة.
مع انتشار المعلومات والحقائق في الشبكة العنكبوتيّة باتَ من الصعب الإتيان بجديد. وحينما يغدو سؤال: ماذا أضيف؟ هاجساً أخلاقياً بامتياز، يتعلّق باحترام القارئ بالدرجة الأولى، بحيث يتطلّب تقديره تجنيبه التكرار والمُعاد، فإنّ الكتابة في مساحة عامة تستأهل استئنافاً غير تقليديّ لنقاش عام حول قضايا يصنعها أشخاصٌ وهيئات ودول، لها نصيبها الأوفر في صياغة التاريخ وتشكيله، أو قراءة مستحدثة في السير القديمة للأشياء الحيّة شرطَ أن تكون قابلة للتجدّد والمحاينة والتخصيص والتعميم، أو استعراضٌ شيّق لما حدثَ وطرأ وداهمه الاختصار وتمكّن منه الاقتضاب.
دون ذلك لا قيمة للكتابة إلا بقدر ما يُتعب المرء نفسه في تحديد لون الهواء.
لم يكن الرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة (2021-1937) محطة عابرة في تاريخ الجزائر المستقلة. فالشاب الذي التحق بالثورة في سن التاسعة عشر ربيعاً وغادر السلطة في الثمانين خريفاً. عاشَ ما بينهما ظروفاً وأحداثاً في أحرجِ القرون قاطبةَ وأكثرها تأثيراً في تطوّر الأفكار إلى مذاهب، وتأهّل القرى لتصبح مدناً، وارتقاء المدن إلى عواصم، وانتقال العواصم إلى دول. وفي الآن ذاتهِ فشل الكثير من المنظومات في تفسير مستقبلها. ونكوص العديد من الأمم في قراءة نهايتها. ومثول الوفير من الأمنيات بغدٍ عجزَ فيه أصحابه عن التفرقة بين القادم والمستقبل. فصار عندهم كل قادمٍ بالضرورة يحمل مستقبلاً لا يقبل الانتهاء بعده أو التبدّد عنده.
– لخّصت أهم ما حدث في حياة الراحل المهم في تاريخ بلاده في ثلاث محطاتٍ أراها الأهمّ:
الأولى: كان جوهر الصراع بين الرئيس الجزائري الأول بعد الاستقلال أحمد بن بلّة وقائد الأركان (الجيش) وقتها العقيد هواري بومدين حول من يحكم في جزائر الاستقلال: الجيش أم الحزب (جبهة التحرير الوطني)؟ كان بومدين وجماعته مع حكم الجيش في حين كان بن بلّة مع حكم الحزب أو الحكم المدني كما كان يسميه بنفسه. ورغم أنّ صراع بن بلّة مع بومدين ارتدى لبوساً ايديولوجياً بدا فيه بن بلّة مدافعاً عن الحكم المدني إلا أنّ ذلك لم يبرأ ذمة عهده من اتهامات عديدة بتقريب الفاسدين والانتهازيين (راجع: عبد الناصر وثورة الجزائر، فتحي الديب، ناقلاً عن رفيق نضاله محمد خيضر).
حين حدثَ الانقلاب على بن بلّة الاشتراكي من قبل بومدين في الموقعة الشهيرة (انقلاب 19 حزيران/ يونيو 1965)، كانت أوّل برقيّة تأييد للعمل الذي أفضى إلى إقالة بن بلّة وتنحيته من أعلى هرم السلطة جاءت من الولايات المتحدة. أيّ أنّ الانقلاب حدثَ بتأييد أميركي (راجع: مذكرات المجاهد والدبلوماسي الجزائري رابح مشحود، ص: 141 وما بعدها) من دون أن تتوفر أدلة أو إشارات تتحدّث عن مشاركتها فيه، ولكن ذلك لم يعنِ البتة أن بومدين صادقَ الأميركيين بعد ذلك أو أصبح حليفهم، بلّ بقي محافظاً على نهج سلفه الاشتراكي وأقرب إلى الاتحاد السوفيتي، وأحد حصونه في شمال إفريقيا.
يُحكى أنّ أحد مرافقي (لم أجد مرجعاً يحدّد اسمه) العقيد محنّد أولحاج قال لبن بلّة:”أكرهك أكرهك أكرهك، لأنّك رئيس ديكتاتوري”، فقال لهُ بن بلّة:”لو كنت رئيساً ديكتاتورياً ما كنت لتصل إليّ وما كنت لتقف بجانبي هنا” (نقلاً عن: مذكرات المجاهد والدبلوماسي الجزائري رابح مشحود، ص: 18).
رغم ذلك كان بن بلة حتى وفاته في 2012، يعتقد بأنّ بومدين لم يكن مستريحاً للقيام بانقلاب على حكمه، لكنّه في مقابل ذلك، أحجم عن تحديد المدبّر الأول لما حدثَ لهُ في كل حواراته وشهاداته التي تقصيّتها.
ثمة ما يمكن قوله في هذه المسألة: كان من بين الستّة الذين التقوا في بيت علي منجلي في 25 أيّار/ مايو 1965، وخطّطوا لإنهاء حكم بن بلة (على منجلي، المقدّم سليمان دهيليس، أحمد مدغري، عبد العزيز بوتفليقة، النقيب عثمان، هواري بومدين)، الفقيد الحالي عبد العزيز بوتفليقة. وكان أحد الأهداف التي تقف وراء ورود فكرة الانقلاب؛ السيطرة على تنامي شعبيّة بن بلّة في العالم الثالث، ذلك أنّه من المزمع أن يتوّج المؤتمر الإفريقي الأسيوي في 29 حزيران/ يونيو 1965، بن بلّة زعيماً تاريخياً للأمم الحرّة. هذا الأمر أحدثَ غلالة من الغيرة الثوريّة في صفوف مناوئيّ حكم بن بلّة ومن بينهم بوتفليقة، الذي لم يكن على وفاقٍ مثالي مع بن بلّة منذ البداية. بل تقول بعض المصادر إنّ الرئيس بن بلّة كان يفكر في عزل بوتفليقة من حقيبة الخارجيّة وحرّر ذلك ووقّع عليه، لكن بومدين حالَ دون إصدار هذا القرار، فأصبح حبيس الأدراج ولم يُكتب لهُ التنفيذ.
لذلك ترسّخ عند الكثير، بأنّ بوتفليقة هو صاحب فكرة الانقلاب على بن بلة وليس بومدين، بالنظر إلى ما تقدّم، وفضلاً عمّا ذكره رابح مشحود في مذكراته بأنّ بوتفليقة أصرّ على اتهام بن بلّة بـ”الخيانة الكبرى” في بيان الانقلاب (ص: 141)، فيما أصرّ كاتب المذكرات المُشار إليها والذي كان يشغل منصب المستشار لرئيس الجمهوريّة على حذفها.
ما يمكن أن أضيفهُ هنا، هو أنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة هو من أطلق وصفَ “التصحيح الثوري” على الانقلاب الذي حدثَ من أجل تلطيفه وجعلهُ مستساغاً، مستعيناً في ذلك بعبارة تشوان لاي بالحرف. (ذكرها عبد العزيز بوبكير في مقدّمة كتاب ضمّ شهاداتٍ تحت إشرافه بعنوان: 19 جوان1965: انقلاب أم تصحيح ثوري؟). وبالتالي كانت هناك تحضيرات عسكريّة وأدبيّة أيضاً، ساهمت في جعل العمل الانقلابي مقبولاً على أكثر من صعيد.
هذه أولى المحطات المهمة جداً في تاريخ الرجل، فقد قامَ بما قامَ به وعمره لم يتجاوز الثامنة والعشرين ربيعاً.
الثانيّة: بعد وفاة بومدين (1978)، قال قاصدي مرباح (مدير المخابرات وقتذاك) لأقرانه: “دعونا نختر أكبركم سنّاً وأعلاكم رتبة في العسكر”، فوقع الاختيار على الشاذلي بن جديد (عبدالعزيز بوبكير، بوتفليقة رجل القدر، ص:35)، لم يعجب بوتفليقة الذي لم يخفِ طموحاته في السلطة هذا القفز على صدفته بهذا الشكل، فترك البلاد وغادر إلى جهات لم يُعلم أكثرها.
جلس الشاذلي على كرسي الحكم ثلاثة عشر عاماً انتهت باستقالة قيل إنّها إقالة. ثم جاءوا أولئك الذين يحكمون من وراء ستار بـ محمد بوضياف، الذي لم يلبث أن اغتيل مباشرة على التلفزيون أمام أنظار العالم. ثم جاء علي كافي ومسك الفترة الانتقاليّة من دون أن يحدث أثراً كبيراً في سير الحكم ولا في أفئدة الجزائريين. ثم قرّر أهل الحل والعقد بأنّ يقترحوا عبدالعزيز بوتفليقة رئيساً، لكنّه اشترطَ رجوعه رئيساً مقابل أنّ “أقبل بالسلطة كلها لا بعضها”. لم يعجب الشرطَ من يجلسون في الظل، فاختاروا اليامين زروال بدلاً عنه سنة 1994 (راجع: عبدالعزيز بوبكير: بوتفليقة رجل القدر، ص:35).
ما لبث بوتفليقة أن عاد إلى السلطة سنة 1999 بعد أن استقال اليمين زروال، لكنّه هذه المرة اكتسب زخماً شعبياً لافتاً للنظر، وكان سيفوز بالانتخابات دون الحاجة إلى انسحاب المرشحين الستة وقتها، بلّ ودون أيّ نية في التزوير. لكن اتّضح بعد ذلك، بأنّ السلطة الفعليّة كانت ترغب في أن يكون بوتفليقة رئيساً مهما تكن الظروف.
أثّر الانسحاب المدوّي للمرشحين الستة في بوتفليقة كثيراً، ورأى بأنّها طعنة نجلاء وُجّهت لكبريائه وضربتْ شعبيته في مقتل، فأصبح يطلق نوعاً من النكات ذات الدلالة في كل اجتماعاته الشعبيّة، من قبيل قوله “أنا رئيس إلا رُبع”، “أنا ثلاثة أرباع رئيس فقط”… فلم تلبث السلطة التي جاءت به أن بادلتهُ الاستفزاز بالتصريح، فقد ظهر في جريدة “الشروق” الجزائريّة ما اُطلق عليه وقتها بـ”المصدر المأذون”، قال وبالنبط العريض على الصفحة الأولى من الصحيفة الآنفة:”اخترنا بوتفليقة لأنّه الأقل سوءاً من بين المرشحين”.
لم يطل الوقت كثيراً حتى التقطَ بوتفليقة الإشارة الصريحة، فطفق يُردّد في حملته الانتخابيّة في 2004 مخاطباً قواعده الشعبيّة “الرئيس لي كتافو ماهمش سخونين بالشعب موش رئيس” (الرئيس يللي كتافو مش سخنين بالشعب مشّ رئيس)، وما لبثَ أن فاز بالانتخابات الرئاسيّة عامذاك، التي جرى فيها تأييد غير رسمي من دوائر بعينها للمترشح علي بن فليس، حتى “رحّل” بوتفليقة الجنرال العربي بلخير إلى المغرب، تحت مسمّى سفيراً في دولة في حالة قطيعة مع الجزائر.. تلتها استقالة رئيس أركان الجيش الجزائري محمد العماري بعد ثلاثة أشهر من إعادة انتخاب بوتفليقة فقط. ثم لم تمرّ مياهٌ كثيرة تحت جسر العلاقة بينه وبين الجنرال توفيق (رئيس المخابرات) حتى بدأت بعض علائم الخلافات، انتهت بإقالة هذا الأخير في 2015 من منصبه.
هذه المحطّة مهمّة للغاية، لأنّنا شهدنا رئيساً مدنياً يُقيل عسكرياً. وهي سابقة في تاريخ الجزائر المستقلة.
الثالثة: مستلهماً تجربة المصالحة الوطنية في جنوب إفريقيا، تدرّج الرئيس الجزائري الراحل عبدالعزيز بوتفليقة من الوئام المدني مروراً بالوئام الوطني وصولاً إلى المصالحة الوطنيّة. لقد ساهمت هذه المسمّيات الثلاثة في إنهاء سنوات الدم والدمار في الجزائر إبّان حربها الأهلية على امتداد عشرّية كاملة، أُطلقَ عليها أسماء ونعوت شتّى. لقد استغلّ بوتفليقة رغبة بعض الجهاديين ممّن غُرّر بهم، وبعضهم ممّن تقدّمت بهم العمر ولم يعد يقوى على جلد الطبيعة، والبعض الآخر تركَ الأفكار التي تبنّاها ورأى أنّها لم تصمد أمام تغيّرات الوقت وعوامل الزمن، فيما تمّ اقتناع الغالبيّة بترك السلاح بعد سماعهم لفتاوى رسميّة من هيئة كبار العلماء في السعوديّة وغيرها قضت بتحريم ما يفعلون تحريماً قاطعاً حتى لو كان خروجاً دون قتال.
لدى بوتفليقة أمور تُحسب لهُ لا يُنكرها إلا جاحد، ولهُ كذلك الكثير من الأمور تُحسب عليه. لكن الثابت بأنّه مثيرٌ للجدل، وربما سيعيش الجدل طويلاً بعد رحيله .
المصدر: 180
تعليقا على مقال ضيف حمزة ضيف ” عن بو تفليقة بلا عواطف أو عواصف” .
كتب الأخ الدكتور يوسف الصميلي الملاحظات التالية
********************
بشأن بوتفليقة
أغفل الكاتب حدثاً أساسيا جعل بومدين يقتنع بإزاحة
بن بلة حين تعدى على مركز قوته أي الجيش بتعيين طاهر
الزبيري رئيساً للأركان أثناء وجود بومدين خارج الجزائر
ثم كان الزبيري رأس حربة في الانقلاب وكان مع بوتفليقة
حين اقتادوا بن بلة الى السجن
أغفل أيضاً ان مجموعة وجدة
هي التي خططت لتحكم ولذلك وظفت الاختلاف بين
زعماء جبهة التحرير لإضعاف
بن بلة اذ كان خيضر وبوضياف وآيت احمد قد استقالوا وتركوا الجزائر
أغفل كذلك اغتيال محمد خميستي الذي كان وزيرا للخارجية قبل بوتفليقة وهناك من وجه الاتهام لبوتفليقة بقتله لأنه مؤثر ومحسوب على بن بلة
جوهر الأمر ان الانقلاب كان ضربة للناصرية بالمفهوم الواسع لصراع الإرادات بين عبد الناصر والغربيين أفريقيا والعالم
من المفارقات ان بومدين اتهم بن بلة بتوتير العلاقات
مع المغرب والتسبب بحرب الحدود فيما عرف بأمغالى الأولى
لكن حدثت أمغالا الثانية في
عهد بومدين والى اليوم العلاقات مع المغرب غير سوية وموضوع الصحراء تفصيل اكثر من جوهر في سوء العلاقات.