أشارت الدراسة في حلقتها الأولى إلى الكتاب وأجواء تلك المرحلة وإلى مواقف حافظ الأسد قبل تسلمه السلطة وبعدها وأتت بشواهد الكتاب حول قضايا الفردية والتميز وهزيمة 1967 ومسألة التنمية.
رابعاً- الموقف من دعم منظمة التحرير الفلسطينية
أما تحرير فلسطين الذي تعلل به وبرر موقفه ضد مشروع الفرات فقد برز خلال أول موقف له تجاه منظمة التحرير الفلسطينية التي أعلنت عن نفسها عام 1964 وأخذت الآمال تُعلق عليها في إيجاد حلول للقضية الفلسطينية بما في ذلك التحرير.. ففي الثلث الأخير من شهر أيلول اندلع قتال بين الجيش الأردني وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وكان تلكؤ حافظ الأسد في تلبية تقديم المساعدة، وتعليله بعدم الجاهزية، ما يعني أنه ضد قرار قيادته السياسية وبالتالي ضد تقديم المساعدة للفدائيين الفلسطينيين.. وما أورده كتاب “النهضة المعاقة” يؤكد ذلك يقول مؤلف الكتاب:
موضوع مرتبط: شخصية حافظ الأسد المناوِرة.. قراءة في النهضة المعاقة (1)
“كان اجتماع القيادة هذا على ما أذكر صباح يوم الخميس. وكان قرارها يشدد على التدخل العاجل دون أي تأخير لا مبرر له، كما أنَّ انسحابها وعودتها ينبغي أن يتم بقرار من القيادة، وبعد استكمال مهمتها. غير أن وزير الدفاع حافظ الأسد قال: إن تجهيز القطعات العسكرية التي تنفذ هذه المهمة يحتاج إلى ثلاثة أيام على الأقل، وهكذا فبعد ثلاثة أيام على قرار القيادة دخلت قوات الجيش السوري بقيادة المقدَّم موسى العلي إلى الأردن وتجاوزت مدينة إربد في توجهها جنوباً نحو عمّان لفك الحصار عن قوات الثورة الفلسطينية، وقد قامت بتنفيذ هذه المهمة خلال يومين من تدخلها”. ص86..
خامساً- الاستئثار بالسلطة
يدرك كل مَن كان في قيادة حزب البعث في ذلك الزمن أن حافظ الأسد ذو سلوك ينطوي على توق شديد إلى السلطة، وإن كان يظهر غير ما يبطن! وكان العقيد عبد الكريم الجندي رئيس مكتب الأمن القومي التابع للقيادة القطرية بحزب البعث السوري قد حذر من سلوكه، وتقول الرواية الرسمية، آنذاك: إن العقيد الجندي قد انتحر يوم الثاني من آذار 1969.. بينما تؤكد ملابسات الحدث أنه اغتيل ومهما كان عليه الأمر فإن وصيته تؤكد باطنية حافظ الأسد فقد ورد فيها:
“إن التحرك الأخير لرفيقنا وزير الدفاع (حافظ الأسد) وزمرته، يهدد كيان الشعب، ويهدم منجزاته، وينسف أسسه، فهو مثل نيرون سيدمر القضية، ويدمر نفسه؛ لأنه مغرور، مرتبط، مشبوه، ينفذ بدقة مخططات الأعداء من كل الأصناف” كما يؤكد هذه الحقيقة أحمد سويداني رئيس الأركان الذي عايشه على نحو مباشر واستهجن تصرفاته، وشكك فيها إلى أن قدم استقالته يائساً.. ومما جاء في كتاب “النهضة المعاقة” حول هذا الموضوع أن سويداني أخذ يطرح مع أعضاء القيادة:
“تفرُّد وزير الدفاع بتصرفاته التي تتعارض مع مقررات قيادة الحزب، وكأنه أصبح يعدُّ القوات المسلحة ملكية خاصة له، ولما توصَّل، كما كان يروي، إلى قناعة بأن قيادة الحزب لا تريد معالجة هذا الوضع الشاذّ تقدم باستقالته طالباً إعفاءه من مهمته. وهكذا كان، وعُين وهو عضو في القيادة القطرية مسؤولًا عن مكتب الشبيبة والطلبة. وقد خلفه في رئاسة الأركان المقدم مصطفى طلاس الذي جرى ترفيعه إلى رتبة لواء. وتبين فيما بعد أن طلاس الذي كان يفترض فيه أن يكون مستقل الرأي، والضمير أصبح منسجماً كل الانسجام مع وزير الدفاع، وسلوكه حتى بلغ به الأمر أن يعدَّ، في مناسبات كثيرة، حافظ الأسد رئيساً ومعلماً له”. ص 64
سادساً- المؤتمر القومي وقرار إقالة الأسد
إزاء الوضع الذي تأزّم وأخذ ينذر بالانفجار. بادرت قيادة الحزب إلى دعوة المؤتمر القومي العاشر لعقد دورة استثنائية على أنه أعلى سلطة في الحزب، لدراسة الوضع في سورية واتخاذ القرارات والإجراءات اللازمة لمعالجة الأزمة المتفاقمة التي باتت تنذر بأخطار فادحة سواء داخل الحزب ودوره المطلوب أم على صعيد نظام الحكم وأدائه في الميادين كافة. يعلق صاحب كتاب النهضة المعاقة بما يلي:
“انعقد المؤتمر مطلع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1970 وقد دام أكثر من عشرة أيام. واتخذ قرارات رأى أنها تعالج السلبيات وأوجه التقصير في مختلف المجالات وفي إطار خطة شاملة كانت قد اعتمدتها القيادة لإنجاز هدف تحرير الأرض المحتلة. وفي سياق هذه المراجعة اتخذ المؤتمر-بما يشبه الإجماع- قراراً يقضي بتغيير مواقع الرفاق القياديين سواء من كان منهم في السلطة أم في قيادة الجيش الذين يشغلون هذه المواقع منذ أكثر من أربع سنوات. كان عدد أعضاء المؤتمر 87 رفيقاً صوّت منهم إلى جانب القرار 83 رفيقاً. وكانت موجبات ذلك القرار أنه لا يجوز كما في دول العالم المتمدنة، وكما في دولة الكيان الصهيوني أيضاً، أن يشغل الرفاق في قيادة الجيش أو في السلطة مواقعهم لأكثر من أربع سنوات. ص 95
ومن أهم أسباب موقف المؤتمر من مجموعة الضباط بقيادة الأسد إضافة لما ذكر هو عدم “تنفيذها للعديد من قرارات قيادة الحزب في مجال القوات المسلحة، وخاصة ما يتعلق بإنشاء لجنة ومحكمة عسكرية للنظر في أداء مختلف القيادات العسكرية أثناء حرب الأيام الستة، كما درجت وسائل الإعلام الغربية على تسميتها”. ص63
ومع ذلك لم يكن هذا القرار الشعرة التي قصمت ظهر البعير بين الأسد ورفاقه بل إن الأسد كان قد أعد كلَّ شيء لانقلابه ورتبه على نحو دقيق داخلاً وخارجاً بحيث لم تُرَقْ قطرة دم واحدة بَيْدَ أن السجون امتلأت بقيادات البعث المدنية التي كان لها شعبيتها داخل التنظيم عكسه المؤتمر الأمر الذي ترك سؤالاً محيراً حول قيادة صلاح جديد..
سابعاً- الانقلاب وإيداع الرفاق في “فيلات آمنة”
انتهت أعمال المؤتمر يوم 13 تشرين الثاني، وفي اليوم التالي قامت المخابرات العسكرية -وهو الجهاز الذي رفض حافظ الأسد قرار قيادته بضمه إلى مكتب الأمن القومي الذي كان يرأسه عبد الكريم الجندي كما تقدم- “باعتقال الرفاق صلاح جديد الأمين العام المساعد للحزب، وأعضاء القيادة: الدكتور يوسف زعين، ومحمد عيد عشاوي، وفوزي رضا، ومصطفى رستم الذين كانوا في زيارة للدكتور زعين. وفي صباح اليوم التالي أفرج عن الدكتور زعين والرفيق مصطفى رستم، وبقي الآخرون رهن الاعتقال الذي استمر مع رفاقهم الذين أضيفوا إليهم لاحقاً حوالَيْ ثلاثة وعشرين عاماً. وهكذا فتحت أبواب السجون منذ قيام العهد الجديد (انقلاب 16 تشرين الثاني 1970 لتستقبل بين الحين والآخر دفعات متتالية من قيادات الحزب وكوادره: مدنيين وعسكريين إضافة إلى العديد من قيادات الأحزاب الوطنية الأخرى وأعضائها الذين غصت بهم معتقلات النظام، وقد تضاعف عددها مع استمرار النظام الفاشي المستبد”. ص 96.
بعد يومين فقط أي في 16 تشرين الثاني أُعلِنَ الانقلاب مؤيَّداً من غرفة تجارة دمشق ومن أحزاب سياسية كانت معارضة له (يأتي الحديث عن الجبهة الوطنية في القسم الثالث والأخير) ومن دول عربية وخاصة المملكة العربية السعودية ودول أجنبية كثيرة منها أميركا والاتحاد السوفييتي..
ويشير الدكتور حداد إلى أنه لدى السؤال عن الرفاق المعتقلين عَبْر منظمات دولية أو وساطات عربية “كان جواب حافظ الأسد -كما كان ينقل إلينا- واحدًا في كل مرة، وهو أن رفاقنا وخاصة قيادة الحزب يقيمون في فيلات محروسة ويتمتعون بكل أسباب الراحة والعناية والأمان! وأن وقت إطلاق سراحهم لم يَحِنْ بعد. والغريب بل المدهش أن هذا النظام الفاشي لم يدخر أية فرصة، عندما كانت علاقاته بالسعودية ودول الخليج الأخرى تعرف بعض التوتر، من التهديد بأنه سيُقدم على إطلاق سراح رفاقنا القادة المعتقلين، اليساريين المتطرفين وإعادتهم إلى الحكم وقيادة سورية..” ص 108 (يتبع)
المصدر: نداء بوست