أجل بالملعقة.. إنه حلم الحرّية

مالك داغستاني

“اكتشاف نفق هروب السجناء، يُظهر لنا أنه حتى عندما كان الوقت شديد السواد، كان لدى السجناء توق للحياة. إنه شاهد يثلج الصدر على انتصار الحرية، وانتصار الأمل على اليأس”. هل اعتقدتم أن هذا الاقتباس المؤثر يتعلق بنفق سجن جلبوع حيث فرّ السجناء الفلسطينيون الستة؟ لا. إنه تعليق الباحث الإسرائيلي “جون سيليجمان” الذي شارك مع مجموعة من الباحثين الأميركيين والكنديين والليتوانيين في العثور على النفق الذي حفره أربعون سجيناً يهودياً بالملاعق (هل أكرر؟ أجل بالملاعق) بهدف الفرار من الخاطفين النازيين في الحرب العالمية الثانية في غابة بونار في ليتوانيا. النفق اكتشف في يونيو/حزيران عام 2016. تداولت وكالات الأنباء الخبر، باعتباره تأكيداً لقصة رواها أصحابها قبل سبعة عقود.

مع تقدم القوات السوفييتة باتجاه ليتوانيا، وبهدف إخفاء آثار ما يصل إلى مئة ألف جثة كانت مدفونة في مقابر جماعية في الغابة. ثمانون سجيناً من معسكر “شتوتهوف” النازي، أجبروا على نبش الجثث وحرقها ثم دفن رمادها، سيسمّون لاحقاَ “وحدة حرق الجثث”. مع علم السجناء أنهم سيقتلون هم أيضاً بعد إنجاز مهمتهم، قام نصف هؤلاء بحفر نفق من مكان احتجازهم بطول نحو 34 متراً، على عمق ثلاثة أمتار، ولم يكن لديهم من أدوات الحفر سوى أيديهم والملاعق وأدوات مرتجلة أخرى. استغرق عملهم ستاً وسبعين ليلة من الحفر، وفي ليلة 15 أبريل/نيسان 1944، قام 40 منهم بتنفيذ الهروب. انتبه الحراس إلى الضجيج وقاموا بمطاردتهم. تم إطلاق النار على العديد منهم فقتلوا، لكن 12 فروا ووصلوا إلى مناطق محررة. نجا منهم أحد عشر من الحرب ليرووا قصتهم.

ربما لا أخاطر بمجافاة المنطق لو قلت إنه ليس هناك من سجين في العالم إلا وستخطر في باله فكرة الهرب من السجن. نحن أيضاً خطرت ببالنا على نحوٍ كوميدي، فكرة الهرب عبر حفر نفق من سجن صيدنايا. تناولنا الفكاهة على النحو التالي. بعد استبعاد الحفر من المهجع في الطابق الأول لأننا سوف نكون قد فتحنا ثغرة إلى طابق المطبخ ومنه ثغرة أخرى إلى طابق الحمامات ومنه ثغرة ثالثة إلى طابق الزنازين الانفرادية. ارتأينا أنه يجب أن ننزل إلى المنور (فتحة التهوية) من نافذة الحمام بعد أن ننشر القضبان بمناشير الحديد (كانت المناشير متوفرة حقيقةً بالمئات في السجن عبر شرائها من الشرطة، لأغراض صناعة الهدايا). مع الاحتمال بأن أرضية المنور  بسماكة متر أو اثنين من الإسمنت المسلح، فلو وفقنا بتجاوز الأرضية الإسمنتية فعلينا بعدها حفر نفق بطول يتراوح بين 500 و600 متر لنصل إلى السور الأخير للسجن، فسجن صيدنايا مغلف بعدة أسوار يتخلل بعضها حقول ألغام مضادة للأفراد (كانت ضحيتها في بعض الفترات الكلاب المسكينة، حين يقودها حظها العاثر لدخولها). عمل يحتاج لجيلين أو ثلاثة مع محدودية الأدوات. هذه فعلاً كانت كوميديا الهروب من صيدنايا عبر نفق.

التشكيك برواية فرار الفلسطينيين الستة من السجن الإسرائيلي،عبر الحفر بالملاعق (وهذا واحد من توقعاتنا وليس الحقيقة بالضرورة)، جاء محمولاً على ما يسكن فينا من منطق الهزيمة والسلبية وعدم القدرة على أي فعل، وأحياناً على أرضية الموقف الإيديولوجي من السجناء، وهو غالباً أتى من أناس لم يختبروا السجن إطلاقاً، أو لم يختبروه لسنوات طويلة على الأقل. ففي السجن المديد يتغلب المشترك الإنساني على أي فالق إيديولوجي أو فكري أو سياسي. هذا ما يمكنني أن أؤكد حدوثه مراراً خلال تجربتنا في سجن صيدنايا.

من بين كثيرين ممن لم يصدقوا رواية الفرار الفلسطيني، وشككوا وسخروا من إمكانية إتمامها بأدوات بسيطة كالملاعق، كان الكاتب والروائي المصري “يوسف زيدان”. زيدان اعتبر القصة فيلماً هندياً، واصفاً إياها بأنها مسرحية هروب وهمي للمعتقلين، تدعو للسخرية، مرجّحاً أن السجناء الفارّين لن يظهروا ثانية وهم أحياء كي لا تنكشف المسرحية. ختم الرجل بسخريته منّا نحن الذين صدقنا القصة لسذاجتنا، ليصل إلى خلاصته بالغة الحكمة “الوعي صعبٌ على المُغيبين، والإدراك السليم أصعب، ونحن مغيّبون”. استخدامه لضمير نحن لا يلغي استثناء نفسه من غيبوبتنا نحن الغوغاء. طبعاً تطورات الحدث ستخيّب زيدان. حتى لحظة كتابة هذه المادة أعادت السلطات الإسرائيلية اعتقال أربعة من الفارين الستة وهم أحياء، وإعادة اعتقالهم أمر مؤلم ومحزن بالطبع، رغم أنه يلطم زيدان على وجهه، حين عاكس ظنونه، لكنه لحسن الحظ تراجع عن تحليله، بل واعتذر أيضاً عن تسرعه في تكذيب الرواية، لكنه كما أخمِّن، لن يتراجع عن نظرته وتقييمه لمن صدّقها، بأنه فاقد للوعي والإدراك السليم.

في مساء يوم 19 أكتوبر 1943، ثلاثة طيارين من سلاح الجو البريطاني، هم مايكل كودنر، إريك ويليامز و أوليفر فيلبوت، فروا من معسكر الاعتقال الألماني “ستالاغ لوفت 3”. قام الثلاثة بحفر نفق بطول أكثر من 30 مترًا، في مناوبات من حفّار واحد أو اثنين في وقت واحد، باستخدام أدوات الطعام كمجارف. صنع الضباط الثلاثة حصان قفز خشبي للجمباز، تم تصميمه لإخفاء الرجال والأدوات وأوعية نقل التراب داخله. في صباح كل يوم كان زملاؤهم يحملون الحصان (حصان طروادة المحشو بالفرسان) إلى ذات المكان بالقرب من السياج، وفي أثناء قيام السجناء بتمارين الجمباز، على مرأى من الحراس، تم حفر النفق. في نهاية كل يوم عمل، كان يتم وضع لوح خشبي فوق مدخل النفق وتغطيته بالتربة السطحية. بعد ثلاثة شهور من العمل تمكن الثلاثة من الهرب، ووصلوا جميعاً إلى بريطانيا. هل بدا لكم السيناريو خيالياً ويصلح فقط للسينما؟ نعم. لكنه حدث في الواقع على هذا النحو تماماً.

بعد ذلك بأقل من ستة شهور، ليلة 24/25 مارس/آذار 1944، وفي ذات المعسكر، سيحدث هروب أكبر. العقل المدبر للعملية كان “وورث روجر بوشيل” قائد سرب سلاح الجو الملكي. شارك في حفر وبناء الأنفاق أكثر من 600 سجين. تم حفر ثلاثة أنفاق في ذات الوقت. أطلق عليها أسماء “توم”، “ديك”، “هاري”. كانت العملية سرية، لدرجة أن الجميع كانوا يشيرون إلى كل نفق باسمه. “بوشيل” هدد بمحاكمة عسكرية لأي شخص ينطق بكلمة “نفق” بصوت عالٍ. كشف الألمان النفق “توم” وفجروه بالديناميت، ولم يخطر ببالهم أن نفقين آخرين يحفران في الوقت نفسه. تالياً تم وقف العمل على “ديك” بسبب توسيع الألمان للمعسكر من جهة امتداد النفق. فاستُخدم لتخزين التربة والإمدادات.

في النهاية تم استخدام “هاري” للهروب. مع خروج السجين السادس والسبعين من فتحة النفق، وكانت الخطة هي هروب 220 سجيناً، اكتشف الحراس الألمان عملية الفرار. سيأمر هتلر بإعدام جميع الهاربين، لكن نصائح جنرالاته ومستشاريه بأن البريطانيين قد ينتقمون من الطيارين الألمان الأسرى، جعلته يتراجع قليلاً. تم القبض على 73 من الهاربين خلال أيام، أُعدم منهم حسب أوامر هتلر، خمسون طياراً، ومنهم قائد عملية الفرار “روجر بوشيل”، مع إصدار تقارير تفيد بأنهم قتلوا خلال مقاومة الاعتقال. فقط ثلاثة من الطيارين الفارين العاملين في سرب سلاح الجو الملكي البريطاني سينجحون في الوصول إلى بريطانيا. النرويجيان “بير بيرغسلاند” و”غينس مولر”، إضافة إلى الطيار الهولندي “برام فان دير ستوك”. للطرافة بعد الهروب، قام الألمان بجرد موجودات المعسكر واكتشفوا، من بين آلاف النواقص، اختفاء 478 ملعقة طعام. تم توزيع من نجوا من الإعدام على عدة معسكرات. أحد هؤلاء نُقل إلى معسكر الاعتقال “زاكسينهاوزن”. هناك عاين التشديدات الأمنية، وعلّق ساخراً، كما كنّا نفعل في سجن صيدنايا “السبيل الوحيد للخروج من هنا، هو صعود المدخنة”. عام 1950 سينشر الصحفي الأسترالي بول بريكهيل رواية عن الحدث بعنوان “الهروب العظيم”. بريكهيل بصفته طياراً سجينًا في المعسكر، شارك بفعالية في خطة الهروب، لكنه مُنع من الحفر والهروب مع ثلاثة آخرين، لأنهم مصابون برُهاب الأماكن المغلقة.

لم تكن حالات الهروب الثلاثة تلك هي الفريدة، فقد سُجِّل ما يقدر بنحو 69 حالة هروب جماعي أخرى للأسرى خلال الحرب. في سبع منها كان السجناء الألمان هم من فروا من الأسر. أشهرها كان فرار 83 سجيناً ألمانياً من المعسكر “198” بمنطقة “بريدجند” جنوب ويلز، في مارس/آذار 1945. والآن، هل ستصدّق لو قيل لك أن ستة سجناء يحلمون بالشمس، هربوا بواسطة الحفر بملعقة، وأربكوا وأهانوا السلطات الإسرائيلية كلها، بما فيهم إعلامه ومتحدثوه الرسميون؟ أجل، عليك أن تصدّق، حتى لو قيل أنهم حفروا النفق برأس دبّوس. إنه التوق إلى الحرّية.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى