الغاز لتعويم الأسد وحكومته اللبنانية

سميرة المسالمة

يسعى الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى إعادة تقديم نفسه للمجتمع الدولي فاعلا أساسيا في تحقيق الاستقرار في منطقة هزّ أركانها خلال حرب السنوات العشر الماضية التي خاضها ضد معارضيه، وغيّر خلال ذلك من مفاهيم العلاقات بين دول الجوار جميعها، بما فيها العلاقة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تطوّر دورها خلال مراحل الصراع السوري، من عامل زعزعة في المنطقة إلى دور محوري يحدّد مسارات التغيير السياسي والاقتصادي والعسكري، وتُشرف مباشرة، أو عبر وكلائها، على توقيع التسويات وانتهاء صلاحياتها، أو تجديد مفاعيلها بما يضمن لها حدودا آمنة، ويحقّق انفتاحها المدروس على كامل المنطقة العربية من دون اعتراضات شعبية.

ويدخل ضمن عملية عودة النظام السوري إلى العمل خارج حدود مناطق سيطرته السورية، منحه فرصة إعادة إحياء دوره في لبنان، من خلال موافقة دولية ضمنية، سعت لها فرنسا بوساطة إيرانية وموافقة أميركية وإسرائيلية وأوروبية، ما يهيئ المنطقة برمّتها إلى رسم خريطة جديدة لعلاقاتها مع سورية تتجاوز قانون العقوبات الأميركي “قيصر”. وتقفز نحو تطبيع هادئ مع إسرائيل، بدءاً من تغيير دور حزب الله في لبنان من مقاوم إلى مقاول، عبر تلزيمه الحكومة الجديدة التي يرتبط غالبية وزرائها بدمشق أكثر من ارتباطهم ببيروت.

ولقد استفاد النظام من خطوته الاستباقية بتحذيره، بداية الثورة في 2011، من مدى تأثير التغيير الذي تسعى له الثورات العربية على إسرائيل، وضمان استمرار استقرارها، وفي سورية على وجه الأهمية، نظراً إلى تداخل الحدود معها، فكان إعلان إسرائيل موقفها بالنأي بالنفس عما يحدث في جوارها أحد مكتسباته الأولية، ومنحت النظام الوقت اللازم لصنع صورةٍ لبديله المحتمل في سورية، وهو الإسلام الراديكالي الذي أطلق زعماءه من سجونه، ليجعل خيارها محصوراً به، ومسؤوليتها تجاه حمايته من حليفتها الولايات المتحدة تكبر يوماً بعد يوم، وصولاً إلى السماح له بخرق تسوية الجنوب التي عقدت عام 2018، وكانت إسرائيل أحد داعميها في درعا، إلى جوار حليفها الأميركي وراعي الاتفاقية الروسي.

ولعل تزامن الحديث عن صفقة توريد الغاز المصري “ذي المنشأ الإسرائيلي” إلى لبنان، عبر الأردن من سورية، مع إرادة النظام في انتزاع درعا وإلحاقها بمناطق نفوذه عبر عملية عسكرية شرسة استمرّت نحو سبعين يوماً، لم يكن الهدف منها فقط ضمان المنطقة الجغرافية التي يمتد عبرها خط الغاز، لأن ذلك كان يمكن أن توفره له الشرطة الروسية المخوّلة بحفظ الأمن في مساحات حوران التي تقع ضمن حدود التسوية، وإنما أراد من الحملة، في الوقت نفسه، ضمان عملية تهجير جديدة لغير القابلين للاندماج في مجتمع النظام التجانسي، ما يعيق لاحقاً دخول المنتفعين من تجّاره ومواليه وتوفير بيئة حاضنة لهم ولاستثماراتهم.

لقد أجهض النسيج المجتمعي المتضامن الموجود في درعا خطة النظام في استكمال مشروعه في زيادة عدد المنضوين تحت مسمّى “المجتمع المتجانس أو الصحي” الذي فاخر به الأسد خلال خطابه عام 2017. وعلى الرغم من الصمت والتخلي الدولي عن مسؤولياته تجاه حماية المدنيين العزّل، فقد نجت درعا من مجزرةٍ أعدت لأهاليها المختلفين معه في مفهوم التجانس والوطنية. ومن هنا، يمكن فهم محاولة النظام المستميتة لدخول درعا عسكرياً، قبل أن تكسر عزيمته حالة الصمود الأسطوري لأهلها أمام حصاره الاقتصادي والعسكري، وتحت القصف الهمجي عليها، ومن ثم وضعه شروطا تعجيزية لوقف حملته العسكرية، في محاولةٍ منه لدفع الناس إلى خيار التهجير، وترك بيوتهم ومصالحهم، وهو ما دفعه إلى نشر شائعاتٍ عن قبول الأردن وتركيا خمسين ألف راغب في مغادرة درعا، في عملية خداعٍ غرضها توجّه الأهالي إلى الحافلات، ليُصار إلى نقلهم بشكل إجباري إلى حدود مناطق درع الفرات ونبع السلام، التابعتين للهيمنة التركية ضمن الأراضي السورية.

كعادته التي جاهر بها سابقاً، يعتبر النظام في سورية التسويات أو حتى اتفاقيات مناطق خفض التصعيد مرحلية، لا تُلزمه باستمرار احترامها. وهو اليوم أمام عقد خط الغاز قد يسارع، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة محاولاته إخضاع كامل المناطق الخارجة عن سيطرته، ما يجعل من التسوية الحالية التي ترعاها من جديد روسيا في درعا مجرّد هدنةٍ تمنحه الوقت للتفرّغ لمناطق أخرى، في إدلب مثلاً أو في مناطق قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مراهناً على قبول الولايات المتحدة له من جديد في نادي داعمي استقرار ربيبتها إسرائيل، وتمرير تطبيعها الهادئ مع دول الممانعة، عبر أنابيب غاز تضيء عتمة لبنان حزب الله بخط، وسورية الأسد من وصلة أخرى.

يحتاج تمرير مثل تلك المشاريع فعلياً إلى مجتمع متجانس، يعمل النظام على حمايته من الدخلاء عليه، ويعاقب، في الوقت نفسه، الخارجين منه، ليس لأنه يتمسّك بمواطنيه الذين قبلوا سابقاً شروط التجانس، ولكن لأن ذلك إحدى أدواته لحماية مجتمعه “المتجانس” من التفكّك أو الانهيار، وهذا ما يبرّر له توقيف مجموعة من المهنيين والتجار في حلب، تحت تهمة الهروب من الوطن، والتهرّب من مسؤولية تقاسم الجوع والعوز “والحياة القاسية التي تحتاج ثمنا قاسيا” دفاعاً عن أنفسهم، ولا منية لهم في ذلك على النظام، كما سبق وأن أوردت ذلك مستشارته الإعلامية في 20 يوليو/ تموز الماضي، خلال شرحها خطاب بشار الأسد بمناسبة استمراره في حكم سورية لولاية رابعة.

لقد وضعت الحرب والفساد ومنعكساتهما السوريين واللبنانيين، وغيرهما من الجوار، في واقع خدمي بائس، يجعل من قبول الخدمة من أي يد تقدمها “صديقة”، حتى ولو كانت تحمل مع النور سكّيناً يمزّق جغرافيتها، ويهتك حقوق قضية الحرية في فلسطين وسورية ولبنان وفي كل مكان آخر. إنها الجريمة الحقيقية لما صنعته حرب النظام الطويلة على السوريين وحرب الدول على سورية وفيها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى