لم يأت الاتفاق على تأليف الحكومة اللبنانية التي طال انتظارها بمعزل عن اتصالات دولية وإقليمية، بل جاء بعد اتصال بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي تمّ في خلاله التشديد على ضرورة تأليف حكومة في لبنان تخرجه من أزمته. وبدا أن الرئيس الفرنسي كان بأمسّ الحاجة لعدم التأخير في ولادة حكومة في لبنان كيفما كان، بعدما تعطّلت مبادرته على مدى سنة منذ انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس حيث وعده المسؤولون اللبنانيون بتسهيل مبادرته ونكثوا بوعودهم.
وقد أعقب الاتصال الفرنسي الإيراني تسويق لأهمية دور طهران ولعدم وجود أي مطالب لها في لبنان، وحديث عن حرص العاصمة الفرنسية على التحاور مع وكيل إيران في بيروت حزب الله وامتناعها عن اعتباره إرهابياً كما فعلت ألمانيا وبريطانيا للإبقاء على نافذة التحاور معه، بدليل اجتماع الرئيس ماكرون مع ممثل الحزب في قصر الصنوبر النائب محمد رعد مع بقية رؤساء الأحزاب والكتل النيابية، وحرص باريس باستمرار على وضع الحزب في صورة ما تقوم به من تحركات مثلما حصل بعد زيارة السفيرتين الفرنسية والأمريكية في لبنان للسعودية.
ويشبه التسويق للدور الإيراني في لبنان حالياً التسويق سابقاً للدور السوري قبل عقود، وهذا ما يثير قلق أفرقاء في قوى 14 آذار/مارس سابقاً التي تعتبر ما حصل في موضوع الحكومة تجديداً للتسوية السياسية بشكل أو بآخر مع رئيس الجمهورية ميشال عون وحلول الرئيس نجيب ميقاتي مكان الرئيس سعد الحريري ومزيداً من الغلبة الإيرانية. ولا تخفي مصادر هذه القوى تساؤلاتها حول مغزى إعطاء صك براءة لطهران مما بلغته الأزمة في لبنان نتيجة سلاح حزب الله وفرض هيمنته على القرار اللبناني الحر بالوكالة عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وتعتبر أنه لطالما وقع لبنان ضحية تسويات خارجية بإسم النوايا الحسنة بدءاً بدخول الجيش السوري إلى الأراضي اللبنانية لوقف الحرب عام 1976 وإعادة الاستقرار بتغطية من الولايات المتحدة الأمريكية، ليتبيّن بعد سنوات أن نية المجتمع الدولي في مكان ونية سوريا في مكان آخر، إذ تحوّل الجيش السوري الذي دخل كقوة ردع عربية إلى قوة احتلال في نظر شريحة لبنانية واسعة.
واليوم يأمل ما تبقّى من قوى 14 آذار السيادية ألا تقع فرنسا في الخطأ الأمريكي ذاته عام 1976 الذي سمح بتوسّع النفوذ السوري قبل أن يتغلغل في الداخل اللبناني ويخطف القرار اللبناني ويفرض وصايته بالتمديد لهذا الرئيس أو ذاك، ما أدى إلى استصدار القرار 1559 في مجلس الأمن الدولي وقانون محاسبة سوريا في الكونغرس الأمريكي وصولاً إلى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي قلب الأمور رأساً على عقب وجعل الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك يعيد نظرته من الوجود السوري في لبنان ويضغط لانسحابه.
ولا تعارض قوى 14 آذار أن تسعى فرنسا لتحسين علاقاتها بطهران وأن تحظى شركة «توتال» الفرنسية بأكبر استثمار في مشاريع النفط في العراق وأن يندفع الرئيس ماكرون لتحقيق إنجاز يصرفه في حساباته الداخلية، ولكن ليس على حساب لبنان وسيادته وأي إضرار بمصلحته، في ظل توجّس لدى بكركي من أي تسوية تكون على حساب البلد والدور المسيحي وأي مقايضة بين سلاح حزب الله والحصول على مكاسب في النظام السياسي قد تأتي على حساب المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في السلطة.
وتسأل هذه القوى ألم تسمع باريس التصريحات الإيرانية بأنها باتت تسيطر على 4 عواصم عربية؟ وألم تدرك أن انهيار لبنان جاء نتيجة لسلاح حزب الله ولحروبه في الداخل وخارج الأراضي اللبنانية؟ وألم تتلقّ تقارير دبلوماسية عما آلت إليه علاقات لبنان العربية نتيجة الخطابات العلنية لأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله التي عكّرت صفو هذه العلاقات مع الدول الخليجية وأدّت إلى شبه عزلة لبنانية عن المحيط العربي؟
على خط آخر، لا ينوي ما تبقّى من هذه القوى الاستسلام للإرادة الخارجية بعدما لوحظ أن الطرف السني ارتضى التعامل بواقعية مع النفوذ الشيعي، ولا يعوّل هذا الفريق كثيراً على الخارج لفرض توازن على الساحة اللبنانية. وتعود بالذاكرة إلى ما سبق انتفاضة 14 آذار/مارس 2005 حيث لم تؤد القرارات الدولية على أهميتها إلى تغيير في المشهد اللبناني إلى أن تحقّقت الانتفاضة ورأت القوى الدولية والعربية المشهد المليوني في ساحة الشهداء الذي تحدّى الخوف ونظام الوصاية، مطالباً بإنسحاب الجيش السوري وهو ما تحقّق في 26 نيسان/إبريل من العام ذاته.
ويبدو أن القوى السيادية لا تنتظر هذه المرة تكريس الوصاية الإيرانية رسمياً لتتصدّى لها بل تلوّح بالمواجهة وباستخدام ما لديها من أوراق من أجل عدم جعل لبنان عرضة لتسويات بل الافادة من أي مفاوضات دولية مع إيران لطلب تسليم سلاح حزب الله الذي يشكّل الأداة الأساسية للنفوذ الإيراني في لبنان من دون أي مقايضة على هذا السلاح في النظام السياسي اللبناني أو غيرها من الأمور، ولاسيما أن إيران لن تتنازل بسهولة عن ورقة قوتها في لبنان.
من هنا تعوّل قوى 14 آذار على الانتخابات النيابية والرئاسية لمحاولة فرض توازن جديد، مستفيدة من تراجع شعبية التيار الوطني الحر الذي يشكّل سنداً لحزب الله وغطاء مسيحياً لسلاحه، على أن تفرض الأكثرية النيابية الجديدة واقعاً جديداً أو جبهة سياسية تلتزم ببرنامج موحّد وتدعو بشكل حازم إلى حوار ينهي أشكال الأزمة ويضع حداً للمساكنة مع سلاح حزب الله الخارج عن سلطة الدولة. وتسخر هذه القوى أخيراً من نظرية الجنرال عون الشهيرة «يستطيع العالم أن يسحقني لكنه لن يأخذ توقيعي» فتسأل هل تستحق هذه الحكومة وبعض وزرائها كل هذا التعطيل وهل تمّ فعلاً تحصيل حقوق المسيحيين من خلالها؟
المصدر: »القدس العربي»