هذه الرسالة لفتى مخيم.. ولد وتعلّم ونشأ في مخيمات اللجوء شمال سورية.. أبوه موظف بسيط استشهد وهو ينقل أسرته في الطريق للمخيم بقصف صاروخي.. وأمه ولدت به في المخيم.. ومعظم إخوته وأخواته.. وأعمامه وعماته.. وأخواله وخالاته.. ومعظم أولادهم وبناتهم.. عاشوا في المخيم.
لو أن هذا الطفل الذي يركض وهو في التاسعة من عمره كتب رسالة وقد بلغ الثامنة عشر ويهمّ ليغادر المخيم فماذا تراه سيكتب. سأسرح في مخيلتي لاستشراف ما سيكون محتوى هذه الرسالة؛
الرسالة
” إلى أمي التي لم تبادلْني الحبَّ يوماً بنفس المقدار، اسمحي لي بأن أفشي اليوم عن بعض مما كُتِم في الصدر لعقود طويلة من عتاب قلب عاشق محبٍّ لم يعرف سواك موطناً.
أمي سوريا، كيف أذنت لهم بأن يُطلِقوا عليّ ذلك اللقب الجارح؟ ‘لاجئ’؟!! عجباً! ألم تعلمي بأنني لم أفد إليك بتاتاً؟! بل ولدت على أرضك، ودرست في مدارس المخيم الذي هجرتني وأنا في بطن أمي إليه، ولم أعرف وطناً غيرك! بل إن والدايَّ ما وفدا إليك أيضاً وإنما وُلدا ودرسا وعملا على أرضك أنت لا غير هم أيضاً! فعجباً لما أطلقوه علينا من لقب! علهم قصدوا أجدادي؟ فنعم هم قد وفدوا إلى أرضك لا أدري قبل 2000 أو 5000 عامٍ بعد أن استوطنوك أملاً في أن يجدوا على أرضك ملاذاً آمناً وأماً تحتضن عائلاتهم.. أفتورث عندك الألقاب حتى لو بعد 2000 عام؟!
أمي العزيزة، العنصرية تقتل! قد يُقتل المرء مرة واحدة برصاصة تخترق جسداً كلُّ جرمِهِ أنه ورث لون جلد لم يحبذه غيره أو ولد من طائفة أو منطقة معينة يكرهها آخرون، قد يُقتل المرء مرةً بصاروخ روسي أو برميل أسدي أو قناص طائفي وكلهم يظن بأنه يحقق العدالة أو ينتشي بشهوة الانتقام والنصر حين يقطع شريان الحياة عن أخيه الإنسان، وقد يُقتل إنسان في العمر مئة مرة حين يجد أنه منتقص الحقوق، ومنتهك الاحترام، ومسلوب الفرص، لمجرد أنه وُلِدَ في ذاك المخيم بلا حول منه ولا قوة.. يُشتم فيصمت، ويُحقّر فيصبر، ولا يحق له الاعتراض أو الصراخ فقط لأنه مجرد “لاجئ في أرض اللاإنسانية”.
وتبقى دموع الهوان شاهدة على كل لحظة انكسار في تلك البقعة من العالم التي لا مكان لها على الخرائط أو في الأوراق الرسمية، دولة مؤقتة دائمة ينتظر فيها الإنسان أمرين لا ثالث لهما إما أن يموت أو أن يعيش وبينهما هو في سبات عميق أو غيبوبة بين الحياة والموت يجتر فيها أحلاماً تنقلب كوابيس بمجرد أن يدخل تراب العاصفة الصيفية في عينيه أو تغوص قدماه بوحل المخيم في الشتاء القارس.
غاليتي سوريا، أنا لا أعرفك ولكن قرأت عنك في الكتب الممزقة؛ أن من على أرضك يعشقك ولكن لا أدري إن كنت حقيقةً فوق أرضك، ولا أدري ما قدمتِ لي وماذا يجب أن أقدمه لك بالمقابل!؟ لا أعرف في الحياة سوى عائلتي وعاملي ومشرفي المخيم وبعض ساكنيه الذين علموني كلَّ شيء إلا الابتسام، لقد استغربت هذا التعبير في الوجه الذي رأيته أول مرة مصطنعاً عابراً لدى بعض الغرباء الذين يمرون مسرعين ليوزعوا لنا بعض الإعانة ثم يسلبوا منا جزءاً من كرامتنا مع كل سلة غذاء أو ربطة خبز. سألت والدتي مستغرباً ما هذا التعبير الذي لم أشاهده من قبل فأخبرتني أنه الابتسامة. والدتي علمتني الألم وكانت تدربنا عليه أنا وأخوتي ربما لعلمها أننا سنرمى في أي لحظة بعيداً عن حضنها أو نجد أنفسنا نقف باكين فوق قبرها، لقد أصبحت متمرساً بالغضب والألم والكراهية. لا يخفي كل هذا أنني لا أزال أشعر بأني استُضعفت في أرضك، فشعوري بأنني متساوٍ مع ساكني أرضك في الحياة لم أشعره يوماً، بل فقط شعرت أنني متساوٍ معهم في الموت…!
عزيزتي سوريا، ستبقى علاقتي بك لغزاً يحير جميع البشر من مختلف بلدان العالم المتحضر وغير المتحضر، فهم لا يعون كيف لشخص ولد وعاش جلّ حياته على أرض لا تربطه بها أي روابط.. ‘إذاً أنت من سوريا؟’ ‘لا لست من سوريا، ولكن ولدت وعشت فيها معظم حياتي لا أكثر..’ حوار يتكرر معي عند كل لقاء بشخص جديد بينما أرى في عيونهم التساؤل ذاته …؟!’..
حبيبتي سوريا، لم أكن أطمح بالحصول على جواز سفر من قنصليتك في اسطنبول ولا الانتساب بالأوراق إليك، وإنما كل ما كنت أتمناه منك ومن أبنائك هو العدل والشعور بالانتماء وربما بعضاً من شعور الوطن الذي لم يكتب لي أن أعيشه إلى الآن.. ففي كل مرة كانت تُقَابَلُ همتي للحياة بالرفض من مختلف هيئاتك، من وزاراتك، ونواديك الرياضية، وحكومتك ومعارضتك وحتى مراكز التطوع والمساجد ودور القرآن كنت أشعر بالظلم وأتألم بصمت، وكم تمنيت في سنين عيشي بالمخيم أن أجد شخصاً يخبرني من أنا ولمن أنتمي وماذا أفعل! كم تمنيت في سنين حياتي أن أستيقظ يوماً دون أن أشاهد وجهاً بائساً ينتظر الموت كفرصة يحرص على أن تصيبه قبل غيره…!
قد تتساءلين لماذا العتاب الآن؟ أو لماذا أناديك أمي، أو عزيزتي، أو حبيبتي؟ قد أكون قد لملمت طموحي وغادرت المخيم منذ عام سعياً لحياة أخرى لا أعلم عنها شيئاً، لم أودعك حينها لأنني تركت ورائي أهلاً سأبقى مرتبطا بأي أرض يقيمون عليها، ولكن منذ فترة سقطت هوياتنا جميعاً وانتهت صلاحية أوراقنا دون أن يترك لنا قانونك أي خيار آخر سوى أن تنتهي حكايتنا على أرضك بقرار رسمي ويُمحى اسمنا من قائمة أبنائك للأبد، وكأن عمراً قضيناه على أرضك لم يكن، ولن نمثل لك شيئاً بعد اليوم سوى بضعة أشخاص عابرين مروا على ترابك يوماً ما..
ويغلق من كتاب عمري فصلاً فيه من الشعور بالدونية والهوان الشيء الكثير ولا أدري أين أرحل وأين سأجد إنسانيتي وأين سأجد أرضاً أنتمي لها؟! فالحقيقة أني أحن كل حين إلى المخيم الذي كنت ألعنه هو ورائحته العفنة ووجوه ساكنيه الغاضبة البائسة، لا لشيء ولكن لأني إلى الآن لم أجد غيره. ولهذا السبب فقط أدعوك أمي وحبيبتي وعزيزتي!!!!!
التوقيع: سوري لاجئ فيما قالوا إنّه “وطني”
وداعاً سورية
انتهت الرسالة فانتبهوا!؟