لماذا ذهبت الحكومة الايرانية الجديدة برئاسة إبراهيم رئيسي إلى خيار تأجيل العودة لطاولة المفاوضات النووية في فيينا شهرين، وقد تزيد على ذلك؟ وهل لدى النظام الإيراني استراتيجية جديدة في التعامل مع الدول الغربية والولايات المتحدة في إطار السداسية الدولية؟ وهل حكومة رئيسي قادرة على فصل مسار التفاوض عن مسار المطالبة برفع العقوبات الأميركية، وما هي الوسائل التي تمتلكها لتحقيق هذا الهدف، في ظل حديثها عن وسائل جديدة ومختلفة ستلجأ إلى استخدامها لرفع العقوبات؟
محاولة الإجابة أو التوصل إلى إجابات عن هذه الأسئلة، قد تساعد في فهم كثير من الغموض الذي يسيطر على المشهد التفاوضي حول إعادة إحياء الاتفاق النووي، ويوضح مستقبل الملف النووي وملفات أخرى ينتظر المجتمع الدولي أن يقنع الجانب الإيراني أو يجره إلى وضعها على طاولة التفاوض، وإن كان بمسار مختلف ومنفصل عن مسار التفاوض النووي.
مصالح مجموعة السلطة
قد يكون من غير السهل على الحكومة الايرانية الجديدة الجلوس بسهولة إلى طاولة التفاوض مع الخماسية الدولية (4+1)، في ظل الحال الانتقالية التي تمر بها السلطة التنفيذية المعنية بالعملية السياسية أو في تطبيق السياسات الاستراتيجية للنظام والقيادة العليا التي ترسم هذه المسارات.
حكومة رئيسي يقع على عاتقها مسؤولية الانتقال إلى المرحلة الثانية من الثورة التي رسم معالمها المرشد الأعلى، لذلك فهي تعتبر المرحلة الحالية انتقالية من حكومة معتدلة ووسطية إلى ثورية، وتستند إلى أرضية صلبة توافرت عليها من خلال توحيد مراكز القرار على مستوى مؤسسات الدولة، وتجميعها في يد القوى الموالية للنظام والتيار المحافظ، وبالتالي فهي تعمل في انسجام مع توجهات المرشد الأعلى، وتحرص على تنفيذ توجيهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالتالي فإن هذه الحكومة ستتحرك على المستوى السياسي، آخذة بالاعتبار ما تتطلبه مصالح مجموعة السلطة ومراكز القرار في النظام.
انطلاقاً من هذا التوصيف وهذه المحددات التي وضعتها الحكومة الجديدة لنفسها، وأنها تمثل التيار الثوري المتجدد وقيمه، فإن مسألة العداء مع أميركا أو التمسك بالمواجهة المفتوحة مع الإدارة الأميركية من أهم الأسس والقيم الثورية التي تسعى إلى ترجمتها في التعامل مع واشنطن والدول المتحالفة معها والمجتمع الدولي، على الأقل في توجيه الانتقادات المباشرة لهم، خصوصاً أن هذا الموقف الانتقادي والعدائي تحول إلى أحد أهم مكونات خطاب الجماعة التي تمثلها هذه الحكومة، ولا يمكن التراجع أو التخلي عنه بسهولة، لأن خطوة مثل هذه تفرغ الشعارات التي رفعها هذا التيار على مدى عقود من مضمونه، وتفتح الباب أمام توجيه الاتهام له بتخوين الآخرين الذين سعوا إلى فتح الحوار مع الغرب، لمجرد أنهم لا يمثلون تيار الموالاة للنظام والمحافظين.
تيار السلطة والنظام، وعلى لسان رئيس الجمهورية، لا يعارض الاستمرار في المفاوضات وجهود إعادة إحياء الاتفاق النووي، لا بل بات من أكثر المتحمسين لهذا الاتفاق، وفي الوقت نفسه يرفض الاعتراف بعدم وجود أي خيار آخر أمامه وأمام النظام وإيران للخروج من العقوبات الاقتصادية الأميركية الخانقة، والتخلص من الضغوط التي تمارس ضده في الملفات الأخرى.
وإذا ما كان النظام يتمسك بشرط إلغاء جميع العقوبات التي فرضت بعد عام 2018 من قبل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، فإنه يتمسك أيضاً بمطلب تسريع التفاوض والتوصل إلى نتائج نهائية، من خلال تأكيد رئيسي على رفض مبدأ “التفاوض من أجل التفاوض” أو “الحوار من أجل الحوار”، وإن الجانب الإيجابي في الاتفاق النووي يمكن تطويره لمستويات أكثر إيجابية وعملية في حال كانت لدى واشنطن والدول الغربية النية في ذلك، لأن البديل عن هذا المسار لن يكون سوى إعلان موت الاتفاق، وبالتالي العودة لنقطة الصفر، مما يسمح لإيران بالانتقال إلى خطوة متقدمة في ممارسة الضغوط، سواء في رفع مستويات تخصيب اليورانيوم وتطوير برنامجها النووي بالاتجاهات كافة، أو في العمل على تحدي الإرادة الأميركية في كسر العقوبات، ورفع مستوى التهديد الأمني دفاعاً عما تراه حقها في التعامل التجاري والاقتصادي والمالي مع دول العالم التي لا تلتزم بالسياسة الأميركية.
أزمة القيم الثورية
يمكن القول في هذه المرحلة إن أي قرار تتخذه حكومة رئيسي فيما يتعلق بالمفاوضات النووية أو الحوار مع المجتمع الدولي أو أي قناة حوارية مع الولايات المتحدة الأميركية، إن كانت غير مباشرة في المرحلة الحالية أو مباشرة في المستقبل، هو قرار “السلطة”، أو بتعبير أدق “النظام”، بما هو منظومة تضم المرشد الأعلى والدولة العميقة والمؤسستين العسكرية والأمنية، مما يعني في النتيجة أن تواجه هذه المنظومة أزمة في تسويغ هذا التحول الذي رفضت مستويات أقل منه من الحكومات السابقة التي صنفتها خارج “القيم الثورية” التي تدافع عنها، وشكلت الشعار الذي استخدمته لتوسيع معركتها لاستعادة الدولة والسيطرة عليها لمنع الانحراف عن الخط الثوري.
النظام سيكون مطالباً بتقديم تفسير حول قرار عودته لطاولة التفاوض، بغض النظر عن محاولات استعراض أوراق القوة التي يملكها والجهود التي سيبذلها لإحداث تغيير في المحيط والأجواء السياسية، ولعل المعضلة الأبرز التي سيواجهها ستكون في الإجابة عن أسئلة مفصلية تدور حول قدرته على تحقيق النسبة الأكبر من المصالح الإيرانية في قرار العودة إلى التفاوض، وقدرته على توظيف رفع مستوى التخصيب، في حال اعتماده كخيار لإجبار الطرف الآخر على التخلي عن شروطه، كورقة رابحة، وفي الوقت نفسه رادعة للآخرين، وإذا فشل هذا الخيار فهل سيكون النظام قادراً على مواجهة تحالف أميركي – أوروبي – دولي إضافة إلى الصين وروسيا، يرفض بشكل حاسم الطموحات النووية غير المنضبطة لإيران، وهل هو على استعداد لتحمل مزيد من العقوبات والحصار في ظل تراجع المؤشرات الاقتصادية؟
الخيار الصعب: موت الاتفاق النووي
التلويح الايراني بإمكان إعلان “وفاة الاتفاق النووي” قد لا يكون خياراً سهلاً على النظام، لأن إمكان اللعب على مساحات الفراغ في ما بعد انتهاء الاتفاق قد تكون ضيقة، على الأقل في ما يتعلق بحجم العقوبات والأزمات الاقتصادية والحياتية والأمنية التي سيعانيها ويواجهها، خصوصاً في ظل المستجد الأفغاني وصعوبة أن تتحمل واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون تبعات تساهل جديد في ملفات منطقة غرب آسيا، وتحديداً في موضوع السكوت عن انتقال إيران إلى مستويات متقدمة من تخصيب اليورانيوم، والذي تعتبره خطاً أحمر لا يمكن السماح به.
لذلك، لا يبدو أمام حكومة رئيسي سوى العودة لخيار التفاوض وإعادة إحياء الاتفاق النووي، بما هو المتاح أمامها للخروج من الأزمات التي تعيشها إيران أو التي يمكن أن تظهر في المستقبل.
المصدر: اندبندنت عربية