يقول رجل الدولة الأميركي إنه لم يكن من الممكن تحويل أفغانستان إلى ديمقراطية حديثة، لكن الدبلوماسية الخلاقة والقوة كان من الممكن أن تتغلبا على الإرهاب. ويقول إن “الولايات المتحدة مزقت نفسها في جهودها لمكافحة التمرد بسبب عدم قدرتها على تحديد أهداف قابلة للتحقيق وربطها بطريقة مستدامة من خلال العملية السياسية الأميركية. كانت الأهداف العسكرية مطلقة للغاية وغير قابلة للتحقيق، وكانت الأهداف السياسية مجردة ومراوغة للغاية. وأدى الفشل في ربطها بعضها بعضا إلى توريط أميركا في صراعات من دون نقاط نهائية محددة، وإلى دفعنا داخليًا إلى تفكيك الهدف الموحد والوقوع في مستنقع من الخلافات والجدالات المحلية”.
هذا المقال الذي كُتب بدعوة من “الإيكونوميست” هو جزء من سلسلة مقالات يكتبها مفكرون حول مستقبل القوة الأميركية -لتحديد القوى التي تشكل مكانة البلد العالمية، من صعود الصين إلى الانسحاب من أفغانستان.
* *
يثير استيلاء طالبان على أفغانستان القلق ويركز الانتباه المباشر على تخليص عشرات الآلاف من الأميركيين والحلفاء والأفغان الذين تقطعت بهم السبل في جميع أنحاء ذلك البلد. ويجب أن يكون إنقاذهم أولويتنا الملحة. لكن الشاغل الأساسي، مع ذلك، هو تأميل الكيفية التي وجدت أميركا نفسها بها وهي تتحرك نحو الانسحاب، في قرار تم اتخاذه من دون الكثير من التحذير المسبق أو التشاور مع الحلفاء أو الأشخاص الأكثر انخراطًا بشكل مباشر في 20 عامًا من التضحية، والبحث عن السبب في تصوير التحدي الأساسي في أفغانستان وتقديمه للجمهور على أنه خيار بين السيطرة الكاملة على أفغانستان أو الانسحاب الكامل منها.
ثمة قضية أساسية لطالما اعترضت جهودنا لمكافحة التمرد، من فيتنام إلى العراق ولأكثر من جيل. عندما تخاطر الولايات المتحدة بحياة جنودها، وتراهن بمكانتها وتشرك معها دولًا أخرى، فإنها يجب أن تفعل ذلك على أساس مجموعة من الأهداف الاستراتيجية والسياسية. استراتيجية، لتوضيح الظروف التي نقاتل من أجلها؛ وسياسيًة لتحديد الإطار الحاكم للحفاظ على الناتج داخل البلد المعني وعلى المستوى الدولي.
لقد مزقت الولايات المتحدة نفسها في جهودها لمكافحة التمرد بسبب عدم قدرتها على تحديد أهداف قابلة للتحقيق وربطها بطريقة مستدامة من خلال العملية السياسية الأميركية. كانت الأهداف العسكرية مطلقة للغاية وغير قابلة للتحقيق، وكانت الأهداف السياسية مجردة ومراوغة للغاية. وأدى الفشل في ربطها بعضها بعضا إلى توريط أميركا في صراعات من دون وجود نقاط نهائية محددة، وإلى دفعنا داخليًا إلى تفكيك الهدف الموحد والوقوع في مستنقع من الخلافات والجدالات المحلية.
لقد دخلنا أفغانستان وسط دعم شعبي واسع رداً على الهجوم الذي شنه تنظيم القاعدة على أميركا والذي انطلق من أفغانستان الخاضعة لسيطرة طالبان. وقد سادت الحملة العسكرية الأولية وعملت بفعالية كبيرة. وعاشت حركة طالبان بشكل أساسي في الملاذات الباكستانية، حيث شنت تمردًا في أفغانستان بمساعدة بعض السلطات الباكستانية.
ولكن، بينما كانت طالبان تفر من البلد، فقدنا نحن التركيز الاستراتيجي. لقد أقنعنا أنفسنا بأنه لا يمكن، في نهاية المطاف، منع إعادة إنشاء القواعد الإرهابية إلا من خلال تحويل أفغانستان إلى دولة حديثة ذات مؤسسات ديمقراطية وحكومة تحكم دستوريًا. ولا يمكن أن يكون لمثل هذا المشروع جدول زمني قابل للتوافق مع العمليات السياسية الأميركية. في العام 2010، في مقال رأي كنتُ قد كتبته رداً على زيادة عديد القوات الأميركية في أفغانستان، حذرت من عملية مطولة للغاية ومقتطعة، بحيث تحوِّل حتى الأفغان غير الجهاديين ضد الجهد بأكمله.
وذلك لأن أفغانستان لم تكن دولة حديثة في أي وقت من الأوقات. ويفترض بناء الدولة وجود إحساس بالالتزام المشترك ومركزية للسلطة. لكن التربة الأفغانية، الغنية بالعديد من العناصر، تفتقر إلى هذه المكونات. سوف يعني بناء دولة ديمقراطية حديثة في أفغانستان بحيث تسري أوامر الحكومة بشكل موحد في جميع أنحاء البلاد، ضمنًا، وضع إطار زمني يمتد لسنوات عديدة، بل لعقود؛ ويجري مثل ذلك ضد الجوهر الجغرافي والعرقي الديني للبلد. لقد كانت انقسامات أفغانستان على وجه التحديد، وعدم قابلية البلد للوصول إليه، وغياب السلطة المركزية، هي التي الأسباب التي جعلت منه قاعدة جذابة للشبكات الإرهابية في المقام الأول.
على الرغم من أن وجود كيان أفغاني متميز ربما يعود وراءً إلى القرن الثامن عشر، إلا أن الشعوب المكونة للبلد قاومت المركزية بشدة وعلى الدوام. وقد استمر التوطيد السياسي -والعسكري بشكل خاص- في أفغانستان على أسس عرقية وعشائرية، في بنية إقطاعية أساسًا حيث يكون سماسرة السلطة الحاسمون هم المنظمون لقوات الدفاع العشائرية. وعادة ما يتحد أمراء الحرب هؤلاء، الذين يكونون في صراع كامن مع بعضهم بعضا، في تحالفات واسعة في المقام الأول عندما تسعى بعض القوى الخارجية -مثل الجيش البريطاني الذي غزا البلد في العام 1839، والقوات المسلحة السوفياتية التي احتلت أفغانستان في العام 1979- إلى محاولة فرض المركزية والتماسك.
لذلك، نتج كل من الانسحاب البريطاني المأساوي من كابول في العام 1842، حيث نجا أوروبي واحد فقط من الموت أو الأسر، والانسحاب السوفياتي الخطير والكاشف من أفغانستان في العام 1989، عن مثل هذه التعبئة المؤقتة بين العشائر. أما الحجة المعاصرة القائلة إن الشعب الأفغاني ليس على استعداد للقتال عن نفسه، فلا يدعمها التاريخ. كان الأفغان دائماً مقاتلين شرسين من أجل عشائرهم ومن أجل الحفاظ على الحكم الذاتي القبَلي.
بمرور الوقت، اتخذت الحرب سمة اللامحدودية التي اتخذتها حملات مكافحة التمرد السابقة، والتي ضعف فيها الدعم الأميركي المحلي لها تدريجياً مع مرور الوقت. وقد تم تدمير قواعد طالبان بشكل أساسي. لكن بناء الدولة في بلد مزقته الحرب امتص واستوعب قوات عسكرية كبيرة. وقد امكن احتواء طالبان، ولكن لم يتم القضاء عليها. كما أدى إدخال أشكال غير مألوفة من الحكومة في البلد إلى إضعاف الالتزام السياسي وزيادة الفساد الذي كان مستشرياً مُسبقاً.
وهكذا، كررت أفغانستان الأنماط السابقة نفسها من عدم التوافق الأميركي المحلي. وما عرّفه الجانب المؤيد لمكافحة التمرد في النقاش بأنه تقدُّم، تعامل معه الجانب السياسي على أنه كارثة. واتجهت الجماعتان إلى التسبب بالشلل لبعضهما بعضا خلال عهود الإدارات المتعاقبة لكلا الحزبين. ومن الأمثلة على ذلك قرار العام 2009 بتزاوج زيادة لعديد القوات في أفغانستان مع إعلان متزامن بأن هذه القوات ستشرع في الانسحاب في غضون 18 شهرًا.
كان العنصر الذي تم إهماله هو تهيئة بديل يمكن تصوره وتحقيقه، والذي يجمع بين أهداف قابلة للتحقيق. ربما كان من الممكن تقليص هدف مكافحة التمرد إلى احتواء طالبان بدلاً من تدميرها. وربما كان ينبغي أن يستكشف المسار السياسي الدبلوماسي أحد الجوانب الخاصة للواقع الأفغاني: أن جيران البلد -حتى عندما يكونون على خلاف مع بعضهم بعضا، وأحيانًا معنا- سيشعرون بالتهديد العميق من تداعيات قدرة أفغانستان الإرهابية.
هل كان من الممكن تنسيق بعض الجهود المشتركة لمكافحة التمرد؟ من المؤكد أن الهند والصين وروسيا وباكستان غالبًا ما تكون لديها مصالح متباينة. وربما كانت دبلوماسية خلاقة ستخلص إلى الاتفاق على إجراءات مشتركة للتغلب على الإرهاب في أفغانستان. كانت هذه الإستراتيجية هي الطريقة التي دافعت بها بريطانيا عن المقاربات البرية إلى الهند عبر الشرق الأوسط لمدة قرن من دون إقامة قواعد دائمة، وإنما من خلال الحفاظ على استعداد دائم للدفاع عن مصالحها، جنبًا إلى جنب مع المؤيدين الإقليميين من أصحاب المصلحة.
لكن هذا البديل لم يتم استكشافه أبدًا. وبعد أن خاضا حملاتهما الانتخابية على أساس مناهضة الحرب، أجرى الرئيسان دونالد ترامب وجو بايدن مفاوضات سلام مع طالبان التي كنا قد التزمنا باستئصالها، وحثثنا الحلفاء على المساعدة على ذلك قبل 20 عامًا. وتُوجت هذه المفاوضات الآن بما يرقى إلى انسحاب أميركي غير مشروط أجرته إدارة بايدن.
إن وصف تطور الأحداث لا يلغي القسوة، وفوق كل شيء، المباغتة التي تميز بها قرار الانسحاب. لا تستطيع الولايات المتحدة أن تهرب من حقيقة كونها مكونًا رئيسيًا في النظام الدولي بالنظر إلى قدراتها وقيمها التاريخية. ولا يمكنها أن تتجنب ذلك بالانسحاب. سوف تظل كيفية مكافحة الإرهاب، والحد منه، والتغلب عليه، المعززة والمدعومة من البلدان المعتزة بقيمها وصاحبة التقنية الأكثر تطوراً، تحدياً عالمياً. ويجب أن تتم مقاومة الإرهاب بالمصالح الإستراتيجية الوطنية، إلى جانب أي هيكل دولي يمكننا إنشاؤه من خلال دبلوماسية متناسبة.
يجب أن ندرك أن أي خطوة استراتيجية دراماتيكية لن تكون متاحة في المستقبل القريب لتعويض هذه الانتكاسة التي أوقعناها بأنفسنا عن طريق تقديم التزامات رسمية جديدة في مناطق أخرى، على سبيل المثال. سوف يكون من شأن أي اندفاع أميركي من هذا النوع أن يفاقم خيبة الأمل بين الحلفاء، ويشجع الخصوم، ويزرع الارتباك بين المراقبين.
ما تزال إدارة بايدن في المراحل الأولى من عهدها. ويجب أن تتاح لها الفرصة لتطوير وإدامة إستراتيجية شاملة متوافقة مع الضرورات المحلية والدولية. ولطالما كانت الديمقراطيات تتطور في صراع بين الفصائل. وهي تحقق العظمة بالمصالحات التي تجريها بينها.
*Henry Kissinger: هينز ألفريد كيسنجر (27 أيار (مايو) 1923) سياسي أميركي، ودبلوماسي، وخبير استشاري جيوسياسي، شغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة ومستشار الأمن القومي الأميركي في ظل حكومتي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد. أصبح مستشار الأمن القومي في العام 1969 ووزير الخارجية الأميركية في العام 1973. بسبب مشاركته في التفاوض لوقف إطلاق النار في فيتنام، حصل كيسنجر على جائزة نوبل للسلام في العام 1973 في ظل ظروف مثيرة للجدل، حيث استقال عضوان من اللجنة احتجاجًا على ذلك. وسعى كيسنجر لاحقًا، دون جدوى، إلى إعادة الجائزة بعد فشل وقف إطلاق النار.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The future of American power: Henry Kissinger on why America failed in Afghanistan
المصدر: الغد الأردنية/ (الإيكونوميست)