يبدو الحكم على ما يحدث في تونس، في ما لا يزال جارياً، مجازفة يمكن أن تقود إلى تقديرات غير صائبة في ظل التكتم الذي يدير به الرئيس قيس سعيّد المرحلة الجديدة بعد 25 تموز (يوليو) الماضي، حيث تبدو أي محاولة لتحليل أو للتكهن بالخطوة المقبلة للرئيس بالاعتماد على أدوات سياسية أو منهج سياسي أو حتى علمي، لن تفضي إلى نتيجة متماسكة إلا من باب المصادفة. الرجل لا يشتغل في السياسة باعتبارها مهنة وأخذ ورد وتكتيك، لذلك فإن محاولة اسقاط تجربة العشر سنوات الماضية للتنبؤ بما سيفعل لاحقاً ستكون فاشلة.
في المقابل توجد مدوّنة مهمة لخطب ومقابلات قام بها قبل صعوده للسلطة في 2019 فيها الكثير من المفاتيح التي يمكن أن تحلّ ألغازه الكثيرة: سعيّد يرى السياسة باعتبارها “مشروعاً رسالياً” ويعتبر نفسه حاملاً لهذه الرسالة التي فوضه الشعب لتحقيقها وماضياً في طريق تحقيقها، كلّفه ذلك ما كلّفه، بل يذهب إلى اعتبارها في خانة القتال “المسؤولية هي كره … حينما تقف على جبهة القتال كالجندي … لا يحب أن يقتل لكن كتب عليه أن يقاتل” (مقابلة في 2019). رجل “يقيني” من خارج “نسبية” السياسة وتقلباتها، وليس في وارد منافسة أي أحد، حيث يشير في حوار سابق له إلى “أنني لست منافساً لأي كان ولست في سباق مع أي طرف”. فهو شديد الطمأنينة واليقين في داخله، ويبدو أن إيمانه اليقيني والشديد والصارم بهذه “الرسالية” يجعله في مناعة ذاتية عن تقبل أي ضغط، بل عن طلب المشورة من أي كان، وقد كان واضحاً في آخر خطاب متحدثاً عن أن ما يفعله نابع من قناعته الشخصية وحده، مؤمناً شديد الإيمان بدور الفرد في التاريخ باعتباره مخلصاً، لكن سجايا الفرد ليست عاملاً من عوامل التطور الاجتماعي إلا بمقدار ما تسمح به العلاقات الاجتماعية، ويبدو أن ذلك سيكون في صالحه على الأقل في المدى القريب، حيث يحظى بدعم من الفئات الوسطى الغالبة في المجتمع عدداً ودخلاً وتمكيناً.
لم يأتِ قيس سعيّد إلى الحكم مصادفةً، بل أن سياقاً كاملاً بدأ في عام 2011 وانتهى في 2019، ساهم في شكل جذري في صعوده إلى السلطة ولاحقاً في تمكينه منها دفعة واحدة في 25 تموز (يوليو) الماضي. فسلطة الدولة ليست معلّقة في الهواء، كما يشير ماركس إلى ذلك ببراعة في “18 بروميير”، محللاً صعود لويس بونابرت إلى السلطة منفرداً في واقعة تاريخية تكاد تكون متطابقة مع ما فعله سعيّد مساء 25 تموز (يوليو) في غفلة من الجميع.
يمثل قيس سعيّد اليوم طبقة هي أكثر طبقات المجتمع التونسي عدداً وهي الفئات الوسطى، التي تشكلت كطبقة سائدة منذ ستينات القرن الماضي والتي كانت دائماً تمثل القاعدة الاجتماعية للنظام، حيث دخلت في نوع من المقايضة الطبقية مع السلطة، التي منحتها امتيازات الرعاية الاجتماعية مقابل الولاء، وكان ذلك أساساً يتم من خلال النقابة، إذّ يبدو أن تاريخ التمثيل النقابي في تونس المستقلة هو تاريخ الطبقة الوسطى وليس العاملة. وقد استمرت هذه المقايضة متماسكة حتى نهاية القرن العشرين ثم أصبحت تتفكك وسط اهتراء أوضاع هذه الطبقة بسبب الخصخصة وصعود شبكات القرابة وكذلك يتطلع قسم منها للتغيير السياسي والاجتماعي الليبرالي، حتى انتهت في 2010، ثم تأتي مرحلة خيبات الأمل المابعد ثورية لتضع هذه الطبقة أمام مخاطر التفكك الوجودي لأسباب تتعلق بمستوى الدخل وإغلاق مجال العمل السياسي والاقتصادي أمام أقلية تمثل المصالح المشتركة للطبقة التي حكمت بعد كانون الثاني (يناير) 2011، لذلك لا يمكن تجاهل الصراع الطبقي في تحليل صعود قيس سعيّد إلى السلطة في 2019، عندما فقدت الفئات الوسطى الثقة تماماً في من يدّعون تمثيلها منذ سنوات وتوجهت للتصويت بكثافة لسعيّد في محاولة أخيرة لإنقاذ نفسها من التحلل أمام تنامي الصراع بين الطبقات الفقيرة والأقلية المهيمنة على السلطة والثروة، فيما فضّلت الطبقات الرثة وشديدة الرثاثة الخيار السريع في قبض الثمن وهو نيبل القروي حيث أن “ظروف معيشتهم وأوضاع حياتهم تجعلهم أكثر استعداداً لبيع انفسهم”.
يبقى السؤال الأبرز اليوم: ماذا يريد الرئيس؟
أعتقد أن الرئيس يتجه فعلياً نحو إجراء تعديلات جذرية على الدستور الحالي، تطاول النظام السياسي من خلال إعادة النظام الرئاسي، ونحن عملياً في نظام رئاسي منذ مساء 25 تموز (يوليو) الماضي وحتى إشعار آخر، وحده الرئيس يعلم موعده ومداه. يبدو أن التوقف بدقة عند التراكيب التي ينطق بها الرجل بشدة في خطبه سيكون مفيداً لمعرفة ما يدور في رأسه في ظل غياب أي مصادر للمعلومات. في خطاب سابق قال بوضوح: “لا أدري لماذا كل هذا الجدل حول الحكومة، الوزراء يباشرون مهماتهم والأمور تسير بشكل عادي”. وعملياً يبدو محقاً، فالرجل قد أقال الحكومة وعلق البرلمان وجمع صلاحياتهما معاً في قرطاج، وهو حالياً رئيساً ورئيس حكومة، والوزراء يعملون تحت سلطته، فقط ينقصهم وزير أول على الشاكلة التي كانت قائمةً مع دستور 1959. والحقيقة أن الرئيس لم يخفِ في أكثر من مناسبة إعجابه بدستور 1959، باعتباره دستوراً رئاسياً وشديد المركزية، حيث يعتبر الرئيس في مشروعه لتغيير النظام السياسي مركزية السلطة التنفيذية أمراً أساسياً لإنجاح التجربة. كما يسعى سعيّد إلى إقرار “الديموقراطية المجلسية” القائمة على انتخاب مجالس محلية عبر التصويت للأفراد بالأغلبية، فالرجل قد غسل يديه منذ سنوات من الديموقراطية التمثيلية ومنظومة الأحزاب معتقداً فشلها في التسيير كما فشلت سابقاً في قيادة الانتفاضة، على حد قوله، أو ما يسميه بـ”الانفجار الثوري غير المسبوق”.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة وقلق اليوم: هل يمكن لأفكار الرئيس النظرية أن تكون مجدية في الواقع؟ وهل سينجح سعيّد ومن ورائه فئات الطبقة الوسطى الواسعة في إنقاذ نفسها وفي قيادة التغيير الاجتماعي؟ لا يبدو أن ذلك سيكون مؤكداً، حيث تكشف دروس التجربة التاريخية عن عجز هذه الطبقة عن القيام بهذه المهمات رغم تعدد الأساليب التي اعتمدتها، سواء من خلال تجربة الحزب الواحد أو من خلال الحكم الأمني، وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة هذه الطبقة في ذاتها وبضيق أفق وطموحات تفكير عناصرها، حيث لا تملك هذه الطبقة برنامجاً للتغيير الجذري لموازين القوى في المجتمع، وكذلك بغياب وحدة المصالح بين الفئات المكوّنة لها، إذّ تضم مروحة عريضة من صغار الكسبة والموظفين وصغار الفلاحين وصغار التجار وغيرهم سواء في القطاع العام أو الخاص. وهذه الفئات ليست على قلب واحد في تطلعاتها السياسية والاجتماعية، وقطعاً لن تكون على قلب واحد في مواصلة دعم النظام وتالياً لن تكون قادرة على قيادة التغيير المنشود، ولكنها في المقابل يمكن أن تحقق مكاسب جزئية من قبيل إعادة ترميم علاقات المقايضة الطبقية التي كانت سائدة قديماً والتي يمكن أن تفقدها مكاسب سياسية وحقوقية، ليستدير زمان على هيئته.
إن مأساة تونس المعاصرة هي مأساة الطبقة الوسطى وترددها في الانحياز الواضح والجذري في مواجهة الأقلية المهيمنة.
المصدر: النهار العربي