شرح رأسمالية القرن 21 بطريقة يفهمها الجميع

ريتشارد د. وولف*       ترجمة: علاء الدين أبو زينة

يحصل الرأسماليون على فائض القيمة بينما يحصل الموظفون على أجور أو رواتب. وهذا الاختلاف حاسم. فبالنظر إلى أن أصحاب العمل يحتلون الموقع المهيمن المتمثل في صنع القرار في أماكن العمل (المؤسسات)، فإنهم يستخدمون هذا الموقع لضمان أن تحقق الشركات أرباحا كأولويتهم الأولى، “غايتهم النهائية”. ويسعى أصحاب العمل إلى تقليل الأجور أو الرواتب التي يحتاجون إلى دفعها للعاملين المستخدمين، المنتجين وغير المنتجين على حد سواء، إلى أقصى حد ممكن. وكلما زاد قمعهم لأجور أو رواتب العمال المنتجين، زادت حصة الفائض التي يتمكنون من جنيه في شكل أرباح.

* * *

الآن، بعد أن أدرك الكثير من الناس أن النظام الرأسمالي يضج بالمشاكل، فإنهم يريدون شرحا واضحا لطريقة عمل النظام. وهم غير راضين ونافدو الصبر إزاء الكيفية التي تتعامل بها المساقات المدرسية، وتصريحات السياسيين، ووسائل الإعلام السائدة مع الموضوع. وتبقى المعرفة الأساسية بأبجديات علم الاقتصاد الأساسي منخفضة بشكل ملحوظ في الولايات المتحدة -حتى في الوقت الذي يبدي فيه مواطنوها اهتماما كبيرا بالجوانب المالية في حياتهم. ولذلك، تهدف هذه المقالة القصيرة إلى عرض أساسيات النظام الرأسمالي بما يمكن من الوضوح.

الرأسمالية هي طريقة واحدة فقط –نظام- لتنظيم إنتاج وتوزيع السلع والخدمات. وهي تختلف عن الأنظمة الأخرى مثل، العبودية والإقطاع، ولكنها تشترك معها أيضًا في بعض أوجه التشابه. مثل العبودية والإقطاعية، تقسم الرأسمالية أولئك المنخرطين في إنتاج وتوزيع السلع والخدمات إلى مجموعتين، واحدة صغيرة والأخرى كبيرة. كان للعبودية أسياد (قليلون) وأشخاص مستعبدون (كثيرون)، بينما قسم الإقطاع المجموعات إلى أمراء (قليلين) وأقنان (كثيرين). وأرباب العمل هم المجموعة الأصغر للرأسمالية. وهم يسيطرون على النظام الاقتصادي، ويوجهونه ويشرفون عليه. ويستخدم أرباب العمل الإنتاج والتوزيع لتنمية ثرواتهم. ورأس المال هو الثروة المنخرطة في عملية التوسع الذاتي. وباعتبارهم وكلاء منظمين ومؤهلين اجتماعيا للقيام بهذا التوسع، فإن أرباب العمل رأسماليون.

تضم المجموعة الأكبر بكثير في الرأسمالية المستخدَمين (أو العمال). ونظرًا لأنهم يشكلون الأغلبية في أماكن عمل النظام، فإنهم يقومون بمعظم العمل. وينقسم المستخدمون إلى مجموعتين. إحداهما، التي يطلق عليها غالبا اسم “العمال المنتجون”، هم أولئك العاملون الذين يشاركون مباشرة في إنتاج السلع أو الخدمات. في شركة تنتج الكراسي، على سبيل المثال، يكون العمال المنتجون هم صانعو الكراسي (الأشخاص الذين يقومون مباشرة بتحويل الخشب إلى كراسي). ولا تشارك المجموعة الثانية من المستخدَمين، التي يطلق عليها غالبا اسم “العمال غير المنتجين”، بشكل مباشر في تصنيع في المنتج من مكان العمل. بدلاً من ذلك، يوفر العمال غير المنتجين الظروف والسياق التي تمكن العمال المنتجين من إنتاج الناتج مباشرة. وتشمل أمثلة العمال غير المنتجين في مكان العمل، الكتبة الذين يحتفظون بالسجلات، وموظفي أقسام المبيعات والمشتريات الذين يؤمنون المُدخلات ويسوِّقون المُخرجات.

يقرر أرباب العمل الرأسماليون وحدهم مزيج العمال المنتجين وغير المنتجين الذين يوظفونهم، وما يفعله كل منهم، وما هي التقنيات التي يستخدمها كل منهم، والمكان الذي ينجزون فيه عملهم، وما يحدث لثمار عملهم. وفي حين يتم استبعاد العمال المنتجين وغير المنتجين من المشاركة في تلك القرارات، فإنهم يتعايشون مع عواقبها.

يستخدم العمال المنتجون الأدوات، والمعدات، والمباني التي يدفع ثمنها ويوفرها أرباب العمل الذين يوظفونهم. ويقوم العمال المنتجون بتحويل المواد الخام التي يشتريها ويقدمها أرباب العمل بالمثل. وتنطوي “وسائل الإنتاج” هذه، (الأدوات، والمعدات، والمرافق والمواد الخام) التي يشتريها أصحاب العمل على قيمة معينة تنتقل إلى المنتج النهائي. ويضيف العمال المنتجون المزيد من القيمة إلى المُنتَج من خلال إنفاق عملهم التحويلي واستخدام وسائل الإنتاج التي يوفرها لهم أصحاب العمل. وهكذا، فإن الناتج النهائي لكل مكان عمل رأسمالي يحتوي على قيم الأدوات والمعدات والمواد الخام المستعملة، بالإضافة إلى القيمة المضافة التي يضيفها بعملهم العمال المنتجون.

النقطة الأساسية التي يجب فهمها هنا هي أن القيمة المضافة المتأتية من العمال المنتجين تكون أكثر بكثير من قيمة الأجور التي يدفعها لهم صاحب العمل. على سبيل المثال، قد يوافق صاحب العمل على دفع 20 دولارا للعامل المنتِج في الساعة لأنه -وفقط لأنه- عمل هذا العامل المنتجي يضيف، خلال كل ساعة، قيمة أكثر من 20 دولارا إلى المنتَج. وغالبًا ما يُطلق على هذا الفرق الرئيسي بين القيمة المضافة وقيمة مدفوعات الأجور “فائض القيمة”. ويتلقى أصحاب العمل الرأسماليين (أو بالأحرى يأخذون) تلك القيمة الفائضة ويسحبون منها جزءًا يسمونه “الربح”.

يمكن أن يوضح الحساب البسيط للإنتاج الرأسمالي هيكلية هذا الإنتاج. أولاً، قيمة وسائل الإنتاج المستهلكة، بالإضافة إلى القيمة التي يضيفها العمل المنتج، تساوي القيمة الإجمالية للناتج. ويتلقى صاحب العمل، ويمتلك، ويبيع هذا الناتج في السوق. ثانياً، الزيادة في القيمة المضافة من العمل المنتج، علاوة على، وفوق قيمة الأجور المدفوعة للعامل المنتج، تزود أصحاب العمل بفائض القيمة. ويستخدم أرباب العمل جزءًا من فائض القيمة لتوظيف العمال غير المنتجين ولتوفير الشروط التي تمكِّن العمال المنتجين من توليد فائض القيمة ذاك. وتشمل هذه الشروط الفوائد المدفوعة للدائنين الذين يقرضون الرأسمالي، والأرباح الموزعة على أولئك الذين اشتروا أسهماً في المشروع.

ما تبقى من فائض القيمة هو ما يسميه الرأسماليون الربح. وهم يستخدمون الربح لتنمية مشاريعهم ومؤسساتهم ودعم مستويات استهلاكهم الخاص. وفي الشركة الرأسمالية الحديثة، يكون الرأسماليون هم أعضاء مجالس الإدارة الذين يحتفظون بالأرباح التي في أيديهم ويستخدمونها بشكل رئيسي لتنمية الشركة وتمكين الاستهلاك المعزز لدى كبار مسؤوليها، (مثل الرؤساء التنفيذيين) وكذلك المديرين.

يحصل الرأسماليون على فائض القيمة بينما يحصل الموظفون على أجور أو رواتب. وهذا الاختلاف حاسم. فبالنظر إلى أن أصحاب العمل يحتلون الموقع المهيمن المتمثل في صنع القرار في أماكن العمل (المؤسسات)، فإنهم يستخدمون هذا المنصب لضمان أن تحقق الشركات أرباحًا كأولويتهم الأولى، “غايتهم النهائية”. ويسعى أصحاب العمل إلى تقليل الأجور أو الرواتب التي يحتاجون إلى دفعها للعاملين المستخدَمين، المنتجين وغير المنتجين على حد سواء، إلى أقصى حد ممكن. وكلما زاد قمعهم لأجور أو رواتب العمال المنتجين، زادت حصة الفائض التي يتمكنون من جنيه في شكل أرباح.

يقوم كبار كهنة الرأسمالية -الاقتصاديون المحترفون- بنشر وتدوير الحكايات (يفضلون تسميتها بالنظريات) التي تبرر النظام. وهم يسعون بذلك إلى إقناعنا بأن “تعظيم ربح” الرأسماليين يحقق أكبر قدر من الكفاءة والنمو الاقتصادي وأفضل فائدة لأكبر عدد من الناس. وهم يريدون أن يجعلوننا نصدق أن السلوك (المدفوع بالربح) الخادم للذات لفئة أصحاب العمل هو، بطريقة سحرية، الأفضل للمستخدَمين أيضاً. وبطريقة مشابهة، كان كهنة سابقون قد أصروا على أن العبودية وسادتها الخادمون لذواتهم هي أفضل ترتيب اجتماعي ممكن للأشخاص المستعبَدين. وبالمثل، أشاد الكهنة خلال نظام الإقطاع به وبلورداته الخادمين لأنفسهم أيضاً باعتبار ذلك أفضل ترتيب اجتماعي ممكن للأقنان.

لأن تعظيم الأرباح يخدم أصحاب العمل الرأسماليين، فإن الاقتصاد السائد يحتفل بالأرباح. وفي العقود الأخيرة، استعار هذا التيار الرئيسي من الرياضيات المفهوم المجرد (النموذج) لتصوير نظام مبسط حيث يؤدي تعظيم عنصر واحد منه إلى تعظيم العديد من عناصره بطريقة تلقائية. ثم أصر هؤلاء الاقتصاديون على أن مثل هذا النموذج يجسد (أي يمثل بشكل مناسب) كيفية عمل الرأسمالية. ولكن، لا يخدعنك ذلك، إنه لا يفعل. إن النموذج الرياضي بسيط، لكن الرأسمالية ليست كذلك. إن تعظيم وجني الأرباح من كل مشروع رأسمالي هي الطريقة التي يراكم بها الرأسماليون الثروة. وهذا جيد لهم لكنه ليس كذلك على الإطلاق بالنسبة لبقيتنا. إن إبقاء الأرباح بعيدة عن المستخدَمين يبقيهم في حاجة إلى الاستخدام والعمل من الرأسماليين. وهذا أيضا جيد لأصحاب العمل. ويعيد نظام الربح إنتاج الرأسمالية بمرور الوقت من خلال إعادة إنتاج الرأسماليين من جهة، والعمال الذين يحتاجون إلى وظائف من جهة أخرى. ولم يكن الرأسماليون والعمال مستفيدين على قدم المساواة أبداً من هذا النظام.

تشكل السوق مؤسسة أخرى تستخدمها الرأسمالية لإعادة إنتاج نفسها. وكانت الأسواق موجودة قبل وقت طويل من صعود الرأسمالية الحديثة لتصبح النظام الاقتصادي المهيمن عالميًا اليوم. كانت للرق والإقطاع أسواق، ولكن ليس بطريقة فريدة وليس بالقدر الذي تمتلكه الرأسمالية. الرأسمالية تُدرج السوق في العلاقة الأساسية بين موقعين رئيسيين في النظام: صاحب العمل والمستخدَم. يشتري صاحب العمل قوة العمل الموجودة لدى المستخدَم من الأخير (الذي يملكها). وعلى النقيض من ذلك، كان الناس المستعبدون يُشترون من الأسواق، لكن قوة عملهم لم تكن ملكهم لكي يبيعوها. ولم يكن اللوردات الإقطاعيون يشترون الأقنان ولا قوة عملهم. وكان فقط عندما تراجعت أنظمة العبودية والإقطاع حين ظهرت بعض الأسواق لقوة العمل، وبذلك أشرت على بعض الانتقال نحو الرأسمالية.

للرأسمالية وفرت الأسواق الوسائل لتأمين نسبتها الحاسمة: الفرق بين القيمة المدفوعة مقابل قوة العمل (الأجر) والقيمة المضافة بواسطة جهد عمل العامل. وهذا الفرق هو الشرط الأساسي لإنتاج العامل المنتِج فائض القيمة، الذي يأخذه الرأسمالي بعد ذلك ويقوم بتخصيصه وتوزيعه اجتماعياً.

كانت مسائل تعظيم الأرباح والأسواق دائمًا محددة بعناية ومصممة لخدمة إعادة إنتاج الرأسمالية. وكانت هذه هي الطريقة التي تطورت بها الأسواق بمجرد أن حل التنظيم الرأسمالي للإنتاج والتوزيع محل أنظمة العبودية والإقطاع التي سبقته. كانت تلك الأنظمة الأخرى إما رفضت الأسواق، أو أنها شكلت الأسواق بطريقة تعيد إنتاج نفس تلك الأنظمة المختلفة غير الرأسمالية. ولا يمكن سوى لأصولية أيديولوجية ضيقة أن ترفع الأسواق، أو الأرباح، أو الرأسمالية نفسها إلى مرتبة فوق تاريخية كما لو أن أيًا منها تمتلك القدرة على إيقاف دفق التغيير.

لا تمثل أنظمة السوق والربح في الرأسمالية شيئاً مطلقًا وفوق تاريخي من الكفاءة القصوى أو المثلى (الكلمات المفضلة في علم الاقتصاد السائد الآن). ولنتذكر أن الأنظمة الاقتصادية السابقة ولَّدت دائمًا أيديولوجيات قوية تصر على أنها كانت هي أيضًا “نهايات تاريخية” دائمة ومثالية. وهذا وحده يجب أن يزود الاقتصاديين المعاصرين ببعض الانضباط والوعي النقدي الذاتي. لكن معظم هؤلاء الاقتصاديين قدموا، بدلاً من ذلك، مجموعة أخرى من الادعاءات الإطلاقية نيابة عن الرأسمالية. وقد وجد الاقتصاد السائد صعوبة كبيرة في أن تحتوي على أي نقد ذاتي من هذا القبيل. وربما لعبت مطالب الرأسماليين بالولاء الأيديولوجي من مستخدَميها دورًا في هذه خلق هذه الصعوبة.

إن التاريخ لم يتوقف. وقد وُلِد كل نظام اقتصادي آخر في تاريخ البشرية، وتطور، ثم توقف عن الوجود في مرحلة ما. والتوقع الأكثر منطقية هو أن الرأسمالية، بعد أن وُلدت وتطورت، سوف تتوقف يومًا ما عن الوجود هي الأخرى. لطالما كان البشر يفقدون الصبر ويسأمون من الأنظمة الاقتصادية التي لديهم ويتوقون إلى شيء أفضل. وعدد الأشخاص الذين يشعرون بهذه الطريقة تجاه الرأسمالية آخذ في الازدياد عالميًا. ويمكن أن يساعد شرح أساسيات الرأسمالية، التي ينبغي استبدالها، في دفع المجتمع إلى المضي قدُما الآن.

*أنتج هذا المقال مشروع “الاقتصاد للجميع” Economy for All، وهو مشروع تابع لـ”معهد الإعلام المستقل”.

*Richard Wolff: هو مؤلف كتب Capitalism Hits the Fan وCapitalism’s Crisis Deepens. وهو مؤسس “الديمقراطية قيد العمل”.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Explaining 21st-Century Capitalism in a Way Everyone Can Understand

المصدر: الغد الأردنية/(كاونتربنش)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى