كان متوقعاً أن الجزائر ستُقدم على خطوة قطع العلاقات مع المغرب لاعتبارات تتعلق برؤيتها، التي تتمثل في أن الأخير بات طرفاً مناوئاً لسياساتها ليس في المنطقة المغاربية، بل مع دول الجوار الإقليمي والأفريقي، وتجاوزه إلى إسرائيل وإيران وتركيا وأطراف أخرى، وهو ما أدى إلى سيناريو صفري والاتجاه إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الحفاظ على نظيرتها القنصلية، الأمر الذي سيفتح الباب لاحقاً لتقريب وجهات النظر وربما التهدئة حال دخول وسيط مفاجئ على الرغم من قطع العلاقات رسمياً.
مبادرة الجانب الجزائري بقطع العلاقات وتفنيد مساحات التباين والتجاذب الكبرى مع المغرب، مردها تأكيد وجود خلفيات ممتدة منذ سنوات، كُللت سلباً بخطوة القطيعة الدبلوماسية بصرف النظر عن التفاصيل التي جاءت مصاحبة للقرار رسمياً، وحرص الجزائر على الإشارة إلى وقائع محددة تتعلق بأزمة الصحراء، والتدخل في شأنها الداخلي إضافة إلى المساس بأمنها من خلال دعم ومساندة منظمات موصوفة بالإرهاب بها. الأمر الذي أدى إلى اتخاذ هذه الخطوة التي سبقها منذ عدة أشهر إجراء دبلوماسي انفرادي في مواجهة المغرب، الذي لم يدرك تبعاته وأخفق في تقييماته، واعتبره في إطار مناكفات ممتدة بين البلدين ليس أكثر.
عدم الرد المغربي على كل ما تمت الإشارة إليه جزائرياً، واعتباره في العموم غير صحيح، جملةً وتفصيلاً، يؤكد، أن الأمر ارتبط بمسعى واضح، ومخطط ارتكز على توجيه اتهامات حقيقية للجانب المغربي بالقيام بأعمال تمس الداخل الجزائري، وأهمها بالتأكيد الاتهام المحدد بالتجسس على الدولة ومؤسساتها عبر تطبيق “بيغاسوس” الإسرائيلي، ودعم الحركات الإرهابية لافتعال الحرائق، على الرغم من توجيه دعوة ملكية مغربية بتفعيل الحوار المشترك لتطوير العلاقات المشتركة بين البلدين، وفتح الحدود المغلقة منذ 1994.
من الملاحظ أن الجانب المغربي اتبع منهجاً هادئاً ولم يصعد، بدليل ما ذكره رئيس الوزراء المغربي، سعد الدين العثماني، من أن عودة العلاقات بين البلدين قدر محتوم وضروري على الرغم من التصعيد الجزائري اللافت، الذي ركز على التطور التاريخي للعلاقات، والدور السلبي الذي لعبه المغرب منذ استقلال الجزائر، وبدأت بالحرب المفتوحة عام 1963 التي شنتها قوات الرباط ضد الجزائر حديثة الاستقلال وقتها، ثم تتالت مساحات التباين، التي ارتبطت باعترافها باستقلال الصحراء، ما أدى إلى قطع العلاقات رسمياً عام 1976، ثم عودتها عام 1988 بدور سعودي مباشر، ومن خلال وساطة نجحت بالفعل في إعادة العلاقات بين البلدين.
أشارت الجزائر أيضاً في قرار قطع العلاقات إلى انتهاك المغرب ما اتُّفق بشأنه في مذكرة التعاون المشترك وحسن الجوار، وكانت الإشارة الجزائرية المباشرة في ملفات محددة، إضافة إلى ما سبق وطُرح من خلال الإعلان عن حق تقرير المصير لشعب القبائل (أزمة الصحراء)، وما ارتبط بها باعتراف أميركي قبل رحيل إدارة ترمب بتبعية الصحراء للمغرب، الذي أعقبه توقيع اتفاق السلام بينه وبين إسرائيل، والبدء في العلاقات الرسمية بين البلدين. ثم زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، المغرب، وإطلاقه تصريحات ضد الجزائر بتأكيد ارتباطها بإيران وتأثير ذلك في أمن الإقليم. وهو ما اعتبره الجزائريون خروجاً عن الأعراف الدبلوماسية المعتادة؛ أن تهاجم إسرائيل دولة عربية من أرض مجاورة.
تصعيد جزائري
أكدت الجزائر أن المنظمتين الإرهابيتين “ماك” و”رشاد” نفذتا جرائم بالبلاد بدعم ومساندة مغربية، وشددت على دور المغرب في تجميد الاتحاد المغربي وإيقاف مهامه منذ عام 1995 بقرار منفرد ومن دون أي مشاورات مع أي جانب، ولوحظ في أن رد الرباط في المقابل طرح في سياقات محددة، منها التأكيد أنه سيظل شريكاً للشعب الجزائري، ومواصلة العمل معه بكل حكمة ومسؤولية.
ويبدو أن اختلاط الملفات وتداخلها هو الذي أدى إلى التصعيد الجزائري غير المسبوق، فالأخيرة تتحرك في الاتحاد الأفريقي وخارجه وتريد تفعيل دورها، الأمر الذي ما زال محل تحفظ من بعض الدول العربية والأفريقية؛ فقد زار وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، بعض الدول العربية لمحاصرة عودة إسرائيل إلى الاتحاد الأفريقي كمراقب، وهو ما حظي بدعم مغربي مباشر وسط بدء العلاقات بين الرباط وتل أبيب، وهو ما كان وسيظل محل تجاذب بين البلدين في إطار رفض جزائري أي دور إسرائيلي في الاتحاد وخارجه. إضافة إلى بدء تحرك الدبلوماسية الجزائرية في مساحات متعددة والانفتاح على تركيا وإيران، وهو ما أزعج إسرائيل، كما أبدى المغرب تحفظات على هذه التوجهات، فكان التصعيد في ملف الصحراء والداخل، بخاصة مع التحرك الأميركي الإسرائيلي المغربي بهذا الشأن، وتكريس سياسة الأمر الواقع، وهو ما رفضه الجانب الجزائري وتعامل معه بجدية، خصوصاً أنه اعتبر الانحراف الدبلوماسي المغربي في الأمم المتحدة بدعم ما يسمى استقلال شعب القبائل، على حد قول الجزائر، أمراً لا يمكن قبوله.
ومن المتوقع أن تُبقي الجزائر في المرحلة المقبلة التمثيل الدبلوماسي بينها وبين الرباط في أدنى مستوياته، مع احتمال إعادة فرض التأشيرة على المغاربة الراغبين في دخولها، كما ستبقى القنصليات في كل دولة مفتوحة، ولكن الإشكالية الأهم، التي تخص الجزائر في الإجراءات التي ستتخذها بشأن أنبوب الغاز الذي يربط حقول الجزائر بأوروبا مروراً بالمغرب، الذي ينتهي الاتفاق بشأنه في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. فهل ستتضرر المصالح الاقتصادية أيضاً في ظل الواقع السياسي الجديد؟ وفي ظل الاعتبارات والمعايير الدولية مع العلم بأن المغرب حريص على الاستمرار في العمل على خط تصدير الغاز، وهو ما أكدته تصريحات رسمية، وجاءت على لسان أمينة بنخضرة، المديرة العامة للمكتب الوطني للهيدروكاربورات.
مع اكتفاء الأمين العام للجامعة العربية بإبداء الأسف حيال قطع العلاقات بين الجزائر والمغرب، ودعوة الطرفين إلى ضبط النفس وتجنب التصعيد سيظل السؤال هل ستتدخل السعودية، ولاعتبارات عدة ودورها التاريخي المشهود له بالنجاح، في ممارسة دور الوسيط المقبول منعاً لاستمرار المشهد الراهن؟ خصوصاً أن الأمر يتجاوز الأزمة، ويدخل في دائرة توتر الأجواء إلى مرحلة قطع العلاقات أم ستتدخل دول أخرى ومنها مصر، التي لعب رئيسها الراحل حسني مبارك عندما كان نائباً، وبتكليف من الرئيس الأسبق السادات دوراً في تقريب وجهات النظر في ظل خصوصية العلاقات الجزائرية المصرية، ولإعلان الجزائر عن قرب الإعلان عن مبادرة في ملف السد الإثيوبي من داخل الاتحاد الأفريقي؟
لا شك أن الأمر هنا مرتبط فعلياً بالجانب المغربي، إذ تبدو العلاقات المصرية المغربية في وضع متجمد، ولا توجد اتصالات حقيقية تدفع بقيام القاهرة بدور وسيط تفاعلي، وإن كان يمكن لها دفع الأمين العام للقيام بدور عاجل حال توافر الرغبة من قبل الجزائر بالأساس للقيام بهذا الدور، إذ هناك قبول مغربي بإمكانية قيام أي وسيط عربي في هذا الإطار. في الأقل للإبقاء على الوضع الراهن في مسار العلاقات، وعدم الوصول إلى الخيارات الصفرية الكاملة.
الخلاصات الأخيرة
مع دخول إسرائيل على خط العلاقات مع المغرب، ومع تحول المركز السياسي لجبهة البوليساريو إلى واقع سياسي وقانوني مدعوم أميركياً ومغربياً، وتشكك الجانب الجزائري فيما يجري، بل ورفضه والتعامل معه بجدية وبخيارات تصاعدية سيكون من الصعب التوصل إلى نقطة التقاء حقيقي ومباشر في مجرى العلاقات الجزائرية المغربية، التي ستُلقي بفشل جديد ومكرر للجامعة العربية وأمينها العام، ما لم يتحرك على وجه السرعة في ظل تنامي تيار حقيقي في الشرق الأوسط بالعمل على بناء نظام إقليمي جديد، بعد إبرام إسرائيل سلسلة الاتفاقات مع بعض الدول العربية. وبالتالي فإن تفكيك الأزمة الراهنة بين الجزائر والمغرب سيتطلب طرفاً عربياً وسيطاً تتوافر فيه شروط محددة للعمل على رأب الصدع الراهن فيما يجري، خصوصاً أن المنطقة المغاربية بأكملها تموج بتطورات دراماتيكية حقيقية، فمن حالة ليبيا الشرقية والغربية إلى الوضع غير المستقر سياسياً واقتصادياً في تونس، إلى توتر الأوضاع في الجزائر. إضافة إلى دخول أطراف مثل إسرائيل وإيران وتركيا على خط الداخل المغاربي، كل هذا سيربك المشهد السياسي المرتبط أصلاً في التعامل مع ما يجري ويسعى لبناء تحالفات ثنائية ومتعددة، وفي ظل وجود تربص إسرائيلي مستمر بالمنطقة المغاربية بأكملها لتأمين حضورها المستجد في أفريقيا، وبعد أن أصبحت عضواً مراقباً في الاتحاد المغربي.
المصدر: اندبندنت عربية